معركة أولي البأس

الأربعون ربيعاً

عن "هوَس" الأوّلين
22/06/2022

عن "هوَس" الأوّلين

حسين خازم

لم يكن في بال أحد من الذين جلسوا في غرفة العمليّات الاسرائيليّة المكلّفة بمتابعة سير عمليات "سلامة الجليل" أنّ القسوة المفرطة (على حدّ تعبير البعض) التي استعملها الجيش الاسرائيلي في اجتياحه للبنان ستُشعل عزيمة العشرات أو المئات كحدٍ أقصى من الشباب المسلم لينطلقوا في المهمة الأساسيّة: دحر الاحتلال الصهيوني.

 


كان صيف العام ١٩٨٢ لاهبًا في لبنان، وصلت شرارة ذلك اللهب إلى السّنوات اللاحقة. لم تُرضِ مشاهد التأقلم مع الواقع الجديد من خضوع البعض لآمال آل الجميّل وصولًا إلى خروج أبو عمار والمقاومة الفلسطينية من لبنان طموح أولئك الشّباب الذين اندفعوا يتشكّلون بين مقاتلٍ لـ"اسرائيل" ومعدٍّ لقتالها، كان ذلك قبل مجيء رسُل حرس الثورة الإسلاميّة من إيران.

مع عبور القوات الصهيونيّة الغازية من الضّاحية الجنوبية باتجاه بيروت الغربيّة وفشل المجموعات المقاتلة في منع ذلك التقدّم، بدأ بعض الشباب من ذوي الخبرة العسكريّة بجمع الذخيرة المتبقية، إضافةً لبعض القذائف والقنابل وحتّى الكراسات العسكريّة وما تبقّى من الفلسطينيين كذلك، ثمّ تعليم إخوانهم من الذين لا يملكون المعرفة العسكرية الكافيّة. كان ذلك التدريب بدائيًا ضمن بيوت الشباب، إلّا أن الإجماع على قتال "اسرائيل" لدى هؤلاء حالَ بينهم وبين العوائق الماديّة. كان ذلك في الضاحية الجنوبيّة.

اللّافت أنه وأثناء تلك الحملة العسكرية، شهد بيت سفير الجمهورية الإسلاميّة الايرانية في منطقة "المتحف" معركةً دامية خاضتها إحدى المجموعات الجهاديّة، قاتلَ فيها المجاهدون حتّى لم يبقَ لديهم ما يقاتلون به، وتحت أنظار بعض التنظيمات التي كانت تشاهد المعركة دون إطلاق أي رصاصة. إصرار المجاهدين في تلك المعركة دفعَ السفير الإيراني في لبنان آنذاك الشيخ موسى فخر روحاني إلى أن يشهدَ للشباب بأنّه لم يشهد مثل هذا القتال إلّا في جبهات الحرب المفروضة.

يضحكُ أحد الذين شاركوا في تلك المواجهات ثمّ درّبوا المجموعات الأولى حين يتذكر مجيء حرّاس الثورة: "قربَ صوفر أنشأ الإسرائيليون حاجزًا لا بدّ أن نمر به كي نصل إلى البقاع، وكانت آثار بندقيّتي ما زالت على كتفي، لم أترك آيةً قرآنية إلّا وقرأتها كي لا يلتفت اليهود لذلك، وهذا ما حصل."

في الجنوب، كانت خلايا المقاومة الإسلاميّة تتشكّل وتترابط مع بعضها بعضًا بتسلسلٍ "عنقودي" يتصل فيه الفرد بالمجموعة والمجموعة بمجموعة أخرى وصولًا إلى القيادة ورأس الهرم الذي كان في طور التشكّل. إحدى أشرس تلك الخلايا كانت في منطقة صور، برزَ فيها الشّهيدان الكبيران علي بدوي وعلي سليمان من بلدة باتوليه قضاء صور. بدوي العائد من السنغال حديثًا عمل مع رفيق دربه علي سليمان في ضرب العدو أينما استطاعا، وكانَا أيضًا على صلة بالشّهيد محمد حدرج أول شهداء آل حدرج الثلاثة وأخيه الشّهيد يوسف.

