خطاب القائد
النص الكامل لكلمة الإمام الخامنئي في لقاء مع ناشطي «الدفاع المقدس»
النصّ الكامل لكلمة الإمام الخامنئي بتاريخ 20/09/2023 خلال لقاء مع جمع من الرعيل الأول وناشطي «الدفاع المقدس» والمقاومة في حسينيّة الإمام الخميني (قدّس سرّه). وتحدّث الإمام الخامنئي خلال اللقاء حول إنجازات مرحلة الدفاع المقدّس ومنها توسّع الحدود الفكريّة والمعرفيّة لجمهوريّة إيران الإسلاميّة حيث بات مفهوم المقاومة عالميّاً وترسّخ في فلسطين وسوريا والعراق وغيرها من الدول. كما رأى سماحته أنّ هذه المرحلة حصّنت إيران أيضاً أمام العدوّ الذي يهدّد باستمرار ولا يجرؤ على شنّ الهجوم العسكري لأنّه عرف من يكون الشعب الإيراني في الحرب.
بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا ونبينا، أبي القاسم المصطفى محمد، وعلى آله الأطيبين الأطهرين المنتجبين، [ولا] سيما بقية الله في الأرضين.
أشكر الله المتعالي كثيراً أنْ وفقني لحضور هذا اللقاء الرائع والجامع والهادف، وأشكر الذين أعدوا هذا اللقاء، كما أشكر الإخوة والأخوات الذين قدّموا برنامجاً في بداية اللقاء خلال هذه الساعة والنصف. كانت تلاوة القرآن جيدة والأناشيد ممتازة – كل من الشعر واللحن - وفقرة المديح جيدة جداً، وتحدث الخطباء عن مواضيع جيدة للغاية. تقريباً كان كل ما يلج في قلوبنا وأذهاننا عن قضايا «الدفاع المقدس» وعلاقتها بالناس ضمن كلمات هؤلاء السيدات والسادة، ولكن الأمر يستلزم التأمل والتفكّر لإيجاد الحل، إن شاء الله.ما أريد قوله هو أن واقعة «الدفاع المقدس» مرحلة بارزة ومهمة في تاريخ بلادنا. علينا أن ندرك هذه المرحلة والواقعة المهمة، ونعرّف أذهان الأجيال اللاحقة بها. اعتقادي الراسخ أنه إذا تعرّفت أجيالنا المتعاقبة إلى جوانب «الدفاع المقدس» المهمة والمليئة بالمعاني، وعلمت كيف تمكن الشعب الإيراني في هذه الواقعة المهمة أن يصل إلى منصة النصر ويعتلي هناك بكل اقتدار وفخر، فسيكون لهم في هذه المعرفة دروس عظيمة، وستنجز أعمال عظيمة. هذا اعتقادي الراسخ. تنبغي معرفة العظمة لهذه الواقعة. جرت أعمال كثيرة: تأليف الكتب، وإنتاج الأفلام، وسرد الذكريات، ولكن - في رأيي - لا يزال هناك مجال كبير للعمل. لم نتمكن حتى الآن أن نتعرّف إلى تفاصيل هذه اللوحة العملاقة المليئة بالزخارف والنقوش وأنّ نعرّفها. نحن ننظر إليها من بعيد [لكن] إذا اقتربنا منها، فإن في كل قطعة منها كثيراً من الجمال واللطافة، ومن الأعمال الغنية بالمضامين والمفعمة بالمعاني إلى حدّ أن يحار الإنسان. كل قطعة منها على هذا النحو ويجب أن يُعرّف بها.
طبعاً الآن من البديهي أنني لا أقصد جعل هذا الهدف عملياً في هذه الجلسة، فهو أمر غير ممكن أيضاً، إذ إنّه عمل ضخم وشاسع وشامل، ولكن أود أن أعرض بعض الجوانب. نحن نريد أن تتضح عظمة هذه الحادثة، وتمكن مشاهدة هذه العظمة من زوايا وجوانب عدة. إحداها زاوية الأمر الذي كان يجري الدفاع عنه لأنها مسألة دفاعٍ مقدس، [أي] عمّ كنا ندافع؟ هذه أولاً. [إذا] نظرنا من هذه الزاوية، فسيتضح جزء مهم من عظمة هذه الواقعة. الثانية من هذه الزاوية: مقابل مَن كان يجري هذا الدفاع؟ مَن الذي هاجم فكان من الضروري أن يحدث الدفاع؟ هذه زاوية أخرى وهي مهمة، في رأيي. الرؤية والزاوية الثالثة أنه مِن قِبل مَن هذا الدفاع ومَن كان المدافعون؟ وهذا أيضاً أمر عظيم ومهم، وسوف أتحدث لاحقاً عن كل واحدة منها بجملتين أو ثلاث. الزاوية الرابعة: ما كانت آثار هذا الدفاع ونتائجه؟ لقد ذكرت الآن هذه الاتجاهات الأربعة، وبالطبع يمكن النظر من جهات أخرى أيضاً. إذاً الأولى هي أنه يجب أن نبحث، أي أن نفكر ونستنبط عمّ كان يجري الدفاع. الثانية: ضد مَن كان الدفاع؟ الثالثة: عَبْر مَن؟ الرابعة: ما نتيجة هذا الدفاع؟ كل واحد من هذه الأمور مهم جداً، في رأيي. من المهم جداً أن نفكر ونتدبر في كلّ واحدة منها.