طوفان الأقصى
أمريكا وماكينة إنتاج "الأوهام الاستراتيجية"
إيهاب شوقي
تتعدد التحليلات حول "طوفان الأقصى"، وتمتلئ وسائل الإعلام بتوقعات عديدة في محاولة لاستباق النتائج ووضع تصورات مستقبلية، ومعظم هذه التحليلات نراها دون مجازفة تدور في حلقة مفرغة من الأخطاء للأسباب التالية:
أولا: أن معظمها يفترض أن الحرب الدائرة هي حرب بين فصائل المقاومة الفلسطينية بقيادة "حماس" والعدو الإسرائيلي برعاية ودعم أمريكي.
وهو تصور مبتور لأن الحرب الدائرة هي مواجهة كبيرة بين المشروع الاستعماري الغربي بقيادة أمريكا برأس حربة صهيوني يمثله الكيان الوظيفي الإسرائيلي، وبين محور المقاومة وإن كان الدور الميداني الأبرز في هذه المرحلة تقوده غزة و"حماس" وفصائل المقاومة.
ثانيا: تفترض هذه التحليلات أن الصراع الدائر مجرد مواجهة عسكرية وحرب تكسير عظام وتوازن قوى.
بينما جوهر الأمر هو أنها حرب إرادة ممتدة منذ زمن بعيد وقد تنوعت بين العزلة والحصار والدعايات والفتن والجولات العسكرية، وتجلت بعد يأس العدو من كسر إرادة المقاومة في هذا المشهد الرهيب من جرائم الحرب والقتل دون إنجاز كمحاولة لتصفية المقاومين والشعب الذي يؤمن بخيار المقاومة ويرفض المذلة واليأس والتهجير.
ثالثا: تقوم معظم هذه التحليلات على فرضيات أمريكية وصهيونية متفائلة بأن هناك مرحلة لاحقة تستطيع أمريكا إدارتها بالتوافق مع الأنظمة لترتيبات ما بعد الجولة، وبالتالي القياس على جولات سابقة.
في حين أن هذه الجولة لا تتشابه مع الجولات السابقة، حيث لا توجد مقدمات متشابهة تؤدي إلى نتائج متشابهة.
فهذه الجولة جاءت كجولة مفصلية لا تتشابه مع الجولات السابقة على مستوى محدودية الأهداف وفقا للمرحلة، وعلى مستوى الظرفين الإقليمي والدولي.
فقد كانت الأهداف السابقة جزئية لتثبيت قواعد اشتباك أو لردع العدو عن مزيد من الانتهاكات وصولا لأهداف أعلى في الميزان الاستراتيجي مثل الربط بين غزة والضفة والقدس ثم وحدة الساحات، بينما الهدف هذه المرة أعلى وأكبر وهو مواجهة خطة التصفية الكاملة للقضية بتهويد القدس وابتلاعها وإقامة علاقات طبيعية مع النظام الرسمي العربي وعزل المقاومة وحصارها تمهيدا لتصفيتها، وهو حلم بيريز والشرق الأوسط الجديد والذي يبدو أن امريكا والصهاينة لم ييأسوا من تنفيذه رغم اجهاضه في حرب تموز في العام 2006.
وهنا قد تكون هذه الجولة إذا ما أريد لها القياس، فإن أقرب قياس لها هو حرب تموز، رغم الاختلافات أيضا، حيث يقود المحور المعركة حاليا بنوع من التنسيق وتوزيع الأدوار، وهو ما لم يكن اكتمل بعد في حرب تموز ولم يتوفر للمقاومة في لبنان وقتها، بل كان اكتمال المحور نتاجا لانتصار تموز وليس سابقا لها.
هنا لن تترك غزة منفردة فقد أتاها المدد من اليمن ولبنان وسوريا والعراق وإيران بمختلف مستويات الدعم السياسي والعسكري.
والاختلافات أيضا عن أي جولة سابقة، هو أن العدو أعلن الحرب رسميا مع المقاومة وليس مع الجيوش، وأعلن هدفا كبيرا وهو سحق المقاومة وتصفيتها وليس مجرد تعزيز الردع كما في الجولات السابقة، وبالتالي فقد وضع معركة صفرية ووضع نفسه في مأزق كبير، حيث أي نهاية لهذه الجولة تسفر عن استمرار المقاومة، فهي هزيمة وفشل له، ووضع المحور كله في حالة استنفار لأنه لن يسمح بتصفية طرف أصيل به وهو المقاومة الفلسطينية.
وبالتالي فإن كل الأوهام الأمريكية والتي كشفت عنها مراكز الأبحاث ووسائل الإعلام الغربية، بترتيبات لما بعد "حماس" بإشراك قوات متعددة الجنسيات ومنها قوات عربية وتحديدا سعودية، وإشراك دول عربية في إدارة القطاع مع سلطة فلسطينية متعاونة، كلها توضع تحت بند "الأوهام الاستراتيجية"، لأن المقاومة في غزة صامدة وسقوط نتنياهو وعصابته أقرب بكثير من مجرد اهتزازها وليس سقوطها، كما أنها ليست منفردة بل تستند الى ظهر قوي ومن ورائها محور يتعامل بشكل مباشر مع الراعي الأكبر للكيان وهو أمريكا.
تتأكد يوما بعد يوم، ومن خلال الممارسات والتصريحات والمقترحات، نظرية تقول إن العدوان على غزة بهذا الشكل كان مبيتا، وخاصة وأن الترتيبات التي تناقش حاليا كانت هي ذات الترتيبات التي تناقش على مدى الاعوام القليلة الماضية بخصوص إدارة القطاع ودعم السلطة، ناهيك عن إعداد أمريكي مسبق لساحة المواجهة الكبرى بوضع مظلة دفاع جوي إقليمي بالتعاون مع الخليج والتموضع الأمريكي والصهيوني في البحر الأحمر، والتشبث الأمريكي بالبقاء بقوات عسكرية في سوريا والعراق، وهي إجراءات استباقية تتسق مع اليقين الأمريكي بأن المحور بكامله سيتدخل لمنع الانفراد بتصفية أي طرف فيه.
وهناك ملاحظة هامة، وهي أن "اسرائيل" تحارب غزة وعينها الاستراتيجية على الضفة، حيث تمثل الضفة الخطر الأكبر على الكيان بملاصقتها لمراكزه الحيوية وبجوارها للقدس، وبالتالي فإن تصفية غزة المقاومة أو على الأقل إبقائها وراء حدودها محايدة، هو تمهيد للفتك بالضفة.
كما أن العدو لم ينس يوما هزيمته في لبنان، وتحفل تقاريره الاستراتيجية بصياغات الألم والعجز والتحفز للانتقام، وبالتالي بعد أن يتخلص من المقاومة الفلسطينية، فسيتوجه على الفور للعدوان على لبنان وإعادة الكرة لتصفية المقاومة.
وهنا فإن مقاومة الضفة ليست اسنادا لغزة في معركة وطنية واحدة فقط، بل هي حماية للضفة، ومشاركة أي طرف بمحور المقاومة، ليس مصداقا لروابط الدم والأخوة ووحدة القضية والمصير فقط، بل دفاع عن النفس وحماية للأوطان.
لذلك على الشعوب أن تعلم أن مناصرتها للقضية ومشاركتها بالمعركة هو جزء من دفاعها عن نفسها وبلادها لأنها تقاتل مشروعا استعماريا توسعيا وليس مجرد كيان هش أوهن من بيت العنكبوت.