طوفان الأقصى
أسرانا وأسراهم: وضوح المشهد يختصر السرديّة الأخلاقية
ليلى عماشا
كما للمعارك في البال صور لا تُمحى، كذلك للهدنة. وإن كانت مشاهد عودة الأسرى المحرّرين إلى حضن بيوتهم وعائلاتهم تملأ القلب عزًّا، فإن آثار ما جرى عليهم خلال سنين الأسر تدميه.. سواء كانت هذه الآثار جسدية أو نفسية، هي تدلّ على وحشية العدو وعدم احترامه المعروف لأي حقّ إنساني، ولأي منظومة أخلاقية.
في المقابل، صور ومشاهد الأسرى الصهاينة لدى المقاومة، تستوقف المُشاهد طويلًا. وهنا لا نستغرب مثلًا الصحّة الجسدية والنفسية الظاهرة على أسرى صهاينة كانوا لدى المقاومة الفلسطينية منذ السابع من أوكتوبر، فمن البديهيّ أن لا يُرى مثلًا أي أثر للتعذيب: المقاومة لا تعذّب أسراها ولا تتعرّض لهم بأي اعتداء رغم ما ارتكب كيانهم من مجازر تتجاوز المعقول بكلّ المعايير. لكنّ أن يكونوا على قدر من الراحة والأمان بحيث كانوا يودّعون بنظراتهم الجهة التي أسرتهم، وكأنّهم كانوا ضيوفًا حقيقيين، فهذا كان لافتًا.
في الواقع، المقاومة ليست بحاجة إلى إثبات أخلاقياتها العالية في المعارك أمام أحد، وليست ملزمة بتقديم أدلّة على التزامها العالي بالمعايير الإسلامية الصارمة بخصوص معاملة الأسرى، لكنّ مشهد تسليم الأسرى الصهاينة بكلّ ما حوى من انطباعات حول وضعهم، دمّر حرفيًّا كلّ مساعي الغرب إلى تصوير المقاومة وأهلها كجماعات إرهابية تمارس العنف بشكل عبثيّ.
تعرّضت غزّة خلال ثمانية وأربعين يومًا إلى إبادة جماعية، إلى إرهاب تواصل على مرّ الساعات ولم يستثنِ أحدًا. وكانت تمتلك خيار الانتقام من الأسرى الموجودين لديها على الأقل كمحاولة لردع العدو عن ارتكاب المجازر، وكانت تمتلك كذلك خيار استخدامهم كدروع بشرية سواء في المعارك البريّة أو حتى في صدّ اقتحام مستشفى الشفاء، ولا شكّ أنّها كانت تستطيع تنفيذ إعدام البعض منهم على الهواء مباشرة وابتزاز العالم كلّه بهم.. لكنّها لم تفعل. لم يأخذها الغضب لحظة واحدة إلى أيّ خيار غير محسوب. ولعل الصهاينة تمنّوا في لحظة أن تذهب المقاومة إلى التنكيل بالأسرى لديها، كي يتمكّنوا من إثبات ادعاءاتهم حولها، هذه الادعاءات التي جعلتهم يلجأون إلى الكذب الغبيّ وصناعة الاتهامات التي سرعان ما تنكشف حقيقتها: من التسويق لشريط مصوّر، بطلته ناشطة "إسرائيلية" تدّعي أنّها ممرّضة في مستشفى الشفاء وأن المقاومة سلبت من المستشفى الماء والدواء، وتحوّلت إلى أضحوكة بسبب ركاكة السيناريو والثغرات العديدة التي تكشف زيفه، إلى عرض صور لجثامين أطفال فلسطينيين والقول بأنهم "إسرائيليون" ذبحتهم المقاومة وهي الرواية التي اعتمدها الكثيرون في الغرب رغم انكشافها عاجلًا واتضاح حقيقتها، وصولًا إلى فيديو العثور على أسلحة في "الشفاء" والذي اتضّح أنّها من صناديق نقلها الجنود الصهاينة إلى المشفى ثمّ عمدوا إلى تصويرها، وكذلك الثغرات الهائلة في فيديو نفق مستشفى الرنتيسي والتي تضمنّت على سبيل المثال العثور على رزنامة دوام الموظفين!
مقابل كلّ هذا الزيف والذي بقي معتمدًا لدى الكثير من المحلّلين حول العالم وحتى في لبنان، كان مشهد تلويح "الأسرى الصهاينة" لرجال المقاومة وهم يسلمونهم إلى الصليب الأحمر الدولي كفيلًا بكشف سيل الأكاذيب وفضح المتمسكين بها.
بين مشهد أسرانا العائدين محرّرين بالدم وبالقتال، والظاهرة على وجوههم حكايات سنين من التعذيب والتنكيل والحرمان من أبسط الحقوق الإنسانية، ومشهد أسراهم المغادرين وكأنّهم كانوا ضيوفًا، ما أخافهم سوى طائرات كيانهم وهي تقصف دون اعتبار ليس فقط للأطفال بل دون اعتبار أيضًا لاحتمالية وجودهم في أماكن القصف، مساحة تنمو فيها أخلاق أهل الحق، وحكمة أهل الحقّ، وسموّ أهل الحق. مساحة لا يمكن للصهيوني فهمها، ولا يمكن لأدواته إجادة تقديرها.