وأمّا بشأن عمّ كان يجري الدفاع. كان يجري عن الثورة الإسلامية والجمهورية الإسلامية التي تعدّ نتاج الثورة، وعن صون سيادة البلاد. كانت هذه العناوين الثلاثة المهمة التي يجري الدفاع عنها. لقد هاجم الطرف المقابل هذه الأمور الثلاثة. طبعاً، الجبهة الأساسيّة والمهمّة للعدوّ - سوف أشرحها لاحقاً في ذاك القسم الثاني - لم يكن هدفهم قضيّة السيادة على أراضي البلاد، فقد كان ذاك هدف صدّام. كان هدفهم الثورة الإسلاميّة. كانوا يريدون أن يقمعوا هذه الثورة المنقطعة النظير والعظيمة والمهمّة التي وقعت في إيران ببركة تضحيات الناس. لماذا نقول منقطعة النظير؟ لأنّها كانت ظاهرة لم يسبق لها مثيلٌ في الثورات الكُبرى. كانت شعبيّة دينيّة أصيلة غير تابعة. لقد كانت مرتبطة بالشعب وعامّةً. لم تكن كالانقلابات وثورات الأحزاب وما إلى ذلك. استطاعت هذه الثورة أن تزيح نظاماً عميلاً وفاسداً حاكماً للبلاد وأن ترسي نظاماً جديداً ومقولة جديدة في هذه البلاد [أي] الجمهوريّة الإسلاميّة. الجمهورية تعني السيادة الشعبيّة، والإسلاميّة تعني الدين، والسيادة الشعبيّة الدينيّة كانت مقولة جديدة في العالم. ففي تاريخ الحكومات الدينيّة، [لكن] لم تكن قضية السيادة الشعبيّة مطروحة، وكان هناك حكومات ذات سيادة شعبيّة حقيقيّة أو صوريّة واسميّة دون أن يكون للدين دور فيها. حكومةٌ ونظامٌ يكون للدين والدنيا، والدنيا والآخرة، والناس والله، دور فيه وهم مَن يشكّلونه، لم يكن لمثل هذا الشيء أو الأمر سابقة، والآن حدث، [ولذا] أرادوا أن يجعلوه منكوباً ومقهوراً ويقضوا على الجمهوريّة الإسلاميّة. هذا هو الهدف.
كان هذا هدفهم ولا يزال. إنّه يحصل الآن أيضاً بذرائع مختلفة، لكن أولئك الذين يخاصمون ويواجهون ويعادون الجمهورية الإسلامية مشكلتهم قضية «الجمهورية الإسلامية»، والمسائل الفرعية والهامشية [الأخرى] تأتي في الدرجة التالية. هذه هي المشكلة الرئيسية، وكانت نفسها في ذلك اليوم أيضاً.
بالطبع، وفي خضم ذلك، كان لدى شخص خبيث وجشع وبعيد عن الخصال البشرية والإنسانية كلها مثل صدام [حسين] هدف آخر أيضاً: بالإضافة إلى القضاء على الجمهورية الإسلامية، [يريد] التعرض إلى سلامة أراضي البلاد وسلبها، ونهب الأجزاء الغنية بالنفط والثروات من البلاد وتقسيمها. كان هذا [هدفاً] أيضاً لكنّ الأطراف الآخرين في القضية لم يهتموا به كثيراً، إنما كانت تلك مشكلتهم الرئيسية. إذاً، يختلف الأمر كثيراً بين أن تقع حربٌ من أجل تغيير قسمٍ من الحدود بين بلدين، وأن تقع من أجل ما يشكّل هويّة شعبٍ معيّن. تحدث الحروب في العالم كثيراً، وهي حروب حدودية، من أجل الاستيلاء على الأرض، لكن تلك الحرب التي تسعى لاستهداف هويّة الشعب وكيان البلاد وثمرات تضحيات الشعب وهي الثورة الإسلاميّة، هذه الحرب تختلف عن تلك الحروب، وهذه الواقعة تختلف عن تلك الوقائع. لذلك، ما كان يجرى الدفاع عنه هي هذه النقاط الأساسية والمهمة. لم تكن القضية حصراً أن جزءاً من الحدود سيتحرك إلى الخلف أو الأمام، وأن تتغير الحدود الجغرافية، فمع أنها كانت مسألة مهمة أيضاً بالطبع، لكن أهميتها لا تمكن مقارنتها بتلك القضية. كان هذا من زاوية ما جرى الدفاع عنه، أي مسألة الدفاع.
بشأن الزاوية الثانية، أيْ: من كان المهاجمون؟ إذا نظرنا إلى القضية من هذا المنظار أيضاً، تتضح لنا عظمة «الدفاع المقدس» وأهميتها. تارة تهاجم دولةٌ دولةً أخرى - اتحاد من عضوين أو ثلاثة، أو حكومتين، أو قوتين، يهاجم مكاناً ما - وتارة يهاجم العالم كله دولة ما. كذلك كانت المسألة. ما أقوله ليس مبالغة، فعندما نقول «العالم كله»، لا نعني على سبيل المثال بعض البلدان البعيدة التي لا تؤثر في أوضاع العالم [إنما] احتشدت القوى البارزة في ذلك اليوم كافة في جبهة واحدة، وساهمت في هذه الهجمة ضدّ الجمهوريّة الإسلاميّة والثورة الإسلاميّة.
