طوفان الأقصى
رَكْلُ نتنياهو كفيل ٌبإنزاله عن شجرته العالية
بقلم د. حسن أحمد حسن(*)
ما يزال الكيان الإسرائيلي يتأرجح بين هول الصدمة التي أحدثتها ملحمة طوفان الأقصى وبين السقوف العالية التي أعلنها النتن ياهو وسعى بكل ما أوتي من قوة لفرضها فكانت النتيجة إخفاقاً جديداً يضاف إلى إخفاقاته المتراكمة. فلا الوعي الجمعي للمستوطنين في كيان الاحتلال قابل لإصلاح التلف الذي أصاب طرائق التفكير المستندة إلى أكاذيب احترافية وعملية تضليل ممنهج استمر لعقود، ولا جيش الكيان قادر على الاقتناع بأنه قد يستطيع يوماً ما تجاوز ما ألم َّبه ومرَّغ جباه جنرالاته وأجهزة الاستخبارات الإسرائيلية المتعددة بأوحال الهزيمة النكراء التي لا يمكنهم التعايش مع تداعياتها ولا تجاوزها في الوقت نفسه، وهنا تكمن المعضلة الكبرى التي زادت الطين بلة. فالجيش المتقهقر أحوج ما يكون لإنجاز ما مهما كان صغيراً ومتواضعاً ليبني عليه، ويترك لماكينة صناعة الإعلام هندسة الفيلم اللازم وإعادة منتجته وإخراجه، للإيحاء بأن ما حدث في السابع من تشرين الأول استثناء لا يجوز التوقف عنده، وعلى الرغم من المحاولات المتكررة لإعادة تلميع صورة الجيش الذي قيل عنه أقوى جيش في المنطقة، ويحتل مراتب متقدمة بين الجيوش في التصنيف العالمي إلا أن رؤية أية ملامح لمثل هذا الكلام ما تزال غير ممكنة، وهذا يفسر صعود نتنياهو السريع على شجرة الوعود وإطلاق التهديدات للتخفيف إن أمكن من ألم الصفعة التي أفقدت "تل أبيب" الاتزان، فراحت حكومة نتنياهو تتخبط في ردود متناقضة حيناً، وباعثة على الاشمئزاز والقرف أحياناً أخرى، وبخاصة فيما يتعلق بالمجتمع الدولي الذي بدأت بوصلته تبتعد بعض الشيء عن المسار الذي رسم لها، وفرض على الكثير من الأنظمة والدول التي لم تستطع ولا تستطيع تغييب المزاج الشعبي المتعاطف مع الفلسطينيين، وإن لم يكن هذا التعاطف يعود للقناعة بمظلومية الشعب الفلسطيني، بل بسبب الهمجية والعدوانية الإسرائيلية التي فاقت كل ما قد يخطر على الذهن البشري، وارتكبت مجازر وحشية بحق الأطفال والنساء والمسنين وإنسانية الإنسان بطرائق شتى يندى لها جبين الإنسانية.
رغم كل ذلك، تعلن واشنطن وكل من يدور في فلكها الآسن الاستمرار بدعم نتنياهو ودفعه لرفع سقف البطش والفتك والتدمير والإبادة الجماعية، مع تقديم الضمانات اللازمة لـ"تل أبيب" لتبقى بمنأى عن أية مساءلة دولية محتملة، ولعل التوصيف الأبلغ عن الواقع الذي يحكم الكيان المؤقت هذه الأيام قد جاء على لسان مراسل / CNN/ في واشنطن عبر بث مباشر عندما سألته مقدمة البرنامج: ماذا يقول البيت الأبيض عن الزحف البري الإسرائيلي على غزة؟ فكان جوابه: (البيت الأبيض يقول: "إسرائيل" سقطت أرضاً، ولن نسمح لأعدائها في المنطقة ركلها بأرجلهم).
