طوفان الأقصى
تكامل أضلاع المثلث المقاوم
د. حسن أحمد حسن(*)
ستة وثلاثون يوماً وغزة الصامدة الأبية تواجه أقذر عدوان وحشي إسرائيلي استهدف الحجر والبشر وكل مقومات الحياة ومظاهرها في غزة العزة... ستة وثلاثون يوماً وغزة تباد على مرأى من العالم ومسمع، وهيهات هيهات لمن صمت على جرائم العدو الفاشي الصهيوني على امتداد خمس وسبعين سنة من الظلم المطبق على كل فلسطين أن يتحرك فيه ناموس الإنسانية.. وهيهات هيهات لمن صافح القتلة المجرمين وارتبط بهم بعلاقات واتفاقيات وتواصل سري أو علني أن ينبس ببنت شفة أمام هول الجرائم المرتكبة وفظائع القتل المتعمد وحرب الإبادة المباركة برعاية أمريكية تسعى إدارتها الحالية لاستحضار تجربة إبادة الهنود الحمر على أيدي الغزاة الذين احتلوا تلك البلاد وأقاموا امبراطوريتهم الإجرامية على جماجم السكان الأصليين.
ستة وثلاثون يوماً والمقاوم الفلسطيني يؤكد أنه أسطورة القرن الحادي والعشرين... ستة وثلاثون يوماً ولحم أطفال فلسطين يكسر سيف السفاح الصهيوني، ويؤكد للعالم برمته أن تعفير أنوف جنرالات الكيان الغاصب وجباه زعاماته العفنة بأوحال الهزيمة والفضيحة والخذلان، وليس باستطاعة جيش هذا الكيان إخفاء الذلة والهزيمة بقصف دور السكن والمساجد والكنائس والمستشفيات، وأن هيبة الجيش المنفوخ تيهاً وعنجهية لا يمكن استردادها بحرب إبادة أطلقت العنان لآلة القتل والتدمير بعد أن ضمنت مصادرة إرادة المجتمع الدولي بالعصا الغليظة الأمريكية قبل أن تزداد هشاشتها أكثر فأكثر... سنة وثلاثون يوما وشعب الجبارين في فلسطين يضيف إلى معجزة ما أنجزه المزيد من البأس والإرادة ورفض الذلة والخنوع والاستسلام.
بعد ستة وثلاثين يوما اجتمع القادة والزعماء في قمة عربية إسلامية مشتركة في الرياض لنصرة غزة الذبيحة والرافضة أن تساوم على كرامة وإباء رغم السيل الجارف من دماء زكية لأكثر من أحد عشر ألف شهيد، منهم أكثر من 70% من الأطفال والنساء والعجائز... نعم لقد عقدت قمة مشتركة لتجمع دول يبلغ عددها /57/ دولة، لكن الصفة الرئيسة للبيان الختامي الصادر يغلب عليها طابع المطالبة والدعوة إلى كذا وكذا، وللإنصاف تضمنت المقدمة إدانة علنية وواضحة لجرائم الاحتلال الإسرائيلي، وصدور مثل هذا البيان بهذه اللغة بعد كل ما تم ارتكابه من مجازر وجرائم يترك غصة مؤلمة لا يخفف من وقعها إلا تكامل أضلاع مثلث المقاومة، والمواقف المشرفة التي أعلنها بوضوح وشفافية السيد الرئيس بشار الأسد والسيد الرئيس إبراهيم رئيسي، وجاءت كلمة سماحة السيد نصر الله بمناسبة يوم الشهيد بالتزامن مع انعقاد القمة لتؤكد أن نهج المقاومة أقوى من كل أساطيل القتل والبطش والترهيب والإبادة، وَلَكَمْ كان ارتياحي الداخلي كالكثيرين غيري من المتابعين ألا تبدأ كلمة سماحة السيد حسن نصر الله إلا بعد إلقاء الرئيس الأسد والرئيس الإيراني كلمتيهما قبل أن يحين موعد إطلالة سماحة سيد المقاومة حفظه الله، وأستطيع ان أجزم أن ٩٥٪ من المتابعين إن لم يكن اكثر تابعوا كلمة سماحة السيد وليس