أمريكا على نحو، ومختلف الدول الأوروبيّة كلّ منها على نحو معيّن، ومعسكر الشرق في ذلك اليوم بقيادة الاتحاد السوفييتي على نحو آخر. كان يُقال أنّ المشجّع الرئيسي للهجوم على إيران كان الأمريكيّين - طبعاً نُشرت وثائق عن هذه الأمور [لكن] لم أُجرِ بحثاً أو لمْ أرَ، ولكن يقال وكان رائجاً وشائعاً أنّ المشجّع الرئيسي لهجوم صدّام على إيران كان الأمريكيّين - وبعد ذلك أيضاً كان الأمريكيّون يقدّمون طوال الحرب أهمّ دعم وهو الاستخباراتي. لم يكن ذلك اليوم مثل اليوم، ولم يكن هناك هذا الكم من الإمكانات، وكانت الخرائط الجوية موجودة بسهولة عند الأمريكيين، فكانوا يجرون مسحاً جوياً لموقع قواتنا وتموضعها ويزودونهم بخرائطها على نحو مستمر ومتواصل، وهذا أمر مسلّم، أي أن الأميركيين كانوا يقدّمون مثل هذه المساعدة، وكانوا يزودون صدام بأساليب الحرب – وفق التعبير الرائج عند الأصدقاء الذين باتوا يستخدمون أخيراً «الأسلوب» بدلاً من «التكتيك» - وبالأساليب العسكرية، أي التكتيكية. حتى الأوروبيّون، إذ زوّد الفرنسيّون العراق بأكثر التجهيزات الجويّة تطوّراً: مقاتلات «ميراج» و«سوبر اتندارد»، وصواريخ «إكزوست»، وكانت المعدات الأكثر تقدماً في العالم في ذلك اليوم، وقد قدّموها إلى صدام.
الألمان سلّموا صدام الإمكانات لصناعة الأسلحة الكيميائيّة التي نجمت عنها هذه الكوارث كلها في إيران والعراق نفسه وحلبتشه كذلك وما إلى ذلك وساعدوه. والآن، هؤلاء المدّعون أنفسهم في العالم كله اليوم بدرت منهم مثل هذه الجرائم. معسكر الشرق - الاتحاد السوفييتي ودول أوروبا الشرقية - كانوا يسلّمونه ويعطونه كل ما يحتاجه من تجهيزات بريّة وجويّة. يومذاك كانت الصواريخ غالية الثمن فتوصلوا إلى نتيجة أنه ينبغي أن يعطوه سلاح مدفعية يطاول طهران، وأعطوه، أيْ جهّزوا سلاح المدفعية عنده بما يمكّنه من استهداف طهران وإحداث زعزعة دون أن ترتفع مصاريفه. لقد فعلوا من أجله كل ما في وسعهم. العرب في منطقتنا، الحكومات العربيّة، وضعوا في متناوله أموالاً طائلة. هذه الأشياء كلها التي استوردوها واشتروها من [الدول] الأوروبية أُعطيت له بأموال أصدقائنا العرب! لقد أعطوا المال وكذلك أتاحوا طريق الحركة. كانت المنطقة الحدودية من الجزء الجنوبي للخليج الفارسي بصورة متواصلة مكاناً لحركة الشاحنات والآليات الثقيلة التي تجلب المعدات وتدخلها إلى العراق، أي إن الجميع ساعدوا. الجميع! هؤلاء كانوا المهاجمين. ماذا عنا؟ لم يكن لدينا مَن يساعدنا. حتى الإمكانات والأسلحة التي كنا مستعدين لدفع المال وشرائها لم يتم توفيرها إلّا نادراً. حدثت بعض الحالات البسيطة جداً وتمكنا بثمن أكبر من المتعارف وبعناء كبير من شراء بضاعة واستيرادها من مكان ما وبمشكلات كثيرة، ولم يكن لهذا أي تأثير إطلاقاً في وقف غياب التكافؤ في الحرب، أو أنه كان سيقلل مثلاً من غياب هذا التكافؤ. لم يكن الأمر كذلك.
حسناً، استطاع الشعب الإيراني في مثل هذه المعركة والمواجهة أن يعتلي منصة النصر ويُظهر نفسه أمام العالم بكل مجد. هذه هي العظمة.
في الاتجاه الثالث، أي من كان المدافعون؟ هذا أيضاً من الأمور الفريدة. طبعاً كان الجيش و«حرس الثورة الإسلامية»، وقوات التعبئة الشعبية حاضرة في إطار وحدات الحرس، وهي تشبه تقريباً ما هو في العالم، أي ظاهرها الوحدات المسلحة المتواجدة، لكن المسألة لم تكن هذه فقط. لم تكن هذه هي المسألة. نعم، كان ظاهر المدافعين، ظاهر الجيش والحرس، على هيئة هذه التنظيمات نفسها المتعارف عليها في العالم، لكن باطنهم كان شيئاً آخر. لم يكن باطنهم مشابهاً لجيوش العالم إطلاقاً.