نعم "إسرائيل سقطت أرضا" ولن تسمح واشنطن بركلها بالأقدام إن استطاعت، وهذا لا يعني ألا تجد واشنطن نفسها مضطرة لركل رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو ليسقط من أعلى الشجرة العالية التي تسلقها، لأن ذلك يسهل على واشنطن التعامل مع الوضع المستجد بتكلفة أقل، ولا سيما أن كل القرائن الدالة تؤكد أن الارتفاع الذي بلغه نتنياهو وصل مرحلة لم يعد بإمكانه النزول في هذه الأجواء من الرياح العاصفة التي تهز الشجرة بعنف، وتترك جميع المنخرطين باللوحة المتشكلة أمام ثلاثة احتمالات:
الاحتمال الأول: أن تقتلع الموجات المرتدة لطوفان الأقصى الشجرة بمن عليها، وهذا ما لن تسمح به واشنطن مهما كانت النتائج.
الاحتمال الثاني: أن يقدم الغاضبون في الكيان الغاصب على الانتقام من نتنياهو بصفته المسؤول الأول عن التقصير والقصور والفشل والإخفاق عسكرياً وأمنياً واستطلاعياً وحكومياً لأنه رئيس الوزراء، وهذا يدفع نتنياهو للتمسك بأعلى الشجرة أكثر فأكثر، مما يجعل من إمكانية إنزاله محصورة بركله من الأعلى، فطالما أنه يحاول إلقاء المسؤولية على قادة الجيش وأجهزة الاستخبارات وغيرها من أجهزة الكيان المؤقت فلن يعدم أولئك الوسيلة لركله وبعنف وإسقاطه أرضاً، ليتم نقله لاحقا إلى مستشفيات الأمراض العقلية للتهرب من حتمية إخضاعه للمساءلة وملاحقته وسجنه.
الاحتمال الثالث: أن تعيد واشنطن حساباتها وتضع الأمر في كفيتي ميزان التكلفة والمردودية، وعندها سيتضح أن تكلفة الحفاظ على كيان الاحتلال أهم بكثير لمفاصل صنع القرار الأمريكي من حماية رئيس وزراء حاول شق عصا الطاعة الأمريكية أكثر من مرة، وقد يتم المزج بين الاحتمالين الثاني والثالث لتفادي استعصاء لا مصلحة لواشنطن بالدخول فيه، وبخاصة أنها المسؤول الذي يقود عملياً التعامل مع تداعيات طوفان الأقصى عسكرياً وسياسياً ودبلوماسيا وإعلامياً وعلى شتى الصعد والمستويات.
أمام ما ذكر أعلاه قد يكون من المفيد التوقف عند أهم معالم اللوحة المتشكلة حتى الآن، وهذا قد يساعد على قراءة التداعيات المحتملة بالاستناد على العديد من العناوين المهمة والأفكار العامة، ومنها:
• ما أحدثته عملية طوفان الأقصى أفقد "تل أبيب" ومن يدعمها الصواب والرشد، ولم يعد ممكناً التغطية على هول الكارثة والشرخ الذي أصاب الكيان الإسرائيلي، والوعي المجتمعي الإسرائيلي بالكي غير القابل للعلاج.
• تكرار محاولات الاقتحام البري لغزة محكوم عليها بالفشل المتزايد، ففي كل محاولة يتآكل أكثر ما تبقى مما كان يقال عنه هيبة الجيش الإسرائيلي.
• مهما بلغ حجم الدمار والخراب الذي يخلفه القصف الوحشي بكل أنواع الأسلحة بما فيها المحرمة دولياً لا يمكن أن يغير من حقيقة قدرة الغزاويين على الصمود بغض النظر عن تسارع عداد الشهداء الذين تجاوزت أعدادهم /8306/ شهداء إضافة إلى إصابة أكثر من /21048/ مواطناً فلسطينياً غالبيتهم من الأطفال والنساء والعجائز.
• بعيداً عن الفرق الكبير والخلل الجوهري في موازين القوى التقليدية، فقدرة المقاومين الفلسطينيين على إلحاق الأذى بالمحتل الغاصب ما تزال تبعث على الفخر، وصواريخ المقاومة الفلسطينية ما تزال تمطر المستوطنات الصهيونية ونقاط التجمع لجنود الاحتلال، وما تزال تصل إلى قلب تل أبيب وما بعدها.
