سوريا.. نفــوسٌ أبـاةٌ
دبلوماسية الزلازل.. هل تحدث صدعًا في قرار الحصار الأميركي لسوريا؟
علي عبادي
قبل الزلزال الجيولوجي، كانت سوريا تعيش زلزالها الخاص نتيجة الحرب والحصار اللذين فُرضا عليها. ضربت الولايات المتحدة حظراً على الاستثمارات والتحويلات وأشكال المساعدة الإنسانية بدعوى محاربة النظام السياسي في سوريا، لكنها تسببت بأزمة إنسانية تمثلت في تدهور الليرة السورية والقدرات الشرائية لأغلب السوريين ومنعِ وصول العديد من السلع الضرورية ومنها الأدوية والمشتقات النفطية إليهم. وزاد في الأمر صعوبة استيلاءُ القوات الأميركية وحلفائها المحليين (قوات قسد) على مواقع انتاج النفط والغاز شمال شرق سوريا، مما صعّب مهمة توفير المشتقات النفطية والغاز الضروري لإنتاج الكهرباء.
الزلزال زاد الوضع سوءًا بالنسبة لعدد كبير من الناس فقدوا بيوتهم التي تؤويهم. القضية ليست منحصرة في عدد الضحايا، ولكن أيضًا في تصدّع الكثير من المنازل وخروجها من الخدمة. صحيح أن عدد الضحايا يبقى في سوريا أقل منه بكثير من تركيا، لكن الوضع في سوريا يبدو مأساويًا بالنظر إلى الحصار المضروب على البلد وإحجام الكثير من الدول عن مخالفة القرار الأميركي بهذا الصدد. ولم يكن غريبًا أن أغلب المساعدات الأجنبية توجهت إلى تركيا بهذا اللحاظ، الى جانب الاعتبار المتعلق بحجم الدمار فيها.
لكن الزلزال يمكن أن تكون له نتائج إيجابية:
- ارتفع العديد من الأصوات التي تطالب بتجميد أو وقف الحصار على سوريا، انطلاقًا من محاذير تسييس الوضع الإنساني الضاغط على الشعب السوري قبل الزلزال وبعده. وهذه الأصوات صدرت من منابر دولية وليس فقط عربية.
- سارع العديد من الدول الى ارسال مساعدات عبر مطاري دمشق وحلب الدوليين، قبل صدور بيان "الإعفاء" الاميركي. وهذا أشّر الى توجّه عربي وغير عربي نحو إعادة الروابط بين سوريا والخارج، برغم الكوابح الأميركية.
- حصلت اتصالات مباشرة بين رؤساء عرب والرئيس السوري، حيث تلقى الأسد اتصالاً من الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي للمرة الأولى منذ وصوله الى الحكم، ومن ملك البحرين للمرة الأولى منذ بداية الأزمة السورية. وقام وزير خارجية الاردن بزيارة الى دمشق هي الأولى على هذا المستوى منذ عام 2011. وقررت تونس، التي قدمت مساعدات إنسانية لتركيا وسوريا، رفع مستوى تمثيلها الدبلوماسي لدى دمشق، في خطوة قد تمهد لإعادة العلاقات بشكل كامل بين البلدين.
وقد أرسلت الأردن وتونس ومصر والامارات وعُمان وليبيا والسلطة الفلسطينية مساعدات عاجلة، الى جانب حضور مميز للعراق وايران والجزائر ولبنان، وانضمت السعودية لاحقاً الى قائمة الدول التي أرسلت طائرات إغاثة عن طريق مطار حلب. ولا تفوتنا الاشارة إلى مساهمات انسانية من روسيا والصين والهند وأرمينيا وباكستان وفنزويلا. وغالبية هذه الدول لم تنتظر صدور إعفاء أميركي.