أولاً كان قائد هذه المجموعة - الإمام الجليل - رجلاً إلهياً، عنصراً إلهياً منقطع النظير، فبالإضافة إلى العلم والفكر والخبرة والنضج في مختلف الجوانب - بالإضافة إلى كل هذا - كان [يمتلك] تلك الروح الزلال والصفاء المعنوي. لذلك، كان نَفَسُه مؤثّراً. [مثلاً عندما قال:] يجب إنقاذ باوة، سمعت من المرحوم شمران نفسه أنه قال: ما إن بُثّ بيان الإمام في الراديو عند الثانية بعد الظهر – كانوا تحت الحصار في باوة، وجرت السيطرة على المناطق المحيطة بهم - فجأة وعند بثّ هذا البيان [وفي حين] لم تكن أي قوة قد وصلت بعد، وحتى ربما لم تتحرك، رأينا أن محيطنا قد انفتح. هذا البيان نفسه ووَقْعُ هذا الكلام [كانا مؤثّرين]. سمعت هذا من شمران نفسه، ذلك الشهيد العزيز. [أو عندما قال سماحته:] يجب أن ينكسر حصار آبادان، فلا مردّ عن ذلك؛ لقد انكسر. في قضايا مختلفة، كقضية سوسنجرد وذلك الجدل بشأن الهجوم على سوسنجرد: هل نذهب وندافع أو لا، والمشكلات التي كانت... عندما وصلت رسالة الإمام – عبر وسيط - انتهت المسألة. إن أثر الكلام لقيادة مثل سماحته يكون بالاستفادة من الروحانية والصفاء ونَفَسه الدافئ.
ثم الصبغة الدينية لـ«الدفاع المقدس»، الصبغة الدينية. عندما يكون هناك صبغة دينية، تغدو النتيجة أن هذا الشاب يتحرك بشوق الشهادة - اقرؤوا هذه السيَر وشروحات الحال التي كُتبت – وينطلق بشوق الشهادة وأمنية بالشهادة، ويبكي من أجل الذهاب إلى الجبهة، على أمل أن يتمكن من أن يصير شهيداً. هذه نتيجة الصبغة الدينية. كانت الأُسر والآباء والأمهات والأزواج ترضى بذهاب هذا الشاب إلى الجبهة في سبيل الله. لقد زرت مراراً أمهات الشهداء اللواتي استشهد لهن ابن أو ابنان مثلاً، وكنّ يقلن: لو كان لدينا عشرة أبناء أيضاً، فإننا مستعدون أن يصيروا شهداء. كنّ يقلن الصدق. لقد كنّ يقلنه حقاً. طبعاً، في هذا المعرض هنا، عرضوا لنا حالات كانت فيها [سيدةٌ] والدة لتسعة شهداء. هل الأمر مزحة؟ أم لتسعة شهداء، وأم لثمانية! هل يمكن تصور هذا الأمر أصلاً؟ لكن هذا ما حدث. لقد رأيت بنفسي عائلة في كردستان حيث سبعة من عائلة واحدة - ما يتبادر إلى ذهني الآن سبعة – [استشهدوا]. في المرة الأولى التي رأيتهم فيها، كانت والدتهم على قيد الحياة، ووالدهم أيضاً، وبعد ذلك توفّي الأب. سبعة شهداء من عائلة واحدة! ماذا يمكن أن يكون هذا سوى العامل الديني؟ [إنه] عامل الدين. هؤلاء كانوا المدافعين.
الخطوط الأماميّة لجبهتنا كانت محراباً للعبادة، فأن يجلس في منتصف الليل شابٌّ، قائدٌ – أو غير قائد – لسريّة أو كتيبة، ويذرف الدموع ويؤدّي العبادة، لا يقتصر نقل هذا الأمر على نموذج أو اثنين أو عشرة، بل كان مشهوداً في أقسام هذه الجبهة كافّة. في أيّ مكان في العالم وأيّ حرب وأيّ نزاع عسكري تجدون مثل هذه الحالة؟ الشوق إلى الشهادة، التوسّل، التوجّه إلى الله - جلّ وعلا -، تمنّي الشهادة... وأمثال هذه الأمور، وبعد ذلك المشاركة العامّة للشعب، أي إنّ جبهة الحرب لم تكن مقتصرة على منطقة توجيه الضربات وتلقّيها، بل كانت الخطوط الخلفيّة أيضاً جبهة حرب. [مثلاً] في ما يرتبط بمكان توفير القوات، عادةً ما تكون المعسكرات أماكن لتوفير القوّات. هنا كانت المعسكرات، والمساجد أيضاً، والهيئات، والجامعات كذلك، والحوزات، والمدارس والثانويّات. كان المعلّم في الصف يلتحق بالجبهة، فينطلق التلاميذ خلفه ويذهبون إلى هناك. كم لدينا من التلاميذ شهداء! كم لدينا من الطلاب الجامعيّين شهداء! كم لدينا من طلاب الحوزات شهداء! مساجدنا ومنابرنا وخطباؤنا كلّهم كانوا في خدمة هذه الحركة العظيمة، أي إنّ جمعاً كبيراً من هؤلاء كانوا في خدمة هذه الحركة العظيمة. هؤلاء كانوا المدافعين.
