معركة أولي البأس

سوريا.. نفــوسٌ أبـاةٌ

الحصار.. عدوان بمسمّيات ملطّفة‎‎
14/02/2023

الحصار.. عدوان بمسمّيات ملطّفة‎‎

ليلى عماشا

 من حصار الجمهورية الإسلامية في إيران المتواصل منذ انتصار الثورة وسقوط شاه الغرب إلى حصار سوريا تحت عنوان العقوبات الدولية "قانون قيصر"، وما بينهما حصار غزّة الدائم والذي حوّل سكانها إلى أسرى حقيقيين داخل سجن صهيوني-عربي، وحصار اليمن المستمرّ بالتزامن مع العدوان السعودي الأميركي عليها، خرجت فكرة الحصار من قاموس المعارك الميدانية المباشرة واستباحت دولًا وشعوبًا ذنبها أنّها تعادي الأميركي، واجهة الغرب المعتدي، وتأبى الخضوع لهيمنته العدوانية على أرضها ومقدّراتها.

هذا الغرب، لا يستهدف فقط محاصرة البلد بذاته بل إيصال رسالة إلى كلّ الدّول، بما فيها التي يتحالف معها في مراحل معيّنة أو ذات الأنظمة السياسية الخاضعة له، أنّ معاداته تضع كلّ البلد تحت حصار مشرّع في الأمم المتحدّة ومصدّق من قبل ما يسمّى "القوانين الدولية"، حصار يمنع الغذاء والدواء ويقيّد حركة الاستيراد والتصدير ويتحكّم بكلّ مفاصل العلاقات الاقتصادية وحتى السياسية للدولة المحاصرة مع محيطها والعالم.

يحاصر الغرب إيران منذ سقوط الشاه عمليًا، وإن اتّخذ هذا الحصار في بداياته شكل عقوبات متقطّعة بغية التأثير على السياسات الإيرانية منذ العام ١٩٧٩. وارتفعت وتيرة العقوبات مع السنوات، وهي في حقيقتها ليست إلّا حصارًا عسكريًا واقتصاديًا وماليًا يستهدف تدمير البنية الاجتماعية المعادية للغربي الناهب، بالإضافة إلى النتائج المباشرة التي يحقّقها الحصار عادة وهي قطع الإمدادات والتبادلات التجارية والتي تؤدي إلى تراجع وانهيار اقتصاد البلاد والوضع المعيشي فيه. إلّا أن القوّة الإيرانية الثورية تمكّنت من الصمود وتحقيق التقدّم الاقتصادي المشهود رغم الحصار المفروض، بل تحوّلت إلى قوّة دعم ومساندة متخصّصة بكسر الحصارات التي يفرضها الأميركي حول العالم، ولعلّ أبرز الشواهد على ذلك هو السّفن الإيرانية التي جابت البحار لتصل إلى فنزويلا، أو التي هُرعت لإيصال المازوت إلى لبنان بعد أن تحوّل إلى مادة يبتزّ بها الأميركي وأدواته اللبنانيين، والطائرات المحمّلة بأطنان من المساعدات الطبية التي وصلت لبنان إبّان جائحة كورونا وأزمة الدواء، أو تلك التي حطّت في مطار دمشق منذ الساعات الأولى بعد الزلزال التركي- السوري.

بدورها، تشهد غزّة أسوأ ما قد يشهده المحاصرون. فبالإضافة إلى الحصار العسكري الذي يمارسه الاحتلال الإسرائيلي عليها، وسيطرته مع حلفائه على المعابر المؤدية إليها بحيث لا يمكن لفلسطيني دخولها أو مغادرتها إلّا بإذن "اسرائيلي" مباشر، تعيش غزّة حصارًا اقتصاديًا أدّى إلى تدهور الوضع المعيشيّ فيها على كلّ المستويات، إذ لا يمكن مثلًا للمريض في غزّة أن يتلقّى العلاجات حتى تلك الطارئة والمتعلّقة بالأمراض المستعصية، حيث يمنع الحصار توفّر الأدوية المناسبة كما يمنع المريض من مغادرة غزّة أو إحضار أدويته من خارجها! وهنا لا نتحدّث فقط عن عدم قدرة الفلسطينيين في غزّة على المرور من ناحية المعابر الخاضعة مباشرة لجيش الاحتلال، بل حتى معبر رفح على الحدود المصرية الفلسطينية. وبذلك تحوّلت غزّة بفعل الحصار إلى أكبر معتقل في العالم.

ورغم ذلك، لم ينجح هذا الحصار في كسر المقاومة الفلسطينية في غزّة، ولم ينجح كذلك في عزلها عن سائر قوى المقاومة في محور الشرف، ولعلّ أجمل الشّواهد على ذلك الأنفاق التي لم يفلح الصهيوني رغم تطوّر معداته في منع حفرها أو استخدامها، حتى بات يشعر أنّه كلّما كشف نفقًا ودمّره، تولّدت أنفاق وأنفاق!