الكلمات التي كانت تلقى في قمة الرياض، فالعدو والصديق والمؤالف والمخالف والمحايد والمهتم وغير ذلك من التصنيفات التي يجمع بينها الحرص على متابعة ما سيقوله سماحة السيد، وربطه بما تضمنته كلمتا الرئيس السوري والرئيس الإيراني، لأن الاهتمام داخليا وإقليميا ودوليا مركز على مواقف أطراف محور المقاومة وليس على مواقف أخرى من المسلم أنها لن تقدم أجوبة، ولن تغير من اللوحة التي تسعى تل أبيب وكل من يدعمها لفرضها، ويفشلون في ذلك لسبب جوهري وواضح وهو أن أقطاب محور المقاومة يقفون في الجهة الأخرى المقابلة والرافضة لكل أشكال الغطرسة والهيمنة ومحاولات استلاب الإرادة، ومن المهم التوقف عند بعض ما جاء في كلمات السادة القادة الذين يجسدون بمواقفهم المشرفة تكامل أضلاع المثلث المقاوم، وتجدر الإشارة هنا إلى ما تتضمنه من الدلالات الغنية والمعبرة، ومنها:
• حضور الرئيس الإيراني السيد إبراهيم رئيسي بالكوفية الفلسطينية، وهذه رسالة لكل من يبحث عن بوصلة فلسطين، فالكوفية الفلسطينية على كتفي سيادة الرئيس رئيسي تقول لكل المرجفين: غزة ليست وحيدة، وفلسطين كانت وتبقى ملء السمع والبصر والفؤاد، وهي أمانة في عنق خير من يصونون الامانة، ويعلون راية الإسلام، ولا يخشون في قول كلمة الحق لومة لائم.. كأن تلك الكوفية الفلسطينية تقول للعالم أجمع: إنها مشدودة الأزر برجال يعرفون كيف يصونون العهد ويوفون بالوعد، ولا يريدون مقابل ذلك جزاء ولا شكوراً.
• كلمات السيد رئيسي جاءت كالسيف الصارم قاطعة مانعة، فالمطلوب أولا وقف المجازر والهجمات الإسرائيلية الوحشية فورا، وثانيا رفع الحصار كاملا عن غزة، وفتح معبر رفح دون قيد أو شرط، وإدخال الأدوية والغذاء ومتطلبات الحياة، وثالثا خروج قوات الاحتلال الإسرائيلي من غزة، وقطع الدول الإسلامية لكل علاقة مع الكيان الغاصب، ثم تصنيف جيش الكيان الصهيوني منظمة إرهابية، وعقد محكمة دولية لمحاكمة هذا الكيان المجرم.
• ذروة البلاغة كانت عندما وصف الكيان المؤقت بأنه فرعون الزمان، وكيف انتصر الدم الفلسطيني على السيف الصهيوني، وضرورة العمل لإقامة الدولة الفلسطينية على كامل الاراضي المحتلة من البحر إلى النهر، فاليوم يوم اتخاذ القرار نصرة لفلسطين ودفاعا عن الأقصى، وما كان لذاك الكيان المسخ ان يستمر في جرائمه النكراء إلا بمباركة أمريكا فمنها كل الشرور.
• كل ما قاله السيد رئيسي كان واضحاً بيناً صارماً لا يحتمل التأويل، وعلى أصحاب الرؤوس الحامية ان يتوقفوا عند كل كلمة بكثير من الإحساس بالمسؤولية قبل أن يفوت الاوان.
• الموجة التالية من تسونامي المقاومة المقتدرة الحكيمة بكل قول وسلوك جاءت عبر كلمة السيد الرئيس بشار الأسد الذي أعاد تصويب البوصلة، فغزة ليست القضية، ولم تكن القضية يوماً، وإنما فلسطين، (وغزة تجسيد لجوهرها وتعبير صارخ عن معاناة شعبها، والحديث عنها بشكل منفرد يضيع البوصلة، فهي جزء من كل، وهي محطة في سياق، والعدوان الأخير عليها هو مجرد حدث في سياق طويل يعود إلى خمسة وسبعين عاماً من الإجرام الصهيوني).