في مختلف قطاعات الدعم، كانت الأُسَر وربّات المنازل والآخرون [حاضرين أيضاً]. في قطاع الدعم للمجاهدين، كان غسل الألبسة الملطّخة بالدماء للمجاهدين – بركة الدم، الكتاب الذي أُلِّف وذكرته يوماً ما أيضاً – ومن هذا القبيل. كان الشعب كلّه منشغلاً. لا أقول إنّ آحاد الشعب كانوا حاضرين، لكن هذه الحركة كانت حاضرة على مستوى عامّة الناس وضمن مختلف الطبقات الاجتماعيّة ولم تكن محصورة في مجموعة معيّنة، ينطلقون من المعسكرات ويقاتلون ثمّ يعودون. يُمكن إدراك عظمة أيّ حدث من هذه الناحية على نحوٍ جيّد، ومن هذا القبيل. أعتقد أنّه يمكن في هذا القسم، خاصّة في هذا القسم الثالث، إنجاز عشرات الأعمال التبيينيّة والفنيّة، ولا يقتصر الأمر على [تدوين] الكتب. طبعاً، أخبروني هنا أنّه يجري إنتاج فيلم مستند على كتاب بركة الدّم هذا، [لكن] يمكن تنفيذ مئات الأعمال الفنيّة الجذّابة من هذا القبيل ولا بدّ منها - إن شاء الله - وقد أُنجز بعض الأعمال حتى الآن أيضاً ويجب أن يُضاف إليها.
أمّا من ناحية المكتسبات، فليست المكتسبات واحدة أو اثنتين. لو أراد الإنسان الخوض في هذه المقولة: ماذا كانت مكتسبات «الدفاع المقدّس»، فستصير كتاباً مؤلّفاً من عشرات المجلّدات. سأكتفي بعرض نقطتين أو ثلاث في هذا المجال. بداية: صون سيادة أراضي البلاد، وطبعاً هذا إنجازٌ مهمّ، أي إنّ العالم كلّه احتشد خلف صدّام لكي يكسروا هذه الحدود، وبذلوا قصارى جهودهم ثمانية أعوام أيضاً، ولم ينقص في نهاية المطاف شبرٌ واحد من أراضي هذه البلاد. ليس هذا بالأمر الهيّن ولا القليل. إنّه في غاية الأهميّة. حسناً، هذا أحد المكتسبات لكن هناك مكتسبات أخرى أكثر أهميّة منه.
أحد المكتسبات كان أنّ الشعب الإيراني اكتشف عظمة قدراته. لاحظوا الآن هؤلاء السادة والسيّدات الشبّان الذين جاؤوا وتحدّثوا هنا ويكرّرون القول: فلنستفد في إدارة البلاد والاقتصاد وأمثال هذه الأمور من أساليب الحرب المفروضة و«الدفاع المقدّس» ولنطبّقها. ما الذي يعنيه هذا؟ إنّه يعني أنّ قدرات الشعب الإيراني تجلّت في «الدفاع المقدّس» لدرجة أنّ الجميع يريدون اتّباع تلك البرامج في قطاعات إدارة البلد كافّة وتقدّمه وارتقائه، أي إنّ «الدفاع المقدّس» قدّمت إلى الشعب الإيراني صورة جعلته يعرف نفسه. ما قيل لنا على مرّ التاريخ وما تمّ فعله معنا كان خلاف هذا. في العصر القاجاري وكذلك البهلوي، لُقنّا أنّنا لا نقدر ولسنا شيئاً نُذكر ولا كفاءة لدينا وأنّ القوى العالميّة قادرة على إزالتنا من على وجه الأرض بإشارة واحدة. هذا ما علّمونا إيّاه. دوماً قالوا لنا هذا: لا بدّ أن نتعلّم منهم ونسير خلفهم ويجب أن نطلب منهم. «الدفاع المقدّس» أثبتت لنا العكس: أولئك أنفسهم الذين يتّصل بهم شريان حياة بعضهم وآمالهم، أولئك أنفسهم يتكاتفون ويأتون ليُقْدموا على حركة ضدّ شعب معيّن ويعجزون عن ارتكاب أيّ حماقة. هذا ما أثبتته للشعب الإيراني.إنّنا اكتشفنا قدرتنا. لقد اكتشفنا أنّ شابّاً مثل الشهيد حسن باقري مثلاً – لا أرغب في ذكر أسماء الأحياء، فلدينا بين الأحياء أيضاً كثيرون من هذا القبيل – ينهض ويأتي إلى ميدان الحرب ويتحوّل خلال مدة قصيرة إلى صانع للإستراتيجيّات. وفق التعبير الرائج: إستراتيجي الدفاع والحرب. هل هذه الموهبة مزحة؟ أين كانت هذه الموهبة؟ لقد كان الشهيد حسن باقري شابّاً صحافيّاً في إحدى الصّحف ويكتب المقالات في [صحيفة] جمهوری اسلامی. برزت هذه الموهبة. لدينا الآلاف من قبيل هذه المواهب: موهبة الإعمار [مثلاً]. بنوا جسراً على شطّ نهر أروند المتوحّش وجعلوا كتائب عدّة تمرّ فوقه تحت نيران قصف العدو. هل هذا أمر هيّن؟ هل كان هذا العمل ممكناً؟ لم يكن العدوّ يصدّق حدوث مثل هذا الأمر لكنّه حدث. كانت هذه قدرة وإمكانيّة وموهبة. لقد كانت مكنونة وتجلّت. هذا من المكتسبات المهمّة. نحن الآن وبالاعتماد على تلك الأعمال التي أنجزها شبابنا ذلك اليوم في «الدفاع المقدّس» قادرون على القول بكلّ ثقة إنّ شبابنا قادرون اليوم على حلّ مشكلات هذه البلاد كلها. وما قيل: «في تَقلُّبِ الأحْوالِ عُلِمَ جواهِرُ الرِّجالِ» ليس خاصّاً بالأفراد [فقط] بل هكذا حال المجتمع أيضاً. تمكن معرفة المجتمع في خضمّ الأحداث القاسية والصعبة. نحن لم نكن نعرف أنفسنا، والآخرون أيضاً لم يكونوا يعرفوننا، والعالم كذلك. في «الدفاع المقدّس»، عرفنا أنفسنا وعرفنا الآخرون أيضاً. أولئك الذين كان لديهم ادعاءاتهم في العالم أدركوا هذا الأمر.
