وكان حقّاً علينا..
رباعية الأبعاد في منظومة الاقتدار.. انتصار تموز 2006 نموذجاً (2 – 4)
محمد أ. الحسيني
مرّ على ذكرى انتصار تموز عام 2006 سبعة عشر عاماً لم يتجرأ العدو الإسرائيلي فيها على شنّ أي حرب على لبنان، وهي وتيرة زمنية غير معتادة في السياق العدواني المعتمد لدى الاحتلال، فانتقل إلى أسلوب آخر أسماه "معركة بين الحروب" ويقوم على تنفيذ اعتداءات موضعية لا تؤدي بالضرورة للانجرار إلى حرب شاملة، فكان في كلّ مرّة يرتكب اعتداءً بحق المقاومة أو لبنان يلقى الردّ المناسب، فيما مجموعات المقاومة تزرع خط الحدود بجولاتها الميدانية العلنية، وأصبح ما يسمّى خط الدفاع داخل حدود فلسطين المحتلة بدل أن يكون داخل الأراضي اللبنانية. ولم يأتِ هذا الإجراء ضمن تغيير في التخطيط العسكري ناتج عن دراسة سبل التطوير العملاني أو ضمان استراتيجية التفوّق، الذي تحرص الإدارات الأمريكية المتعاقبة على توفيره للكيان المؤقت في مواجهة ما كان يُعرف بدول الطوق، بل جاء نتيجة انقلاب في معادلة القوّة التي فرضتها المقاومة الإسلامية، والتي أرستها من خلال محطات المواجهة منذ العام 1982 وحتى العام 2006 وما بعدها، وتحوّلت مقولة توازن الردع إلى معادلة تفوّق الردع لمصلحة لبنان وشعبه وجيشه ومقاومته.
خط الاقتدار بين لبنان وفلسطين
هذه المعادلة لم تُبن فقط على ركائز الإنجازات العسكرية والأمنية التي مكّنت المقاومة من طرد الاحتلال الإسرائيلي بعد ثمانية عشر عاماً من انطلاقة المقاومة، وهو يعدّ وقتاً قياسياً بالنظر إلى عدم التكافؤ في الإمكانات والقدرات بين المقاومة والعدو، بل بُنيت على منظومة شاملة ومتكاملة ثمّرت الجهد الميداني بأداء سياسي وإعلامي واجتماعي وثقافي اجتهد في بعدين: الأول داخلي متعلّق بالمجتمع اللبناني عموماً ومجتمع المقاومة خصوصاً، والثاني خارجي متعلّق بمجتمع العدو؛ وبموازاة هذين البعدين كانت الساحة الفلسطينية الميدان الأفعل في سياق التأثير المباشر على تماسك بنية المجتمع الصهيوني ومؤسساته المختلفة. وهكذا تعمّق التأثير ليجد العدو نفسه بين تهديدين حقيقيين يعتمدان مبدأ القوّة مقابل القوّة، وتحوّلت القوّة - التي كانت على مدى عشرات السنوات نقطة امتياز في التفوّق الإسرائيلي - إلى قضية باتت تحتاج إلى الدرس والتمحيص لمعرفة مدى فعاليتها في دفع خطر التفكّك والانهيار.
وما سبق يقودنا منطقياً للحديث عن الارتباط العضوي والطبيعي بين انتصار المقاومة في تموز 2006 ومحطات الانكسار للعدو في حروبه التي شنّها على فصائل المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة، بدءاً بعدوان "الرصاص المصبوب" في العام 2008، وردّ المقاومة الفلسطينية بـ"معركة الفرقان"، وعدوان "عمود السحاب" في العام 2012، وردّ المقاومة بمعركة "حجارة السجيل"، وعدوان "الجرف الصامد" في العام 2014، وردّ المقاومة بمعركة "العصف المأكول"، وحينها استمرت المواجهة 51 يوماً نفذ خلالها سلاح الجو الإسرائيلي أكثر من 60 ألف غارة، ولم يستأنف العدو اعتداءاته إلا بعد خمس سنوات حين باشر سياسة جديدة قضت باستهداف قادة المقاومة من حركتي حماس والجهاد الإسلامي في القطاع، فاغتال المجاهد بهاء أبو العطا وزوجته، لتردّ حركة الجهاد بـ "صيحة الفجر"، وصولاً إلى معركة "سيف القدس" التي أسماها العدو "حارس الأسوار" في العام 2021، وتجاوز الردّ هذه المرة البعد الجغرافي المحصور بقطاع غزة حيث بدأت المقاومة المعركة بعد استيلاء مستوطنين على بيوت مقدسيين في حي الشيخ جراح واقتحام قوات الاحتلال للمسجد الأقصى، ودشّنت بذلك معادلة "وحدة الساحات" التي تكرّست بالمواجهة التي خاضتها المقاومة في العام 2022، وكذلك في العام 2023 حين اغتال العدو عدداً من قياديي حركة الجهاد في القطاع.
