طوفان الأقصى
خونة العصر.. أبو رغال يحكم
أحمد فؤاد
"فلتسقط الخيانة
والقيادات الجبانة
ندّاغة الإهانة
كريهة الريحة
كريهة الصوت".
عبد الرحمن الأبنودي.
هناك شخصيات صنعت من حدث واحد، فقط لا غير، ذكرى مخلدة في الضمير والوجدان الجمعي لأمتها، بحيث فاقت في فعلها عند نقطة مركزية تمامًا ما لا يمكن أن ينسى أو أن يمر، وفور وقوع حادث جديد على الشاكلة ذاتها، فإن العقل يستعيد بسرعة ودون جهد صاحب السبق والريادة الأول.. وليس هناك محل للجدل بأن "أبو رغال" هو رمز الخيانة في الضمير العربي والإسلامي، وفي الحقيقة فإن إنسانًا عربيًا لم تمر حياته دون أن يسمع أو يقرأ هذا الاسم المشين.
القصة المعروفة، باختصار شديد، أن جيش أبرهة الحبشي الذي تقدم إلى مكة ليهدم الكعبة المشرفة، لم يكن يعلم الطريق، ولم يقبل الأدلّاء العرب ما بذله لهم أبرهة من مال أو وعود، حينها قفز أبو رغال ليقوم بالمهمة الملعونة، فشلت مهمة الحبشي كما هو معروف، ومات أبو رغال وكانت قبائل العرب القديمة تتوجه إلى قبره بعد الفراغ من مناسك الحج لترجمه، لكن الرجل خلد اسمه في التاريخ العربي باللعائن في كل عصر، والذكر مع كل خائن جديد.
إذا كان أصدق ما يقال عن فعل "المقاومة"، وحده ومجردًا، إنه أنبل فعل في التاريخ العربي المعاصر، وأن خيار المقاومة، اليوم، في فلسطين ولبنان وسورية والعراق واليمن، هو خيار أشرف الناس وأكرم الناس، فإن فعل هذه الحركة الواسعة وغير المسبوقة، قد خلق رد فعل، مضادًا له في الاتجاه، ويحاول أن يساويه في المقدار.. لخيانة "أبي رغال" أيضًا في عصرنا وأيامنا قصة تستحق أن تروى، وأن لا تتناساها الذاكرة العربية الضعيفة.
اليوم الخامس والعشرين للعدوان الوحشي الصهيوني على أهلنا في غزة، قد استدعى تدخلًا يمنيًا رسميًا، يرى المعركة ودماءها وتضحياتها العظام، ويعلن باللغة الوحيدة التي يفهمها العالم –القوة- فتح جبهة جديدة وكبيرة على العدو الصهيوني، الصواريخ الباليستية والطائرات المسيّرة قد بدأت تهطل على إيلات، وعلى ما بعد إيلات، بئر السبع، وهي واصلة إلى ما بعد ما يعد إيلات، حال استمرت الجرائم التي ترتكب يوميًا بحق العزّل من أبناء شعب فلسطين الأبي.
فور الإعلان الرسمي اليمني الجبار، تغيرت قواعد اللعبة في المنطقة كلها، الشجب وسحب السفراء وغيرها من الخطوات الدبلوماسية قد تكون نافعة "شعبيًا" للأنظمة حين يكون للكيان اليد العليا في المعارك، أما وقد انقلبت الآية، وبات الكيان في موقف الضعيف الخائف، فبحكم ارتباط وجود هذه الأنظمة وحياتها بإرادة "صهيو-أميركية"، قررت التدخل مباشرة، ليس للدفاع عن الكيان، بل للدفاع أولًا عن عروشها وحكمها.
سارع خونة القصور إلى محاولة جديدة، منحطة وسافلة لنجدة حليفهم الصهيوني المنهار، دولة ترفض رسالة التطمين اليمنية بأن هدف صواريخها ومسيراتها هو الكيان، وأخرى ترفض مرور أي شيء يستهدف الكيان من أراضيها أو أجوائها، وثالثة حسمت موقفها مبكرًا -جدًا- وهي تشارك في حصار غزة بكل الطرق الممكنة، ونظامها يستهدف مخلصًا المقاومة، ويشارك في دوريات جوية مع الكيان لحمايته.