أمّا في اليمن، فللحصار شكل آخر، إذ يتزامن مع غارات عدوانية تشنّها الطائرات السعودية على اليمنيين في بيوتهم ومدارسهم وشوارعهم. وهو بالتالي لا يقطع الغذاء والماء والدواء عن الناس فقط، ولا يكتفي بتجويعهم وبقتل أطفالهم مرضًا وعطشًا، بل يدميهم مانعًا عنهم أي إمكانية لتلقّي العلاجات الضرورية والطارئة.

تقول منظمات الأمم المتحدّة أن الحصار المفروض على اليمن سبّب "أسوأ مجاعة في العالم" وتتحدّث الإحصاءات عن قرابة النصف مليون إصابة يمنية بالكوليرا في ظل الانقطاع التام للأدوية والمواد الطبية وشبه التام للمياه الصالحة الشرب! وأيضًا، رغم هذه الأهوال، لم يخضع أحرار اليمن للإرادة السعودية الأميركية، وما زالوا يسطّرون الملاحم والبطولات ويحاصرون، من تحت الحصار، عدوّهم، وما "سلّم نفسك يا سعودي، أنت محاصر" سوى شاهد أبديّ على أنّ المعتدي مهما اشتدّت قدرته على الإيلام، يسقط، ومهما حاصر يقع دائمًا في شرك حصاره!

واليوم، ولا سيّما بعد الكارثة الإنسانية التي ألمّت بسوريا وتركيا عقب الزلزال الكبير منذ أسبوع، عاد قانون قيصر وحصار سوريا إلى واجهة العناوين، عاد ليذكّر من نسي أنّ هذا الغرب بكلّ أدواته لم يكتفِ بمحاولة حرق سوريا بنار الإرهاب التكفيري وبسلاح الجو الصهيوني، بل يحاصرها بشكل أدى إلى مضاعفة الخسائر البشرية والماديّة بعد الزلزال.

وفيما تصطف كلّ دول العالم لغوث تركيا بعد المصيبة الكبيرة، وقفت سوريا تواجه الركام بدون أن يتجرّأ على كسر الحصار إلّا الشرفاء في هذا العالم، وإلًا الصادقون في معاييرهم الإنسانية والأخلاقية، وهو ما أدّى إلى اضطرار الأميركي خاصة والغرب عمومًا إلى التصريح عن بعض الاستثناءات في حصاره ولمدّة محدودة وذلك حفظًا لماء الوجه بعد أن كُسر الحصار عمليًا بالطائرات وبالقوافل البرية المحمّلة بكلّ ما يمكن أن يعين السوريين على مواجهة الكارثة. رغم ذلك، استمرّ الخاضعون للأميركي والمصابون برهاب إزعاجه أو تحدّيه ملتزمين قوانين حصاره، صامتين عن مشهد الوجع السوري ومتجاهلين كافة "حقوق الإنسان" التي اعتاد الغرب أن يحاضر فيها ويدّعي بها علمًا وريادة!

وبعد هذا العرض، ثمّة واهمون يظنّون أن الحصار، كلّ حصار، هو عمل قانوني مشرّع في المواثيق الدولية وبأنّه ليس عدوانًا ولا يرتبط بالصراع الأزلي بين الخير والشرّ. ثمّة من لا يصدّق أنّ الحصار الاقتصادي والسياسي، مهما وُجدت له تشريعات دولية تناسبه، هو سلاح وجب أن يكون محرّمًا مراعاة لأبسط حقوق الإنسان المدّعاة! ثمّة من يشعر بالامتنان ناحية الأميركي الذي أقرّ بأنّه سيسمح بعبور المساعدات إلى سوريا ويعتبرها خطوة أخلاقية قام بها الأميركي دون أن يلتفت لأمرين أساسين: أوّلهما أنّ الذين هبّوا لنجدة سوريا لم ينتظروا الإذن الأميركي أصلًا، وثانيهما أن صدور هذا الإذن لم يضف إلا ما لا يذكر إلى قائمة المساعدات والبعثات الإغاثية إلى سوريا. وبالتالي، الحصار العدواني قابل للكسر بالنسبة للشرفاء رغم الحرص الأميركي على تطبيق كلّ مفاعيله، وهو لم يزل قائمًا رغم الاستثناءات المؤقّتة بالنسبة للخاضعين للأمر الأميركي! وإن كان إسقاط الحصار قبل الزلزال هو حقّ لكلّ من يرى فيه عدوانًا، فهو بعد الزلزال أمسى ضرورة طارئة لا تؤجّل، وحقيقة تبيّنت سهولة تثبيتها والتعامل معها كأمر واقع. فقد ثبت بالعين المجرّدة أن كسر الحصار لا يتطلّب أكثر من إرادة حرّة لدول ذات سيادة لا تهتمّ بالمعايير الأميركية ولا تبتغي رضاها كنا لا تخشى إزعاجها! بكلام آخر، كسر الحصار لا يتطلّب أكثر من قرارات سيادية تتخذها الدول بتجاهله والدّاعي الإنساني والأخلاقي اليوم حجّة على من يخشون عادة الدّواعي السياسية وقوانين العقوبات الدولية.

قانون قيصر

إقرأ المزيد في: سوريا.. نفــوسٌ أبـاةٌ