من المكتسبات الأخرى في «الدفاع المقدّس» تحصين البلاد هذا، أي تحصين البلاد. إنّ «الدفاع المقدّس» حصّنت البلاد إلى حدّ كبير مقابل الهجمات العسكريّة المحتملة. كانوا يقولون باستمرار إنّ الخيار العسكريّ على الطاولة لكنّه لم يُحرّك من عليها لأنّهم كانوا يدركون أنّهم لو خاضوا هذا الميدان، [صحيح] أنّ البداية ستكون في أيديهم، لكنّ نهاية الأمر لن تكون كذلك. هذا ما أثبتته «الدفاع المقدّس». هذا أيضاً أحد المكتسبات. الإيمان العميق والصادق، والعزائم القويّة والراسخة، وذكاء الشباب الإيرانيين، والقدرة على الإبداع والتجديد لدى العناصر العسكريّين وغير العسكريّين، وقدرة التغلّب على جبابرة العالم... كانت هذه الأمور التي تجلّت في «الدفاع المقدّس» واتّضحت لدى شعبنا ومجاهدينا. حسناً، الشعب نفسه أيضاً عرف هذه الأمور، وبطبيعة الحال حين عرفناها وأدركنا امتلاكنا هذه القدرات، سيرتفع منسوب الأمل لدينا ويزداد نشاطنا وسنبادر أكثر إلى الاستفادة من هذه القدرات. في مقدورنا أيضاً الاستفادة من هذه الأمور في سائر الميادين أيضاً. هذا من المكتسبات المهمّة لـ«الدفاع المقدّس».
من المكتسبات الأخرى لـ«الدفاع المقدّس» هي أنّها وسّعت حدودنا. لا أقصد الحدود الجغرافيّة، فنحن لم نكن نسعى وراء توسيع حدودنا الجغرافية لا في ذلك اليوم ولا اليوم. نحن لا نسعى إلى توسيع حدودنا الجغرافيّة. لقد وسّعت حدودنا الأخرى. وسّعت حدود المقاومة على سبيل المثال، وهذا أحد النماذج. إنّ مفهوم المقاومة اليوم وخيار المقاومة خيار متجذّر. ففي فلسطين هناك مقاومة، وكذلك في غربي آسيا. هناك مقاومة في مختلف البلدان. في العراق، توجد مقاومة، والمقاومة حاضرة في إيران ومختلف الأماكن. طرح «الدفاع المقدس» خيار المقاومة في العالم ودفعه إلى الأمام ورسّخه. [كذلك] في عدد من الأماكن في العالم. قد لا نصدّق نحن أيضاً أنّ أعمال الشعب الإيراني تركت أثرها في البلدان البعيدة، لكنّها أثّرت، ونحن مطّلعون عليها. لا أرغب في ذكر أسماء الدول في الشرق، أي آسيا، وكذلك في أفريقيا وأمريكا اللاتينيّة. كثيرٌ من أعمال الشعب الإيراني غدت قدوة لعدد من أفرادهم. هذا هو توسّع الحدود. لقد توسّعت حدودنا الفكريّة والمعرفيّة. إنّه أهمّ نجاحٍ يحقّقه أيّ شعب: أن يتمكّن من نشر ثقافته ومعارفه وتطلّعاته في العالم، وهذا حَدَث عبر «الدفاع المقدّس» بصورة أساسية. هذه الأعوام الثمانية من «الدفاع المقدّس» صنعت معجزة في هذا الأمر.
لقد نشرت ثقافة الاعتماد على الذات. حسناً، أنتم تعلمون أننا عندما نقول المقاومة، نريد أن نعرف: المقاومة في وجه من؟ إن منطقتنا، أي غربي آسيا هذه، هي لأسباب مختلفة من المناطق التي تشخُص أعين الساعين وراء السلطة في العالم إليها، وحظيت باهتمام القوى العظمى في العالم بسبب مصادرها وموقعها الجغرافي، ولمختلف الأسباب الخاصّة بها، ولكونها مركز الإسلام، وكانوا يريدون أن يتدخّلوا، وترون الآن أنّ القوى العظمى يتدخّلون أين ما سنحت لهم الفرصة لذلك.
المقاومة تعني الوقوف في وجه هؤلاء: المقاومة في وجه الحضور المتعجرف للقوى التي لا تملك أيّ حق في الوجود في هذه المنطقة. لقد نشرت المقاومة هذه الثقافة. عندما ترون أنّ قضيّة حضور إيران في المنطقة تجعل صراخ أمريكا وبعض الدول الأخرى يعلو، هذا هو السبب، وهذا ما تعنيه [جمل] «حضور إيران» و«تدخّل إيران»، لكننا لا نتدخّل. نعم، لدينا حضور، وهو معنوي. الآخرون لديهم قواعد في كثير من دول هذه المنطقة رسمياً، ونحن ليس لدينا، لكن عندنا حضور معنوي، وحضورنا المعنوي أكبر مما لديهم. وصراخهم يعلو بسبب هذا. إنه ما منحتنا إياه [مرحلة] «الدفاع المقدّس».