هذه الأنباء كلها، ورغم أنها وردت إما في إعلام العدو، أو تقارير الصحف الغربية، إلا أنها تنطبق تمامًا على ما نعرفه من هذه الأنظمة، وعنها، وتتسق مع تجاربنا المريرة وخيباتنا الأليمة منهم. أحد ملوكهم سابقًا أبلغ جولدا مائير بموعد حرب تشرين، وآخر سبق أن أعلن بفخر عن نيته "التطبيع الكامل" مع كيان العدو، في سياق خطة كبيرة لتحويل "تل أبيب" إلى طرف كامل في الشرق الأوسط، مقابل دعم واشنطن له في تطلعه للجلوس على العرش. وآخر أضلاع مثلث الخيانة، فقدت معه عاصمته كل دور وكل ورقة وأي مستقبل، البلد العربي الكبير صار عاجزًا بشكل يستعصي على استيعاب هذا السقوط المروع كله، بداية من تفكيك شبكة الأنفاق الى قطع أنبوب الأكسجين عن 2.3 مليون إنسان عربي.
..
إذا كانت المعركة قائمة، فإن التثبيت والأمل مطلوبان، وبشدة، ويمكن أن تكون إجابة سؤال: كيف يمكن أن تحمي الأنظمة العربية الخائنة تل أبيب، أو تساعد الكيان في معركته عسكريًا؟ هي أفضل ما يقدم اليوم، ولأن هناك صفحات لم ترو في قصص الحروب العربية الصهيونية، فلعنا الآن في أشد الاحتياج لإعادة قراءتها وطرحها.
في ذروة اشتعال حرب الاستنزاف (1967-1970)، وبعد مجزرة "بحر البقر" الشهيرة اضطر الزعيم المصري جمال عبد الناصر للسفر إلى موسكو، وعقد اجتماع مع الزعيم السوفييتي ليونيد بريجنيف، وهو الأهم في تاريخ العلاقات العربية السوفييتية لطلب طرازات جديدة من الصواريخ أرض-جو تكبح غارات العدو على المدن المصرية، وتوقف نزيف الدم، ووحدات من القوات السوفييتية تشغلها إلى أن يتم تدريب الضباط المصريين عليها، لأن أهداف غارات العدو كما تعلمها من أسياده وتجربتهم في الحرب العالمية الثانية لم تكن تهدف للقتل، بل للقتل الواسع والعشوائي، وفي ظروف ما بعد النكسة، والشرخ بين الناس وبين القيادة والجيش قائم، كان لا بد من وقفها بأي ثمن.
في النهاية، وطبقًا لما ذكره الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل، وقد حضر اللقاء، ونشره في الفصل الثاني من كتاب "أكتوبر 1973.. السلاح والسياسة"، فقد بذل عبد الناصر كل ضغط ممكن على السوفييت، حتى وصل إلى التلويح بالاستقالة، ليختار الناس رئيسًا جديدًا يستسلم هو للأمريكان، ويقبلون هم الاستسلام منه، ومع خطر فقدان مركزهم في مصر وافق الروس بعد عناء على إرسال وحدات دفاع جوي (بطاريات صواريخ ورادارات بأطقمها المشغلة) وقوات جوية (طائرات بطياريها) للدفاع عن العمق المصري، ومنذ نهاية أبريل 1970 تمركز السوفييت في 4 قواعد هي (المنصورة- نجع حمادي- غرب القاهرة- أسوان)، وتكفلوا بمهمتهم على خير وجه، بحماية سماء البلاد كاملة، وتركت القوات المصرية تحمي شريطًا ضيقًا من الأرض (180 كم طولًا و10-15 كيلو متر عرضًا)، وهي منطقة حافة الضفة الغربية لقناة السويس، ما سيصبح فيما بعد مشهورًا باسم أكثر وقاحة "حائط الصواريخ".
لم تقف القصة عند هذا الحد المهين، في يوم 14 أكتوبر، وعقب نجاح الصهاينة في اختراق الجبهة المصرية كلها، والعبور العكسي لقناة السويس، وتطويق الجيش الثالث بكامله، فقد تكفلت الدبابات أولًا بتدمير الوحدات الثابتة للصواريخ والرادارات المصرية، ليندفع بعدها سلاح الجو للعمل بحرية كاملة فوق الجبهة، وينتهي هذا الحائط الخرافي، بعد 8 أيام قتال، لا أكثر!