• العدوانية الصهيونية والوحشية في التعامل مع الفلسطينيين ليست محصورة في غزة بل تطال الضفة والوجود الفلسطيني بجميع مظاهرة في جميع الأراضي الفلسطينية المحتلة، وهذا سيؤدي بالضرورة إلى اشتعال الضفة بانتفاضة عارمة تخرج عن سيطرة الكيان وقواته الإجرامية.
• تصويت /120/ دولة في الجمعية العامة لصالح قرار وقف إطلاق النار واقتصار المؤيدين للوحشية الصهيو ـ أمريكية على /14/ صوتاً يثبت التبدل الجوهري في الرأي العام العالمي، وهذا كفيل يخلق تداعيات جديدة لا تستطيع واشنطن الاستمرار بتجاهلها.
• الإعلان عن إطلالة الأمين العام لحزب الله سماحة السيد حسن نصر الله في الثالث من شهر تشرين الثاني أمر لا تستطيع إدارة بايدن التعامل معه كغيره من الأحداث، فضلاً عن وقعه كالصاعقة في صفوف الكيان المؤقت مسؤولين ومستوطنين وعساكر وجنرالات، وإذا كان هناك من يرى في الأيام المتبقية لموعد خطاب سماحته فرصة لتصعيد إسرائيلي محتمل، وقد يقود إلى ما لا تحمد عقباه، فعلى أصحاب وجهة النظر هذه أن يتيقنوا أن التصعيد العدواني الإسرائيلي بلغ الذروة منذ الأيام الأولى لعملية طوفان الأقصى، وكل ما يستطيعون فعله فعلوه، فضلاً عن أن الإعلان عن موعد الخطاب لا يلغي إمكانية التعامل بما يلزم مع أية مستجدات تفرض ذاتها على ساحة المواجهة المفتوحة، والحساب يجب أن يغلق عاجلاً أو آجلاً، وتأجيل إلغائه حالياً مصلحة أمريكية قبل أن تكون مصلحة إسرائيلية صرفة، وإلا لما حضرت البوارج الحربية وحاملات الطائرات وقواعد إطلاق الصواريخ بأحدث النسخ المصنعة وأكثرها طاقة تدميرية، لكن لا ضمان لدى الأمريكي، ولا ثقة بالقدرة على تحقيق النصر الحتمي فيما إذا توسعت رقعة الاشتباك وتدحرجت كرة اللهب باتجاه اللاعودة، والأمريكي يدرك أن محور المقاومة يعي جيداً معاني ذلك ودلالاته.
خلاصة:
نتنياهو مستميت بالبقاء في أعلى الشجرة التي تسلقها، ولا يعنيه أن تخلو الخارطة من كيان الاحتلال الذي يترأس مجلس وزرائه، أم لا، لأنه على يقين بملاحقته في اليوم التالي لنزوله عن الشجرة، وأقل ما ينتظره هو السجن ومعه بعض أفراد أسرته والمقربين، وبالتالي لن ينزل إلا ركلاً إما من داخل الكيان المؤقت، أو عبر واشنطن، ولا ضير في تقديم بعض العون لهما لضمان بقاء ألسنة اللهب في المنطقة تحت السيطرة، أو ضمن الإيقاع المضبوط بحذر ومسؤولية، وفي جميع الأحوال تبقى الأيام القادمة مفتوحة على سيناريوهات متعددة تنطلق جميعها من حقيقتين رسختهما عملية طوفان الأقصى وتداعياتها، وهما:
1- عجز الكيان الإسرائيلي عن حماية المصالح العليا الأمريكية والأطلسية في المنطقة، وعجز جيش الكيان عن حماية المستوطنين ناهيك عن عجزه عن حماية نفسه من دون مساعدة أمريكية.
2- افتضاح النفاق الغربي الأوربي والأمريكي على حقيقته، وبداية تشكل رأي عام دولي رافض نسبياً أشكال الوحشية الإسرائيلية المدعومة أمريكيا.