• الصفعة الثانية التي آلمت جداُ من يتابع من أعداء العروبة والإسلام والإنسانية كانت صادمة وصاعقة عندما قرن الرئيس الأسد سياق ما يجري في غزة (مع اثنين وثلاثين عاماً من سلام فاشل، نتيجته الوحيدة المطلقة غير القابلة للنقض أو التفنيد هي أن الكيان ازداد عدوانية والوضع الفلسطيني ازداد ظلماً وقهراً وبؤساً).
• قبل أن يستفيق من هول الصفعة السابقة الكثير من المترفين بالاستظلال بفيء الشجرة الصهيونية الخبيثة ممن يتابعون وقائع القمة عبر الشاشات أتتهم الصفعة الأشد التي تظهر حقيقة السراب الذي جروا خلفه، وما يزال يهرول باتجاهه من أمنوا غدر الذئاب المتوحشة، ومنّوا النفس بأن مهادنة المحتل قد تدفعه لإعادة بعض ما اغتصبه من أرض وحقوق، إلا أن الوقائع تقول: إن مسيرة السلام الخادع مزيداً من شراسة الوحوش المفترسة (فلا الأرض عادت ولا الحق رجع لا في فلسطين ولا في الجولان، هذه الحالة أنتجت معادلة سياسية مفادها بأن المزيد من الوداعة العربية معهم تساوي المزيد من الشراسة الصهيونية تجاهنا، وأن المزيد من اليد الممدودة من قبلنا تعادل المزيد من المجازر بحقنا).
• فهم حقيقة العدوان على غزة مشروط بوضعه في سياقها الفعلي المتخم بالمجازر الصهيونية المستمرة بحق الفلسطينيين سابقاً وحالياً، وستستمر مستقبلاً ما لم نغير منهجية التعامل مع العدوان المزمن والمتكرر، (وإن استمرارنا في التعامل مع العدوان على غزة اليوم بنفس المنهجية يعني تمهيد الطريق من قبلنا لإكمال المذابح حتى إفناء الشعب وموت القضية).
• الطارئ الذي دعا لعقد هذه القمة ليس العدوان ولا القتل، فكلاهما مسيرة مستمرة، وإنما الطارئ الفعلي هو تفوق الصهيونية على نفسها بالهمجية، وهذا يرتب مسؤوليات عدة على الجميع، والسؤال الأهم الذي يتطلب إجابة واضحة وشفافة هو: ما الذي يحتل المرتبة الأولى في سلم الاحتياجات الفلسطينية؟ هل هو تقديم المعونات أولاً، أم الحماية من الإبادة التي قد تلجأ إليها تل أبيب في أي وقت؟ ولم يكتف الرئيس الأسد بهذا التشخيص الدقيق والموضوعي بل ذهب إلى أبعد من ذلك عندما أوضح: (إن لم نمتلك أدوات حقيقية للضغط فلا معنى لأي خطوة نقوم بها أو خطاب نلقيه، والحد الأدنى الذي نمتلكه هو الأدوات السياسية الفعلية لا البيانية، وفي مقدمتها إيقاف أي مسار سياسي مع الكيان الصهيوني بكل ما يشمله المسار السياسي من عناوين اقتصادية أو غيرها لتكون عودته مشروطة بالتزام الكيان بالوقف الفوري المديد لا المؤقت للإجرام بحق كل الفلسطينيين في كل فلسطين...).
• ولأولئك المنشغلين بالحديث عن السلام والحلول الممكنة التي يتم تداولها بما في ذلك حل الدولتين الذي يراد تسويقه اليوم لتخدير المنتفضين في سبيل الكرامة، ولتمرير هذه الموجة الجديدة من العدوان غير المسبوق، فعلى الرغم من أهمية السلام والحل الممكن وموضوع الدولة الفلسطينية الموعودة إلا أنه اليوم ليس أولوية في هذه اللحظة الطارئة لأن (الحديث فيها وعنها لن يثمر ولن يجدي، لأنه لا وجود لشريك ولا لراع ولا لمرجعية، ولا لقانون، ولأنه لا يمكن استعادة حق، والمجرم أصبح قاضياً، واللص حكماً وهذا هو حال الغرب اليوم).
• الضلع الثالثة في مثلث الصمود والمقاومة والانتصار رسمتها بإبداع قل نظيرة سبابة سماحة السيد حسن نصر الله التي كان يلوح بها من وقت لآخر في إطلالته النوعية التي منحت الزخم والطاقة لكل عشاق نهج المقاومة، فالحديث عن القادم محكوم بالميدان، والميدان هو الذي يلزم جميع القوى على التعامل مع تداعياته، وهنا يزيد الغموض البناء الذي يقذف الرعب في قلوب المعتدين وكلاء وأصلاء وتابعين.
