وكان حقّاً علينا..
رباعية الأبعاد في منظومة الاقتدار – انتصار تموز نموذجاً (1–4)
محمد أ. الحسيني
رسم انتصار تموز الذي حققته المقاومة الإسلامية في العام 2006 خطوط محوريته الجوهرية في فلك المواجهة، سواء في أفق المعركة العسكرية والأمنية مع الاحتلال الإسرائيلي، أم في مجمل فضاء الصراع الإقليمي والدولي ارتباطاً بموقع لبنان الجيوستراتيجي في قلب ما يسمّى منطقة الشرق الأوسط.
ولا يمكن، في سياق قراءة أهمّية هذا الانتصار، عزله عمّا سبقه من محطات مهّدت له، ووفّرت له مقوّمات التحقّق في نطاق الدفع المتدحرج للمجريات الميدانية، وكذلك عمّا تلاه من نواتج وتطوّرات ساهمت في بلورة صورة جديدة وغير مسبوقة لمعادلة الردع التي كانت مبنيّة على آليّة ردّ الفعل، فانتقلت من حالة التوازن إلى حالة التفوّق، لتصوغ منظومة اقتدار تجلّت تفاصيلها في جملة من الأبعاد البنيوية، أهمّها: وحدة المجتمع والموقف العسكري والسياسي، معادلة القوة مقابل القوة أو التفوّق مقابل التوازن، ضمان الأمن الاستراتيجي، وأخيراً محور الردع الشامل.
وحدة المجتمع اللبناني
في بداية الحرب ومع سقوط أول صاروخ إسرائيلي على المناطق اللبنانية انطلقت الدعاية الإعلامية الأمريكية – الإسرائيلية وبعض الداخل في لبنان لتلعب على وتر الفصل بين المقاومة والناس وعزلها عن بيئتها ومجتمعها الخاص والعام، فتعمّد العدو قصف المناطق الآهلة تأسيساً لخلق أزمة إنسانية ثنائية الأهداف، الأول عبر دفع الناس إلى النزوح من القرى وتشريدهم في المناطق المختلفة، والثاني عبر خلق عبء اجتماعي على الشرائح السكّانية في المناطق التي انتشر فيها النازحون، وفي المقابل حرصت المقاومة في أدائها السياسي والإعلامي على ضرورة الحفاظ على وحدة الصف والتضامن الوطني والشعبي، وكذلك التضامن الرسمي على مستوى الدولة ومؤسساتها، وطوال أيام المواجهة اعتمدت مجموعة من القواعد التي تكفل تحقيق هذا الهدف، وأهمها:
أولاً: عدم الدخول في أي سجال سياسي أو إعلامي مع أي فريق أو حزب أو شخصية لبنانية، والتأكيد على أن الأولوية هي للصمود والتضامن السياسي والشعبي والوطني.
ثانياً: الطلب من النازحين مراعاة المحيط الذي يتواجدون فيه، وعدم القيام بأي شيء قد يثير الحساسية مع المحيط، لأن ذلك "يضعف جبهة الصمود ويخدم العدو ويقرّبه من تحقيق أهدافه".
ثالثاً: تجنّب أي مظاهرات أو اعتصامات، وبالتحديد في مدينة بيروت، لقطع الطريق أمام أي خلل أمني يتسبّب به متسلّلون، أو إطلاق شعارات وشعارات مضادة تؤدي إلى انقسامات في الشارع.
كان البلد يعاني من انقسام سياسي واضح بين اتجاه مؤيد للمقاومة وآخر يروّج للمطالب والشروط الأمريكية – الإسرائيلية، مترافقاً مع شحن طائفي ومذهبي ومناطقي بهدف الضغط على قيادة المقاومة باتجاه تقديم تنازلات عسكرية وسياسية تحت عنوان "الحفاظ على الدولة"، ولكن طالما أن مشهد الانقسام لا يترجم أي معطى من واقع الوحدة الوطنية، توجّب العمل على تأمين دائرة الالتفاف الشعبي حول المقاومة، وجاء الرابع عشر من آب حاملاً معه بشائر الانتصار، فانتقل المسعى لتحويل النازحين إلى قضية ضاغطة قد تدفع المقاومة لتسقط بعضاً من أوراق قوتها، ولكنّ المفاجأة التي حصلت أن النازحين لم ينتظروا استتباب الوضع الأمني حتى تقاطروا إلى أماكن سكنهم في الضاحية والجنوب والبقاع بقوافل السيارات ومشياً على الأقدام يتفقّدون منازلهم المدمّرة وبقوا فيها حتى لو اضطرهم الأمر للمبيت على الركام، وبذلك استحقّوا النداء الذي خاطبهم به الأمين العام لحزب الله سماحة السيد حسن نصر الله في الذكرى الأولى للانتصار الالهي: "يا أشرف الناس وأكرم الناس وأطهر الناس".
