طوفان الأقصى
أربعون عاماً على خط الانحدار الرسمي.. وبعض العرب خشبة خلاص "إسرائيل"
محمد أ. الحسيني
تداعى العرب في 30 آذار 1982 إلى عقد اجتماع طارئ في تونس على مستوى وزراء الخارجية، للتداول بالقرارات الواجب اتخاذها حيال التطوّرات الحاصلة في فلسطين المحتلة، حيث كانت آنذاك فلسطين كلّها، ومن ضمنها الأراضي المحتلة عام 1948، تشتعل بانتفاضة عارمة سادت كل المناطق ردّاً على إجراءات القمع والقضم الصهيونية في الضفة الغربية، فيما سادت مخاوف من أن يكون لبنان "الحلقة الأخيرة في مسلسل التصعيد الاسرائيلي"، خصوصاً مع تحشيدها العسكري في الأراضي اللبنانية المحتلة، وتصاعد تهديداتها باجتياح الجنوب "لاجتثاث الثورة الفلسطينية وتقييد قدرتها على إطلاق الصواريخ واستهداف مستوطنات الشمال".
كان هذا الإجتماع الثاني الذي يعقده المجلس بعدما عقد لقاءً طارئاً أول في ١٢ شباط، وخصّص للنظر في قرار "إسرائيل" ضم هضبة الجولان السورية المحتلة، واتخذ المجلس في ذلك الحين توصية استنكرت خطوة الضم دون أن يقترن هذا الإستنكار بأي خطوات تنفيذية، اعتماداً على ما يمكن أن تقوم به واشنطن وفي إطار جمعية الأمم المتحدة "لردع إسرائيل" ودفعها إلى التراجع عن خطوتها، وهو ما لم يحصل بالطبع، بل مضت "إسرائيل" في تثبيت احتلالها للأرض السورية.
قرارات بطعم الاستسلام
لم يكن لإجتماع تونس أن يرى النور لولا الدعوة الفلسطينية لانعقاده من أجل النظر في "الموقف العربي الموحّد الذي يمكن اتخاذه ضد إسرائيل" قبل انسحابها المفترض من سيناء في ٢٥ نيسان، وهي الخطوة الكبيرة التي عملت واشنطن على إتمامها كواحدة من ثمار اتفاق كامب دايفيد، وخطوة باتجاه الإمعان في شرذمة الصف العربي من البوابة المصرية، فيما كانت الرياض تزهو بالاتفاق الذي "نجحت" في التوصل إليه لشراء طائرات "الأواكس" الأمريكية، على الرغم من الرفض الإسرائيلي الشديد لإتمام هذه الصفقة.
جاء العرب إلى مؤتمر تونس وسط تبادل نظرات النفور، وكل واحد منهم يتأبّط نقطة خلاف تكراراً لسيناريو سجال دارت رحاه في أروقة الأمم المتحدة، فبعضهم تحفّظ على إدانة الإدارة الأمريكية لمساندتها "إسرائيل" وتغطيتها لممارساتها العدائية في المنطقة، فهذا قرار لن يكون له نفع أو جدوى طالما أن واشنطن ستقف أمام أي قرار يدين "إسرائيل" في الأمم المتحدة، وعلى الرغم من ذلك انتهى الإجتماع إلى قرارات عامة، أهمها:
- تقوم الدول العربية بتقديم كل وسائل الدعم المادي والمعنوي والسياسي والإعلامي الفوري لدعم صمود الشعب الفلسطيني في الاراضي المحتلة!!
- تمكين منظمة التحرير من تعبئة وتنظيم وتجنيد وتدريب الشباب الفلسطيني بما في ذلك تطبيق قانون خدمة العلم، وقد تحفّظ الأردن ولبنان على هذه النقطة فيما لم تبدِ السعودية رأيها.
- تمكين منظمة التحرير من العمل في فلسطين المحتلة!! وكان النص الأصلي لهذه النقطة كما ورد في ورقة العمل الفلسطينية ينصّ على: تمكين المنظمة من الإنطلاق عبر حدود الدول العربية المحيطة بفلسطين وتقديم كافة التسهيلات لها.
العرب في المقلب الإسرائيلي
أربعون عاماً على خذلان معظم العرب لفلسطين والشعب الفلسطيني، ولم يتغيّر شيء سوى المزيد من التقهقر والتقوقع والتنازل، ولئن بقيت خطابات الإدانة وأدبيات الاستنكار وشعارات الدعم تتكرّر دون أي تطبيق ميداني على الأرض، فإن تحوّلات خطيرة طرأت على الخطاب العربي (وهو الأمر الوحيد الذي يبدي العرب استعدادهم للقيام به) تفسّر نتيجة التراكم التدريجي للإنحدار في الموقف السياسي، منذ العام 1967 وحتى اليوم، وأهمها:
- الحيادية السلبية للموقف تجاه فلسطين، فلا تخلو البيانات والمواقف العربية من ذكر الجانبين الإسرائيلي والفلسطيني، وتصوير الأمر على أنهما طرفان متقاتلان، وأن الأزمة هي في طغيان طرف على آخر.