من آثار «الدفاع المقدّس» تنامي فكر المقاومة داخل البلاد نفسها ورسوخه. أعزّائي، مرّت أكثر من ثلاثين سنة ونيف على الحرب، وخلال هذه الأعوام الثلاثين ونيّف تعرّضنا للهجوم كثيراً، وشهدنا إثارة الفتن كثيراً في القطاعات شتى. كثيرٌ من هذه الحالات لم يلتفت إليها آحاد الناس لكنّنا شهدناها. بعضها كان على مرأى من عيون الجميع وقد لاحظتموها في مختلف السنوات. هذه الفتن كلها باءت بالإخفاق أمام الشعب الإيراني. لماذا؟ لأنّ هذا الشعب رسّخ في نفسه ثقافة المقاومة. إنّ رسوخ ثقافة المقاومة في البلاد على مدى هذه الأعوام الثلاثين ونيّف نابعٌ من المقاومة طوال الأعوام الثمانية لـ«الدفاع المقدّس». لـ«الدفاع المقدّس» حقّ الحياة في رقبة هذه البلاد. بعضهم يشوّهون، وآخرون يُلقون الشبهات، وبعضهم يشوّهون، ومنهم من يطلقون الأكاذيب الصريحة بشأن مختلف قضايا «الدفاع المقدّس». يجب أن يتصدّى للتبيين في مقابل هؤلاء من في مقدورهم التبيين. يجب أن نُبيّن عظمة الجهاد المقدّس و«الدفاع المقدّس» أكثر فأكثر يوماً بعد يوم، وأن نتحدّث عنها ونشرحها. هذا في عداد المسؤوليّات.
هذه الأعمال الحاليّة الجاري إنجازها – قدّموا التقارير عن بعضها – جيّدة [لكن] يجب أن تصير مئة ضعف. لدينا القدرة والأفراد والموهبة. يمكننا إنجاز الأعمال الفنيّة وإنتاج الأفلام الجيّدة وتدوين الكتب الجيّدة وتأليف الروايات التي تحكي الأحداث. نحن قادرون [لكن] يجب ألّا ننسى الهدف خلال أداء هذه الأعمال الفنيّة وألّا نضيّعه. في بعض الأحيان، يُنجز عملٌ فني والنيّة دعم هذا النهج لكن لا يكون هذا ما يحدث على أرض الواقع. هذا سببه بروز تحيّر واضطراب فكري أثناء السير فيُنسى الهدف ويُضيّع. يجب أن تكونوا ملتفتين إلى هذا الأمر. لا بدّ من إنجاز كثير من الأعمال الفنيّة، وكلّ شخص على النحو الذي يقدر عليه. كان هذا ما وددنا قوله اليوم عن قضيّة «الدفاع المقدّس».
لكن أريد أن أقول شيئاً مقتضباً بشأن القوات المسلَّحة، وذلك أيضاً يتناسب مع هذا اليوم. كابدت قواتنا المسلَّحة في مرحلة الحرب مشقَّات جمَّة، وبذلت جهداً عظيماً، وتحقَّقت بالفعل تضحيات كبرى في مختلف القطاعات. سأذكر بضع جمل عن القوات المسلحة.
أولاً إنَّ القوات المسلَّحة من ضمن الأصول الحتميَّة لكل مجتمع، فحضورهم ووجودهم ضمن تلك العناصر الأساسية التي لا يبقى مجتمعٌ ما قائماً دونها. فأن يقول شخص كأمير المؤمنين (ع): «الجنودُ حُصُونُ الرَّعِيَّة» - أمير المؤمنين هو من يقول هذا، فليس مزحة – معناه أنَّ القوات المسلحة صانعة الأمن. لا بدّ من معرفة قدر القوات المسلَّحة. يجب النظر إلى عزَّة القوات المسلَّحة وكرامتها أنها ضمن القضايا اللازمة والضرورية. علينا أن نرى أنَّ إجلال القوات المسلَّحة واجبٌ. هكذا هي القوات المسلَّحة: صانعة الأمن. والأمن كلُّ شيءٍ. فلولا الأمن، ما كان أيضاً العلم، ولا حتى الاقتصاد، ولا أيضاً راحة البال الأُسريَّة، ولا السكينة. الأمن هو كل ما يملكه أي بلد. القوات المسلَّحة صانعة الأمن. يجب الاعتناء بالقوات المسلَّحة من جوانب مختلفة، والنظر إلى حضورها غنيمةً، وتكريم جهودها سواء أولئك الذين يصنعون هذا الأمن عند الحدود، أو الذين يصنعونه في الداخل. لقد حرس بعضهم الثغور لكيلا تتسرب الفوضى من خارج الحدود، وراقب بعضهم هؤلاء الذين يختلقون الفوضى في الداخل، فهؤلاء أيضاً قيِّمون. يجب الاهتمام بهم. الطبيعي أنَّ العدو يُركِّز أيضاً على هذه المسألة. من الأمور التي يُركِّز عليها أعداؤنا القدح بقِيَم القوات المسلحة أو بشرفها وكرامتها. يعملون في هذا المجال بالأساليب التي يملكونها شتى، فينبغي الحذر.
