طوفان الأقصى
عن صديق في غزّة..
ليلى عماشا
من تحت النار، يحادثك صديق نقل للتوّ أولاده من مكان إلى مكانٍ آخر، قيل أكثر أمانًا، وعاد لمتابعة عمله كصحفيّ. هي ربّما المرّة السادسة، أو ربّما السابعة، التي ينقل فيها عائلته من ملجأ إلى آخر، ويعود إلى العمل.
ومن تحت النار، يخبرك عمّا يجري على أرض غزّة، يرسل لك الصور والفيديوهات التي تقصم ظهر القلب ويطلب منك ومن أهلك الدعاء لأهل غزّة، وأن تكون صوتًا لهم إن سكتت أصواتهم، لا قدّر الله.
تحدّق في الكلمات وفي الصور، والألم، الذي لا يمكن للتكنولوجيا نقله، يتولّد في القلب البعيد تمامًا كما لو أنّ هذا القلب طفل يبحث عن أهله بين الركام ويردّد أن على قدر المواجع يكون النصر، والنصر من عند جبّار الخواطر والمواجع.
إليكم، بعض المشاهدات، التي أحاول صياغتها بالكلمات، والتي شاهد معظمنا منها:
في غزّة، يقول صديقي، يصل الأطفال الجرحى إلى المشافي وأكفّ أيديهم، إن لم يقطعها القصف، تلتصق بآذانهم. صوت القذائف يلاحقهم. رجفة أطرافهم تحكي حكاية الساعات الأخيرة التي مرّت عليهم قبل أن يصلوا، وأعينهم في الوجوه تبحث عن "بابا" وعن "ماما" وعن شقيق أو شقيقة. يحتبسون الدمع وكأن البكاء عليهم محرّم كي لا يظنّ الناظر إليهم أنّهم على جزع. وما إن يطمئنوا برهة، يشهقون كل حزن الكون ويزفرونه دمعًا حارًا على كتف حنّت عليهم أو صوت آمن اقترب منهم.
في غزّة، تسير الأمهات في ممرات المشافي وأعينهن في كل الاتجاهات تبحث عن "الضنا" الذي قيل لها إنّه ربّما هنا، وربّما لم يزل حيًّا. لا خبر مؤكّدًا، وحدها لحظة التلاقي تحسم شكل الضّمة: تعانق جثمانًا صغيرًا أو تجثو لتحتضن الجريح الصغير.
وفي غزّة، يقول صديقي، حال الرجال عزّة. ومن قال العزّة لا تتغذى بالدمع الكريم عندما تحط عينا الأب على وجه مغبر باسم، "متل القمر"، فيما صوت الطبيب يربّت على قلبه "الله يرحمه". رأيت أبًا لا يصدّق قسوة المشهد. لا يصدّق أنّ هذه الغفوة موت. يقبّل وجه حبيبه، يناغيه ويدلّله. "قوم يا قمر الشهدا.. صورلي قمر الشهدا". ورأيتُ أخًا يحدّث عن احتضار أخيه الذي رآه أمامه، ثانية بثانية، منذ ناداه حتى اختناق الصوت وفيض الروح، وأخًا يطالب بشعرة من رأس أخيه، تواسيه وتؤنسه، قبل أن يحتضن التراب ذلك الوجه الطريّ.
في غزّة، كلّ الوجوه تحمل أسماء الشهداء، كلّ العيون تقطر دمًا يحتاجه الجرحى النازفون، كلّ القلوب تجيد اليقين أنّ هذا الألم العظيم يحمل في طيّاته بشرىً عظيمة، وكلّ الأرواح تقاتل. أما قال عماد شهداء المقاومة أن "الروح هي لي بتقاتل"؟
هذه المشاهدات وغيرها، وهي لا تُحصى، تأتي محتضنة بعبارات تختزن في حروفها كلّ معاني الصبر والإباء، وكل الثبات في المواجهة وفي المقاومة وفي الصمود. كلّ الذي يجري على أهل غزّة يزيدهم تمسّكًا بسلاح المقاومة وبكلّ يدٍ تضغط على زناد، إذ يدركون أن الله هو الذي يرمي. يعلمون أنّ هدف الصهاينة الآن هو ترويعهم بحيث ينقلبون ضدّ مقاومتهم وينسلخون عنها. هذا العدو الغبيّ لا يكفّ عن المحاولة، ولم يفهم بعد أن الألم دافعٌ للمقاومة وليس العكس، وأنّ الجرح مهما كان عميقًا لا يسلخ الناس عن جذع الذين يقاتلون من أجلهم.