طوفان الأقصى
اقتحام "الشفاء".. إنجازٌ صهيونيّ!
ليلى عماشا
"الشفاء"، حفظنا الاسم جيّدًا. منذ بداية العدوان، يحوم إعلام الصهاينة حول "الشفاء"، بكلّ اللغات: محلّل سياسيّ على "العربية" منذ أيام، متسمّر أمام شاشة تعرض خريطة لغزّة، يشير بيده إلى منطقة مستشفى الشفاء ويقول بحماسة بالغة تفوح منها خيانة ملقّنة: "هذه المنطقة هي مركز القيادة الأساسي، تُعدّ نبض قيادة حركة حماس" ونبضها. آخر على قناة MTV ": "المرحلة القادمة هي مرحلة تقطيع غزّة والاستعلام عن البنى التحتيّة البشريّة والعسكريّة لحماس، ويقال بحسب المعلومات أن مركز الشفاء هو هدف أساسي". ...!
مثلهما كُثُر نطقوا بالعربية ما تمّ تلقينهم إيّاه يالعبري، فالصهاينة وإعلامهم حرصوا منذ البداية على التسويق لادعاءاتهم الكاذبة أن المستشفيات، ولا سيّما مستشفى "الشفاء"، هي مراكز عمليات للمقاومة، وتاليًا يريدون تصوير اعتداءاتهم الوحشية على المستشفيات وكأنّها حالات استهداف للمقاومة تكلّل بالنصر!
ببساطة، يعرف الصهاينة أنّ المقاومة لن تخاطر بالمدنيين، ولن تحوّل مراكز وجود النازحين والجرحى والمرضى إلى ميدان قتال، ما يجعل هذه المراكز أهدافًا سهلة بالنسبة إلى الصهاينة، وتحقّق لهم انتصارات يوهمون بها جمهورهم. بكلام آخر، كرّر الصهيوني والناطقون باسمه، منذ مدة، أن "الشفاء" مركز عسكري، ثمّ اقتحمه وسيطر عليه، فرسّخ في الأذهان أكذوبة تقول ‘نّه تمكّن من اقتحام مركز عسكري وسيطر عليه!
" الشفاء" كما غيره من مستشفيات غزّة يستقبل، بالإضافة إلى مرضاها والجرحى وجثامين الشهداء، عددًا هائلًا من النازحين، وكونها المجمّع الطبي الأكبر في القطاع المحاصر، فمن الطبيعي أن تكون أعداد الجرحى والنازحين فيها أكثر منها في أيّ مكان آخر.
مَن في"الشفاء"؟ من همّ الذين تمكّن "الجيش الإسرائيلي" من اقتحامهم، ليل أمس، بعد عشرات الليالي من القصف في محيطهم المباشر وبعد عشرات الأحزمة النارية حولهم؟
في "الشفاء"، يمكث الجرحى المنتشلون من تحت أنقاض البيوت المدمّرة.. الجرحى الذين أُجريت لهم عمليات البتر، كما سائر العمليات الجراحية من دون تخدير.. في "الشفاء"، على طاولة مستطيلة، يصطفُّ جمعٌ من الخدّج بلا غذاء ولا دواء ولا أوكسيجين ولا كهرباء، ومنهم، بلا أمّهات! وفي الشفاء، أطفالٌ فقدوا عائلاتهم كاملة، ومنهم من لم يُعرف من هو، ينتظر هناك أن يتعرّف أحدٌ عليه.. في "الشفاء"، سيّدات أُجريت لهنّ العمليات القيصرية من دون "بنج"، يتمدّدن خائرات القوى في أروقة المستشفى المعتمة بعد أن نفذ الوقود.. وفي "الشفاء"، جثامين لمّا يحن دورها بالدفن في المقابر الجماعية بعد.. تنتظر إكرامها في حضن التراب.. في "الشفاء"، أيضًا، طواقم طبية تقاتل الموت بالقلب الحيّ، أطباء ومسعفون وممرّضون لا يجدون وقتًا للبكاء وهم يستقبلون الجرحى والجثامين، حتى تلك التي تعود لأحبّتهم.. يعملون بصفر معدّات، يناضلون من أجل الحفاظ على الحياة بمواجهة عدو قذر وعالم متواطىء.. يناشدون المنظمات الطبية بالتعجّل، فلا وقت لديهم حتى لمناشدات طويلة.. أولويّتهم هي ألّا يُستشهد من وصل إلى المستشفى حيًّا، يفعلون كلّ ما بوسعهم، كلّه، حتى آخر وسعهم.. يعملون تحت ضغط لا يمكن لأي أحد تخيّله، وتحت التهديد المستمرّ بالقصف! وفي "الشفاء"، نازحون ظنّوا أنّه مهما بلغت وحشية العدو، فهو لن يقوم بقصف أو اقتحام مستشفى أقلّه على أساس أن ذلك قد يُغضب العالم "الغربي"!