• اختيار الحادي عشر من تشرين الثاني يوما للشهيد تحتفل به المقاومة يحمل الكثير من المعاني والدلالات، وعلى حكام تل أبيب وجنرالاتها ألا ينسوا يوم تم تفجير مقر الحاكم العسكري في صور وتناثر أشلاء الضباط والجنود المحتلين، وإرغامهم على الخروج صاغرين، وعلى من أحضر البوارج وحاملات الطائرات أن يضع ذلك في حسبانه.
• اليقين بحتمية النصر والثقة العالية بالنفس وبقدرات المقاومة بتوفيق رب العالمين كانت السمة الملازمة لإطلالة سماحة السيد طيلة فترة الخطاب، فللشهداء في مسيرة حزب الله مكانة خاصة، والجميع يشعر ببركاتهم وبالأمن والأمان والتحرير والحرية والشرف والحماية من خلال قوة الردع التي صنعوها، فهم (أهل الايمان بالله ورسله وأنبيائه وكتبه، وأهلهم صابرون وراضون بقضاء الله وقدره وهم يحفظون إنجازات أبنائهم، وأصبحوا شركاء بالدم في هذه المسيرة).
• تفصيل الدور المقاوم الخاص بكل طرف من أطراف محور المقاومة، والحديث المقنع والدقيق عن الجبهات المساندة، وفي مقدمتها جبهة الضفة الغربية التي تقلق العدو الإسرائيلي جداً، (وجبهة اليمن الذي اتخذت قيادته وشعبه قرارًا جريئًا وأرسلوا على دفعات الصواريخ والمسيّرات باتجاه الكيان الغاصب)، وإن تصدت لبعضها أميركا، ومع الأسف بعض الدول العربية، فالدور الذي يؤديه الأشقاء اليمنيون كبير ومشرف، وكذلك المقاومة العراقية التي ( تستهدف القواعد الأميركية في سورية والعراق دعمًا لغزة، وقد طرحت معادلة وقف العدوان على غزة حتى يتوقف استهداف قواعد الاحتلال)، وقد اعترف الأميركي حتى الأمس صباحًا اعترف بـ46 هجومٍ على قواعده في سورية والعراق وإصابة 56 جندي، وكل من تابع حديث سماحة السيد عن الدور الذي تضطلع به كل من سورية وإيران يدرك كم هو الإيمان راسخ بتكامل أدوار محور المقاومة التي يمثل حزب الله رأس حربتها وقوتها الضاربة في مواجهة العدو الإسرائيلي وداعميه.
• المقاومة عبر التاريخ تحتاج إلى سنوات من العمل ومراكمة التضحيات والإنجازات إلى أن يصبح العدو مرغماً على القبول بواقع الهزيمة وممارسة فعل الهزيمة، والوقت ليس لمصلحة العدو الذي يزداد تآكله الذاتي من الداخل، كما يزداد الوعي العام وتنبه العالم لوحشية هذا الكيان المتخبط، ولا أدل على ذلك من تناقض تصريحات نتنياهو ووزير حربه وبقية المسؤولين الإسرائيليين، وهذا دليل تشتت وتخبط وضياع، وواضح للجميع الفشل في إخضاع شعب غزة، إضافة التحول في الرأي العام العالمي، وفي موقف الدول، ناهيك عن الفشل العسكري الميداني، وهناك الخشية من انفتاح الجبهات بشكل أوسع، وضغط المهجرين في الداخل، إضافة إلى الضغط الاقتصادي والخسائر الاقتصادية الكبيرة المباشرة وغير المباشرة، وضغط عوائل الأسرى، وهذه الضغوط يجب أن تستمر وتتواصل.
مسك الختام كانت معاهدة الشهداء جميعا بالمضي في هذا الطريق (كمقاومة وبيئة وشعب وعوائل ومضحين، نحفظ أهدافهم.. نراكم إنجازاتهم لنصل إلى النصر النهائي، والنصر النهائي آتٍ آتٍ آتٍ آتٍ إن شاء الله...).