- التركيز على التسوية السلمية، تسلّحاً بمقرّرات القمة العربية التي انعقدت في بيروت عام 2002، والتي صرّحت للمرة الأولى بموافقة العرب على ما يسمّى "حل الدولتين" وتقسيم القدس كعاصمة شرقية لفلسطين، وأخرى غربية لـ"إسرائيل"، وهذا بحدّ ذاته يشكّل محطة جوهرية في مسار الإنحدار، فتحوّل الصراع العربي – الصهيوني من "قضية صراع وجودي" إلى "مسألة نزاع حدودي".
- اعتماد خطاب التسوّل واستدرار العطف الدولي والعاطفة الإنسانية كباب لوقف المجازر الصهيونية بحق الشعب الفلسطيني، وعلى الرغم من محورية هذا الجانب على مستوى الصمود، ولكنه يعكس خطاب الضعيف، ويتّجه إلى احتواء النتيجة فيما المطلوب الدعوة إلى معاقبة المسبّب.
- التنصّل من حركات المقاومة الفلسطينية، والتعاطي معها على أنها كيان معزول ومتطرّف، ولا تتحمّل الدول العربية المسؤولية عن أفعال هذه الحركات، لأنها لا تنسجم مع مسارات "السلام" الأمريكي، وعلى الرغم مما بدا من الخطابات العربية "عالية النبرة" في جلسة مجلس الأمن الأخيرة حول تحميل "إسرائيل" مسؤولية ما جرى في عملية "طوفان الأقصى"، إلا أنها لا تعطي الحق لحركات المقاومة في ما قامت به دفاعاً عن الأرض والشعب في فلسطين في مواجهة الإحتلال الصهيوني.
- انتقال بعض الدول، ولا سيما "الإمارات العربية المتحدة"، إلى موقع إدانة المقاومة، وتبنّي الخطاب الأمريكي والإسرائيلي، وتجنيد وسائلها السياسية والإعلامية وتبرير المجازر التي يرتكبها الصهاينة بحق الشعب الفلسطيني الأعزل في قطاع غزة والضفة الغربية، فكيف لو أضفنا إلى ذلك ما قيل عن مشاركة سلاح الجوي الإماراتي في قصف مناطق غزة؟!
- تكريس النزعة الطوعية في الفردانية والإنعزال، وهي ميزة ثقافية أمريكية استوردها العرب وكرّسوها في نفسية وتربية الفرد العربي، ومن نتيجتها أن العرب ليسوا مستعدين للقتال لإنقاذ الشعب الفلسطيني، ففلسطين لم تعد القضية المحورية للعرب والمسلمين، فإن كل عربي معني بالدفاع عن بلده فقط (وفق ما جاء في موقف الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي: إن جيش مصر هو لحماية مصر فقط، فلسطين لن تعود إلا بالسياسة، ومن يقوم بأعمال عسكرية يجب أن يحمي نفسه وشعبه جيداً، وليس على الجيش المصري إلا حماية أرضه فقط).
خشبة خلاص "إسرائيل"
لطالما شكّل العرب الرافعة القوية وخشبة الخلاص لـ"إسرائيل" في أكثر من محطة كانت فيه تواجه خطراً يهدّد تماسكها، فكيف وهي الآن تواجه أكبر التحدّيات التي تتهدّدها بالزوال والإندثار؟ لعلّ البعض يعتبر ما يجري الآن على أرض فلسطين فرصة سانحة لتحسين موقعه في خارطة التسوية المتوقّعة بعد الحرب اعتقاداً منه بأن "إسرائيل" كما أمريكا هي قدرٌ لا بد منه، وما يدفع إلى الإستغراب وقوف العرب موقف المتفرّج، غير المبادر لتلقّف الفرصة والتخلّص من جرثومة "إسرائيل" نهائياً، إلا من "همّة قوية" لإرسال مساعدات تقف عند أسوار رفح بانتظار الإذن والتفتيش الإسرائيلي فلا يصل منها إلا النذر اليسير، كل هذا والولايات المتحدة و"إسرائيل" تقفان بكل قواهما التدميرية حائرتين أمام الخوف من تدخّل حزب الله وإيران ومحور المقاومة في المعركة، ما من شأنه تغيير الخارطة الجيوسياسية والعسكرية للمنطقة والعالم.