عندي - أنا العبدَ - مسألة موجَّهة إلى القوات المسلحة أنفسِها، وفي نظري أنها كذلك مهمَّة للغاية، وهي أنَّ منطق القوَّة في الإسلام ليس هو منطق «الاستعلاء». بلى، هو كذلك في الأنظمة المادية، فالقوة تعني الاستعلاء. الاستعلاء معناه العلو على الآخرين، وعدُّ النفس أفضل من الآخرين، وفرضُ النَّفس على الآخرين، وأن يُنيخ [المرء] بكلكله على عاتق الآخرين وإذلالهم. هذه هي القوة في الأنظمة المادية، فمن نال القوة، يستعلي. من المفاهيم السلبية في القرآن مسألة الاستعلاء هذه: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الأَرْضِ} (القصص، 4). هذا هو الاستعلاء. ليس منطق القوة في الإسلام الاستعلاء، أي مهما ازدادت قوَّتكم، ومهما عَلَت إمكاناتكم الذاتية أو القانونية، يتعيَّن أن يكون تواضعكم ومُرونتكم وإقبالكم بوجهكم على الله أكثر.
قد يكون غالبكم سمع بقصة مالك الأشتر. كان مالك الأشتر الشجاع القوي الرشيد، وقائد جيش أمير المؤمنين (ع)، ويد أمير المؤمنين القوية – مالك الأشتر هو كذلك – كان يمشي في الكوفة حيث أن هذه الحادثة حصلت في الكوفة كما يبدو، فلم يعرفه شاب أو يافعٌ فأخذ يسخر [منه]. مثلاً لا بد أنَّه كان يعتمُّ بعمامة أو يرتدي قميصاً صار مدعاة لسخرية ذاك الصبي. سخر منه قليلاً وضحك، لكنه لم يقل شيئاً ومضى. ولمَّا مرَّ ومضى، قال شخص لهذا الصبي: هل علمت من هو حتى سخرت منه؟ قال: لا. قال إنَّه مالك الأشتر. خاف الصبي وقال إنَّ مالك الأشتر هذا الذي تصرُّفتُ معه بهذه الطريقة ماذا سيفعل بي أو بأسرتي؟ قال: ما أفعل؟ قال: اذهب واعتذر منه. فمضى الصبي خلفه ليعتذر منه فرأى مالك الأشتر في المسجد يصلي. مكث هذا الصبي، وما إن انتهت صلاته، حتى تقدَّم وقال: اعذرني، يا سيدي، ما عرفتُك، ولقد أسأتُ الأدب... وأمور من هذا القبيل، فاصفح عنِّي. قال مالك الأشتر: أتيتُ المسجد وصلَّيتُ هاتين الرّكعتين لأدعو لك. في النهاية إنَّ شخصاً أو شاباً يعمد إلى مثل هذا السلوك المُشين يحتاج إلى الدعاء، ويجب الدعاء له. قال: أتيتُ لأدعو [لك]. هذا هو مالك الأشتر، فلاحظوا.
كلَّما كان موقعكم العسكري وقوَّتكم أعلى وأكثر، يجب أن تتواضعوا وتُشفقوا أكثر. لا يتنافى الاقتدار مع اللسان الحسن، ولا منافاة مطلقاً بين الاقتدار والسلوك العطوف. سمعتم أنَّ هذا السيد قال: يشارك شاب في الفتنة، ومن بعدها يدخل السجن ثم يشمله العفو ثم يخرج من السجن. تنطلق [قافلة] راهيان نور فينضم إلى راهيان نور لا من أجل مشاهدة الجبهة إنَّما للسياحة ويقول: فلنذهب ولنجُلْ جولةً. ثم إنَّ هذا الراوي يقول هناك بضع كلمات فيذرف [الشاب] الدمع وينتحب، ويأتي ويقول: كان هذا قلّة مروءة، أي إنّه يقول ذلك بنفسه. لا يتنافى الاقتدار مع اللسان الليِّن، فبهذا اللسان يمكن أحياناً تحقيق كثير من النجاحات أكثر وأفضل. بالطبع ثمة مواضع تستلزم أن يعمل الإنسان بأسلوب آخر، فلكل موضع مقتضياته. فلتعرف القوات المسلحة قيمة عملها ولتُقدِّره ولتولِه أهمية ولتفتخر بالعمل الذي تؤديه، والناس بدورهم عليهم أن يُقدِّروا هؤلاء.
لنعلم جميعاً أنَّنا ما دمنا نعمل في سبيل الله ومن أجله ونتحرَّك ونتكلَّم سيُعيننا الله، فهذا هو الوعد الإلهي: {إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ} (محمَّد، 7)، {وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ} (الحج، 40)؛ لئن كانت نيَّتكم نصرة الله، فلا جرم أنَّ الله المتعالي سيُساعدكم. أحياناً نفهم بأنفسنا كيفية المساعدة ونتعرَّف إليها، وأحياناً أيضاً لا نفهمها ونرى أنَّنا أُعنِّا وأنَّ الأمور سلكت وتقدَّم العمل؛ هذا هو العون الإلهي. فلنجعل النيات إلهيَّة. وليس معنى النيَّة الإلهية أنَّنا كلما أردنا أن نخطوَ خطوة ما، نقول حينها مثلاً: أنا أؤدي هذا العمل رضًى لله. لا، فمجرد أنَّكم ترحمون الناس هو نيَّة إلهيَّة، ومجرد أنَّكم تريدون خدمة البلاد هذه نيَّة إلهيَّة، ومجرد أنَّكم تريدون إنتاج عمل فنيّ يهدي بضعة أفراد هذه نيَّة إلهيَّة. ما إن خُضْنا بنيَّة إلهية، فإنَّ الله المتعالي سيُعيننا أيضاً.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.