هؤلاء هم الذين اقتحمهم بالأمس الصهاينة، وهؤلاء هم من قصفهم الصهيوني في مستشفى "المعمداني".. وهؤلاء هم من يروّعهم في كل مشافي غزّة، في كلّ يوم، بعد أن وجد أن المشافي هي مكان لا يمكن للمقاومة أن تحوّله إلى ميدان تلقّنه فيه الهزيمة وتكشف فيه جبنه ووهنه. فلم يُسجّل تاريخ مقاومتنا مرّة واحدة اتخذ فيها المدنيون دروعًا بشرية أو سواترَ في ميدان قتالي. يعرف الصهاينة ذلك جيّدًا، ولذلك ما عادوا يملكون سوى الاستقواء في المستشفيات.
هل حقًّا بحث، بالأمس، جنود الإحتلال عن مقاومين في أقسام "الشفاء وأروقته"؟ إن فعل، فهي مسرحية استعراضية ركيكة، فلو كان لدى الجنود أدنى شك بوجود مقاتل واحد داخل المستشفى، لبكوا عند بابها ولادّعوا الجنون أو حاولوا الانتحار خوفًا من المواجهة، وهذا ما فعلوه في كلّ مرّة أرسلتهم فيها قيادتهم إلى الميدان، حيث تشير تقارير، في الإعلام الإسرئيلي، عن حالات انهيار نفسي في صفوف الجنود حين يُبلّغون بوجوب التحاقهم في ميدان المواجهة! حتى أولئك الذين يذهبون إلى "العملية البرية" واثقين، يذهبون بذهنية تحصّنهم داخل مركباتهم المصفّحة. ومن يتجرّأ منهم على مغادرتها، طوعًا أو مأمورًا، لا يعود، وإن عاد فمحمّلًا على متن طائرة تجليه من المكان، أو مصابًا بنوبات رعب وهلوسات نتيجة الفزع أو مبتهجًا كمن نجا من موت محتوم! دخل الجنود الشفاء، بثقة، ليس لشيء سوى أنّهم يعرفون أن لا قتال هنا، ولا مواجهات!
"الشفاء" اليوم هي عنوان هزيمتهم، دليلها الأنقى.. إعلانهم عن وهنهم المتوّحش، ولأكاذيبهم البربرية..
يقولون، اليوم، "لمجتمعهم" المصاب في مقتل غروره: "ها قد أنجزنا اقتحام مركز عسكري والسيطرة عليه"، ويدفعون بأدواتهم لتكرار العبارة ببغائية غبية، ولهم نقول فعلًا، لقد نجح جيشكم المتفوّق في اقتحام العزّل، في المكان الذي لن تقوم المقاومة بقتلكم فيه، حرصًا على أهلها.. إنجازكم سيكتبه التاريخ، وسيُتخَذ مثالًا في كلّ مرّة سيُحكى فيها عن جبن الجيوش!