جاء إعلان النصر على لسان السيد نصر الله مفعماً بالتواضع، ولكن منسجماً مع المبادئ والمنطلقات التي حكمت خطاب الوحدة فقال: "إن هذا النصر صنعه اللبنانييون من كل الطوائف ومن كل المناطق"، ونبّه قائلاً: "لا تسمحوا لأحد أن يحوّل الانقسام السياسي إلى انقسام مذهبي وطائفي.. هذا لعب بالنار وتخريب وتدمير للبلد.. نحتاج كلبنانيين جميعاً أن لا نتكلّم على العيش الواحد أو على العيش المشترك، بل أن نعمل جاهدين ليكون عيشنا واحداً وعيشنا مشتركاً". كان السيد نصر الله يردّ بهذا الموقف على الذين اتّهموا المقاومة بأنها تسعى إلى حرب أهليّة، فيما البعض كان يعمل ويدعو إلى التقسيم سرّاً وعلانية، وجاء التزام الناس بتوجيهات المقاومة خلال الحرب وبعد وقف إطلاق النار وتفاعلهم الإيجابي مع البيئة التي تواجدوا فيها، ومسارعتهم في العودة إلى منازلهم ليؤكد على صوابية الخطاب الوحدوي وقطع الطريق أمام الأصوات التي كانت - في حال انتصر العدو – لتنادي بالفدرالية والكانتونات تماهياً مع اللغة الإسرائيلية، ليعود السيد نصر الله ويعلن: "نحن اللبنانيين قدرنا وقرارنا ومصيرنا ومشيئة ربنا أن نعيش معا في دولة واحدة، نرفض أن تقسم وأن تجزأ ونرفض أن تُفَدْرَلْ وأن تُكَنْتَنْ".
العيش الواحد ورفض التقسيم ووأد الفتنة وحماية لبنان يعني أن الخيار هو في قيام الدولة التي تحمل في كينونتها عوامل الأمن والأمان وعدم التمييز بين المواطنين على اختلاف فئاتهم وانتماءاتهم الدينية والمذهبية ورفع الحرمان وضمان الإنماء المتوازن والعادل بين المناطق، وهذا يعني رفض "عقلية الطائفة القائدة، وعقلية الحزب أو التنظيم أو التيار القائد للدولة"، وقد مارست المقاومة هذه القاعدة قولاً وفعلاً، على الرغم من تخاذل الدولة ومؤسساتها وتآمر بعض من فيها على شعب المقاومة استمراراً لعقلية الكيد السياسي، فأطلق السيد نصر الله شعار المرحلة التالية "ستعود أجمل مما كانت" لتبدأ مسيرة الإيواء في الدرجة الأولى لتتوازى مع مسيرة إعادة بناء وترميم ما دمّرته آلة العدوان الإسرائيلية، فقابلت المقاومة الوفاء بالوفاء والالتفاف بالاحتضان والعطاء.