 

عن "هوَس" الأوّلين
الشهيد علي بدوي

 

عُرف علي سليمان بشجاعته وقدرته على تنفيذ بعض العمليات بنفسه. في فترة "القبضة الحديدية" استطاع سليمان تنفيذ عمليّة ضد دوريّة صهيونية ببلدة البازورية بمفرده. زرع سليمان الألغام ثمّ كمن للدورية في مكان قريب من الطريق العام إلى أن فجّرها قبل أن يخرج بهدوء تام بسيّارة "داتسون حمراء". تذكُر مَن شاهدت سليمان في لحظات العملية أنّه طلب منها الاختباء ومن كانت معها حرصًا على سلامتهما من عصف الانفجار والشظايا.

عن "هوَس" الأوّلين
علي سليمان

 

استُشهد سليمان في إحدى أخطر العمليّات برفقة الاستشهادي "أبو زينب الثاني"، أحمد بشير الحسن، حيث كان المخطط اغتيال شخصيّة اسرائيلية توازي "أمنون شاحاك" حين استهدفته المقاومة الإسلاميّة عام ١٩٩٥ بعمليّة استشهاديّة نوعيّة، إلّا أنّ النجاح لم يكتُب للعملية فنجا الصّيد الثمين "جدًا" من تلك العملية. كان ذلك في آذار من العام ١٩٨٥، ما يؤكد أن المقاومة الإسلاميّة كانت تدرس أهدافها جيدًا ولا تبذل الجهد والدمّ عبثًا منذ ذلك الوقت.

وشهدَت منطقة صور أيضًا، وأثناء تنفيذ عمليّة في منطقة وادي جيلو، أول شريطٍ مصوّر لعمليّة عسكرية تقوم بها المقاومة الإسلاميّة، عرضَ حزبُ الله مقاطع منه في احتفال يوم شهيد الحزب قبل أعوام. ليس واضحًا إن كانت تلك الفكرة مبادرةً فرديّة من الشّهيد فارس حاوي (ساجد) الذي صوّر الفيلم أو قرارًا من الرأي الأعلى، إلّا أن ذلك تُرجمَ لاحقًا مع دخول الكاميرا إلى ميدان المواجهة بعملية سجد الشّهيرة في أيلول من العام ١٩٨٦.

عن "هوَس" الأوّلين
ملصق إعلان شهادة علي سليمان (الأوّل يسارًا من الأعلى)، أحمد الحسن (الثاني يمينًا من الأسفل)، علي بدوي (الثاني يسارًا من الأسفل) ومعهم الأخوين محمد ويوسف حدرج إضافةً للحاج حسين جواد (أسفل الآية القرآنية) والمجاهدَين فارس حاوي (الأول يمينًا من الأعلى) وخضر جوني (الأول يمينًا من الأسفل) - المقاومة الإسلاميّة ١٩٨٥

 

اليوم، يشهدُ العالم للجيل الثالث من حزب الله والمقاومة الإسلاميّة، الذي راكَم القدرات والخبرات وورثَ عن الجيل الأوّل والثاني سيلًا من الإنجازات والشهداء، الجيل الأوّل الذي سُميَ بمجانين الله و"المهووسين"، والجيل الثاني الذي سُميَ بالمغامرين في عناقيد الغضب وتمّوزَين، لا زالوا يحملون الإرث الأثقل في تاريخ البشرية مخضبًا بدماء الشهداء ومطرّزًا بألوان الشمس والأرض، يتوارثون السنخة والأسماء والراية، خاضوا المعركة قبل سنوات عشر واستشهد بعضهم، أما بعضهم الآخر فيتنامى في جيش "المائة ألف ويزيدون".

إقرأ المزيد في: الأربعون ربيعاً