السؤال هنا: هل يمكن أن تتطور هذه المبادرات الإنسانية والسياسية الطارئة الى حركة منظمة تؤدي عمليًا إلى تفتيت فاعلية الحصار المفروض على سوريا؟
من المفيد أن نتذكر أنه قبل الزلزال كانت هناك مبادرات عدة لخرق الحظر على دمشق، وبعضها من دول حليفة للولايات المتحدة، ومنها دولة الإمارات وسلطنة عمان والبحرين والأردن التي أعادت علاقاتها الديبلوماسية مع سوريا من دون انتظار قرار من جامعة الدول العربية. ونشير الى أن عودة سوريا الى الجامعة أصبحت مطلبًا في المداولات الدبلوماسية العربية، لكن الأمر توقف لسببين:
الأول: أن بعض الدول العربية لا تزال تقف عند خاطر الموقف الأميركي الذي يضغط لاستثمار الحصار من أجل إحداث تغيير مفصلي في النظام السياسي في سوريا، بما يجعل هذا البلد قريبًا إلى مجال التأثير الأميركي.
الثاني: أن القيادة السورية تريد عودة كريمة إلى الجامعة العربية، وليس مجرد احتلال مقعد فيها، خاصة أن الطريقة التي أخرجت فيها سوريا كانت مسيئة بكل المعاني. إضافة إلى أن دمشق تعتبر أن الجامعة العربية فقدت الكثير من دورها بفعل هيمنة بعض الدول على قرارها وافتقار العمل فيها الى التوازن والتشاور.
وهنا، قد يكون الزلزال مناسبة طبيعية تفرض نفسها وتسهم بشكل أو بآخر بإعادة تحريك المبادرات باتجاه دمشق التي فتحت الأبواب أمام المساهمات الإنسانية، وسط آمال بأن يكون ذلك توطئة لرفع مستوى الاتصالات مع الحكومة السورية. ويشار هنا الى أن تشكيلات قوى المعارضة المختلفة لم تتمكن من تثمير حضورها خلال السنوات الماضية بفعل تحولها الى أدوات بيد هذه الدولة أو تلك من الدول الفاعلة في الأزمة. ويمثل وقوف الأمم المتحدة عبر موفدها مارتن غريفيث على رأي الحكومة السورية في فتح المعابر بين شمالي سوريا وتركيا أوضح إشارة الى أن أحدًا لم يتمكن من تجاوز سوريا برغم فقدانها السيطرة الفعلية على هذه الحدود.
ويبقى أن الدول الأوروبية التي انكمش حضورها في أزمة سوريا، وتنشغل الآن بأزمة أوكرانيا، لم تتجرأ بعد على مخالفة "قانون قيصر"، لأن حساباتها السياسية في تغيير النظام لم تتغير، لهذا لم نلحظ أي هبوط لطائرات أوروبية في مطاري دمشق وحلب. لكن هذه الدول تحاول البقاء على حافة الحضور الاعلامي من خلال إطلاق تصريحات تتباكى على ضحايا الزلزال وتدعو إلى فتح الأبواب أمام المساعدات الطارئة، لكنها اكتفت بإرسال بضع طائرات إلى مطار بيروت الدولي.
من دون شك، فإن صمود سوريا أمام محنة الحرب والحصار مدعومةً من حلفائها المخلصين، وفشل البدائل التي طُرحت عبر السنين الماضية، إضافة الى حقيقة أن "قانون قيصر" الأميركي الجائر أصاب الشعب السوري بأضرار جسيمة ولم يكن عقوبة مستهدفة للنظام كما تدّعي الحكومة الاميركية، كلها عوامل تشكل دافعًا للتفكير في إعادة سوريا ولو تدريجيًا الى الدائرة الطبيعية الإقليمية والدولية، مما قد يسهم في إحداث صدع في جدار الحصار وتخفيف الأذى الناجم عنه. ويساعد على ذلك أن الظروف الدولية تشهد على بعض المتغيرات الهامة، الأمر الذي يحفز حتى بعض حلفاء أميركا على التفلت من بعض قيودها استجابة لمصالح تمليها هذه المتغيرات. وهذا لا يلغي أن مفاعيل الحصار العدواني ستبقى بعض الوقت لتكشف وجه الغرب الحقيقي وتشكل إحراجًا له في ظل أزمة إنسانية صعبة.