أسّست هذه الخطوة لطريق لا يزال مستمراً بتفاصيله وإجراءاته حتى اليوم، فحوّلت المقاومة التهديد الاجتماعي الذي عمل الأمريكي والإسرائيلي على استغلاله ضد المقاومة إلى فرصة، وأثبتت بأدائها وعمل مؤسساتها أنها ليست منعزلة عن النسيج الشعبي، بل تعايشه وتشعر به وتبادر إلى مدّ يد العون له، كما دأبها في المراحل السابقة، وكان عنوان هذا الطريق "تحصين المجتمع اللبناني ومجتمع المقاومة" ومنع توظيفه لضرب الاستقرار الداخلي، فواجهت المقاومة الحصار الأمريكي الإقتصادي والمالي والمعيشي للبنان بمجموعة من برامج الدعم المالي عبر افتتاح عدد كبير من مراكز التموين الغذائي بأسعار مخفّضة، وأسقطت هذا الحصار باستقدام بواخر النفط من إيران لتوزيعها على اللبنانيين في مختلف المناطق دون أي تمييز دون أن تستثني من ذلك المؤسسات الرسمية، كما استنفرت مؤسساتها الصحيّة جنباً إلى جنب مع مؤسسات الدولة اللبنانية، لتكافح انتشار وباء الكورونا الذي استفحل في لبنان في الأعوام الثلاثة الماضية.
وحدة الدولة والحكومة
لم تسعَ المقاومة في كل ما بذلته وتبذله عسكرياً وسياسياً واجتماعياً لكي تنشئ كياناً خاصاً بها، فهي كما لم تستأثر بإنجاز التحرير عام 2000 - الذي عزاه السيد نصر الله إلى مشاركة الأحزاب الوطنية في لبنان جميعاً في المقاومة، وبالتالي فهي "شريكة في التحرير والانتصار"- لم توظّف تقديماتها للناس أيضاً للتأثير سلباً على مشروع "الدولة التي يشارك فيها جميع مكوّنات الشعب والوطن، ويشعر فيه الجميع بالثقة، فلا تخيف أحداً، ولا يشعر أي مكوّن بأنها تتأمر عليه"، بحسب توصيف السيد نصر الله، بل كانت دوماً تقدّر الموقف الرسمي للدولة، ولا سيّما خلال حرب تموز 2006 حيث تصرّفت بمسؤولية عالية عندما قدّم رئيس الحكومة آنذاك فؤاد السنيورة خطة النقاط السبع، وتعاطت مع هذا الطرح بايجابية، على الرغم من وجود تحفظّات حول بعض النقاط، فالحرص كان مركّزاً على تقديم موقف لبناني موحّد أمام ما يسمّى المجتمع الدولي، حتى لا يتم استفراد لبنان سياسياً فيما تحقّق المقاومة الانتصارات ميدانياً، بل توظيف هذه الانتصارات في تقديم لبنان "كدولة قوية قادرة ونظيفة ومستقلّة ترفض أي وصاية أو هيمنة أجنبية، ودولة كريمة وعزيزة لا تخضع لشروط مذلّة".
أما ما بعد تموز وإهداء النصر إلى كل لبنان والعرب والأحرار في العالم مروراً بالمحطات المفصلية الخطيرة التي هدّدت الاستقرار اللبناني بفعل المساعي الأمريكية - الإسرائيلية، كانت المقاومة تحرص دوماً، ومن منطلق القوة والاقتدار، على تماسك أضلاع الوطن وعدم التفريط بأي حق من حقوقه الطبيعية، فإن مفصلية الانتصار الذي تحقق في العام 2006 وضعت المقاومة في موقع المبادرة والشراكة الفعلية والمباشرة في أي مسعى ترى فيه أنه يصب في مصلحة لبنان، فهي التي حرّرت وأسقطت مشروع "إسرائيل الكبرى" في العام 2000، وهي التي أجهضت مشروع "الشرق الأوسط الأمريكي الكبير"، ووقفت حجر عثرة أمام تهاوي أحجار دومينو الأنظمة العربية لتسقط على أعتاب "التسيّد" الإسرائيلي للمنطقة، وهذا ما حتّم عليها ومن موقع الاقتدار أيضاً أن تأخذ دورها الفعّال والمباشر في بناء الدولة القادرة على أن تستعيد كل شبر من أرضها المحتلة، وأن تحمي كل قطرة ماء من نهر الوزاني والليطاني والحاصباني، وتمنع العدو من الاعتداء على سيادتها يومياً، وتحمي شعبها بالسلاح وبالقوة وبالعقل وبالوحدة وبالتحصين وبالتخطيط وبالإرادة الوطنية، وليس بالدموع التي لا تحمي أحدًا.