عقدة الأداء في حرب تموز
لم يستطع العدو في كل هذه المحطات تحقيق أي من أهدافه التي أعلنها، بل كان للمقاومة الفلسطينية اليد الطولى في المواجهة، وفشلت "القبة الحديدية" في منع صواريخ المقاومة التي بلغت بالآلاف من الانهمار على المستوطنات والمواقع الحيوية والعسكرية الإسرائيلية، وفي كل مرّة كانت المقاومة توسّع مدى الاستهداف ليصل إلى تخوم القدس وتل أبيب، وتكشف عن نوع جديد من الصواريخ وتكتيكات محدّثة من المواجهة بما لم يألفه العدو من قبل، فدفعه الفشل إلى محاولة تحقيق إنجاز خارج قطاع غزة العاصي على الانكسار باقتحام مخيم جنين في الضفة الغربية ليُفاجأ بمقاومة شرسة استطاع المقاومون فيها تدمير عدد من آلياته بشريط متفرّق من العبوات الناسفة مما أجبره على الانسحاب دون تحقيق أي نتيجة سوى مراكمة إحباطاته وتعميق أزمته في معادلة القوّة.
خلص أكثر من تقييم عسكري وأمني حول الأداء العسكري للجنود في المواجهات مع المقاومة الفلسطينية أظهر أن جيش الاحتلال لم يتخطَّ عقدة سوء أدائه في حرب تموز 2006، ولم يستطع الانتقال تماماً إلى الوضع الذي يمكّنه من مواجهة المقاومة ميدانياً والقضاء عليها أو إضعافها، وفي المقابل نجحت المقاومة في لبنان وفلسطين في ترجمة القاعدة التي كان أعلن عنها الأمين العام لحزب الله سماحة السيد حسن نصر الله منذ انتصار تموز في العام 1996 حين قال إن "هذا العدو لا يفهم إلا بلغة القوّة"، وفي النتيجة عندما نتحدّث عن تفوّق الرّدع لصالح المقاومة، وخوف "إسرائيل" من شنّ حرب على لبنان، فإن ذلك لم يأتِ نتيجة خطابات أو شعارات أو مواقف إعلامية بل نتيجة عمل جهادي دؤوب من العام 1982 إلى العام 2006 وما بعده، إلى درجة أن العدو بات في تموضع دائم على "إجر ونص".
المقاومة شرط وجود
لعلّ ما ذكرته دراسة استراتيجية أعدّها الخبيران البريطانيان "أليستر كوك" و"مارك بيري"، ونشرها "المنتدى البريطاني للنزاعات" في تشرين الأول 2006 يعبّر بشكل واضح عن خلاصة النتائج التي أسفرت عنها حرب تموز 2006، وأهمّها أن "انتصار حزب الله أكثر دلالة مما يظن الخبراء في أوروبا وأميركا.. إن قوة "اسرائيل" وأميركا قد تلطخت، وقيادة جديدة تنشأ في الشرق الأوسط.. لقد أثبت هذا الانتصار أن في الإمكان هزيمة "اسرائيل" أو أي قوة غربية متطوّرة عسكرياً في معركة مفتوحة.. وجعل "إسرائيل" تخسر قوة ردعها وأن عليها استرجاعها، وقد تحتاج إلى سنوات طويلة من أجل إعادة بناء قدراتها العسكرية والاستخبارية" وانتهت الدراسة إلى القول إن "هزيمة "اسرائيل" على يد حزب الله كانت حاسمة، ولكن الهزيمة السياسية للولايات المتحدة الاميركية، التي انحازت الى "اسرائيل" ورفضت وضع حد للحرب، كانت كارثية".
القوّة هي التي أفشلت خطط ضرب المقاومة في لبنان وتصفية القضية الفلسطينية وضرب سوريا، ومنعت تثبيت الاحتلال الأمريكي للعراق، وكسرت الحصار على إيران، وقلبت الموازين في الحرب الكونية على اليمن، وأسقطت مشروع الشرق الأوسط الكبير، وهي التي تجلّت نموذجاً حقيقياً في انتصار تموز 2006، حيث كشفت الوقائع اللاحقة أن كل المعطيات كانت تشير إلى أن الإسرائيليين لم يعودوا قادرين على مواصلة الحرب، وأن تقدير الموقف عندهم أمنياً وعسكرياً وداخلياً أن الاستمرار بالحرب يعني أنهم ذاهبون إلى كارثة كبرى، واليوم حين يتحدّث الاسرائيلي عن تعاظم قدرة حزب الله فهو أولاً يعترف بهزيمته في حرب تموز 2006، وفشله في تحقيق أهدافها، وهو لا يزال يواجه تداعيات هذه الهزيمة، ويفتّش ليجيب عن سؤال مركزي واحد: كيف نتعاطى مع تعاظم قوة المقاومة؟ وكيف نردع تهديد حزب الله؟ ومن هنا بدأت تتشكّل قناعة لدى المستويات الإسرائيلية المختلفة، مفادها أن "أي حرب على لبنان، وأي مواجهة مع حزب الله، ستكون كلفتها كبيرة جداً على "إسرائيل"، كياناً وجيشاً وشعباً، وأن أي حرب يجب أن تكون في حالة واحدة وهي اللاخيار.. وبالتالي فإن المقاومة بالنسبة للبنان هي خيار وشرط وجود وليست شرط كمال، ولا يمكن الاستغناء عنها حتى إشعار آخر".