وتأسيساً على ما سبق، تأتي الدعوة المستمرة لقيادة المقاومة إلى ضرورة إقامة حوار بين الأطياف اللبنانية للخروج من الانقسام السياسي وتوحيد الموقف والشروع ببناء الدولة، والاتفاق على القواعد الأساسية التي تكفل العمل المشترك في إدارة البلاد دون ارتهان لأحد في الداخل أو الخارج، وتشكيل حكومة وحدة وطنية "دون إسقاط أحد ولا حذف أحد"، تعمل لتحمي لبنان وتوحّده وتبنيه وتدافع عنه في مواجهة الأخطار والأطماع الإسرائيلية، وتضع نصب عينيها العمل جنباً إلى جنب مع المقاومة على تحرير ما تبقى من أراضٍ محتلة في مزارع شبعا وتلال كفرشوبا وقرية الغجر. وهذه هي القوة التي يقيم لها العدو ألف حساب، و"عندما تتكامل هذه القوة في معادلة الشعب والجيش والمقاومة، سوف ترتفع الجدران أكثر عند الإسرائيليين، وسوف تكبر المخاوف أكثر عند الإسرائيليين وسيقوى ردع الاسرائيليين عن القيام بأي اعتداء في لبنان، وسيحترمنا العالم".
وحدة المقاومة والجيش
لطالما راهن الأمريكي والإسرائيلي على ضرب المقاومة من خلال الإيقاع بينها وبين الجيش اللبناني، ومارسا الكثير من الضغوط والمحاولات لجرّهما إلى الفتنة والصدام، إلا أن كل هذه المساعي انتهت إلى الفشل، فـ "الجيش والمقاومة أخان عزيزان حبيبان لا يمكن أن يفصل بينهما أحد"، كما يؤكد السيد نصر الله، فسلاح المقاومة ليس مخصّصاً للداخل اللبناني بل للقتال ضد عدو لبنان، وهو ليس سلاحاً شيعياً بل هو سلاح اللبناني المسلم والمسيحي، السني والدرزي والشيعي، وهو مقصور فقط على لحماية لبنان وسيادته واستقلاله، ومن هذا المنطلق كانت قناعة المقاومة منذ تموز 2006 وحتى اليوم أن انتشار الجيش اللبناني في الجنوب هو الذي يحفظ السيادة والاستقلال، وهذا هو الخيار الأفضل والأنسب من انتشار قوات دولية "لا نعرف بأمر من تأتمر وما هي المهمة التي ستقوم بأدائها وبوظيفتها".
ولعلّ هذا الموقف يرتّب على المقاومة مسؤولية كبيرة، ليس في جانبها المعنوي والعاطفي، بل في الالتزام الفعلي في حماية البلد، فمن غير المسموح أمريكياً تسليح الجيش ليكون قادراً على مواجهة العدو الإسرائيلي، كما أن قدراته العسكرية لا تسمح بخوض مواجهة بمستوى حرب تموز 2006، ولذا فالمقاومة تؤمن بأن المعادلة الذهبية التي أرستها التجارب والاختبارات وترسّخت بأركانها الثلاثة "الشعب، الجيش، المقاومة" قادرة على أن تصنع الفارق لصالح لبنان، ولعلّ نموذج "التحرير الثاني" الذي تحقّق على يد الجيش والمقاومة في مواجهة المسلحين الإرهابيين في جرود عرسال وعلى امتداد الحدود اللبنانية – السورية، يشكّل برهاناً حيّاً على رسوخ هذه المعادلة، فضلاً عن الصمود البطولي لضباط وعناصر الجيش في مواجهة الخروقات الإسرائيلية على الحدود اللبنانية مع فلسطين المحتلة، فيما مجاهدو المقاومة منتشرون في المواقع حاضرون للمبادرة والإسناد والاشتباك حين تدعو الحاجة، وهذا بدوره يثبت واحداً من الأبعاد البنيوية في منظومة الإقتدار التي جعلت المقاومة الركن الأساس في الاستقرار الداخلي والدرع الحامي في وجه الأخطار الخارجية من أي جهة أتت.
البعد الثاني في منظومة الاقتدار: القوة في مقابل القوة – معادلة تفوّق الردع.