معركة أولي البأس

#جماعة_82

الشهداء حدرج.. مشاهد من جيل التأسيس
09/11/2021

الشهداء حدرج.. مشاهد من جيل التأسيس

هدى محمد رحمة

     كانت المرة الأولى التي أدخل فيها إلى غرفة غسيل الكلى في المشفى، وذلك أثناء إنجاز العمل الأول لي في اختصاصي في الإعلام، ليُعرض على شاشة قناة "المنار". كان الأمر بالنسبة لي تحديًا كونه العمل الأول، وكون الوقت ضيقًا. من أواخر عام 2011 بدأت العمل، ليكون تسليم العمل قبل ليلة عيد الأم من العام 2012. والحالات داخل هذا الفيلم كثيرة، عددها ثمانٍ، كلٌّ في ناحية. هنّ ثماني أمهات، فخر الأمهات، قدّمت كل واحدة منهن ثلاثة أبناء شهداء، ليكون عنوان الفيلم "سنابل".

     أول من زرت كانت أم الشهداء "حدرج"، الحاجة "مريم طباجة". عند الدخول إلى غرفة الاستقبال في منزلها تطالعك صورة كبيرة لأبنائها الثلاثة، كواكب درية، تشعر بالضوء يخرج من الصورة، وينتشر في المكان. تأخذك الصورة، تغوص فيها، كانت هذه المرة الأولى التي أرى فيها عن قرب صورة واحدة واضحة لثلاثة شهداء إخوة، لا يتجاوز عمر الواحد منهم العشرين عامًا. لم أستطع إبعاد نظري عن الصورة. ووجدت لحظتها كادر التصوير أمام صورة الكواكب الثلاثة.

     وهي، الأم التي أنجبتهم وربتهم، ساكنة هادئة، تجيب عن أسئلتي مبتسمة، يؤنسها الحديث عنهم، وعن قصصهم. منذ ما قبل لقائنا بعام ونيّف كانت قد بدأت بغسيل الكلى. رافقتها في أول يوم تصوير لها إلى غرفة غسيل الكلى في المستشفى. هناك رأيت ماكينة الغسيل، الخراطيم الشفافة وبداخلها الدم يجري، وقطعة داخل الماكينة تدور وتدور، والأفكار داخل رأسي تدور معها. هي قدمت ثلاثة أبناء، ربتهم بدموع العين وسهر الليل، ليستشهد الواحد منهم تلو الآخر، وفوق نار الفراق، وجعٌ جسديّ. فقد علمتُ منها كم أن عملية غسيل الكلى، والتي تجريها لثلاث مرات أسبوعيًا، تضني الجسد، فتبقى متعبة منهكة لباقي اليوم.

الشهداء حدرج.. مشاهد من جيل التأسيس

     وفي يوم تصوير المقابلة، تقف أمام الصورة، ولا تتعب من الوقوف وهي تتحدث عن أقمارها في الصورة وراءها. تتحدث عنهم مستأنسةً بذكرياتهم، فخورة بشهادتهم. تشير إلى الصورة "بيقولو الولد فلذة من الكبد، هاو هني ولادي".

     استشهد ابنها محمد عام 1985. كان دائمًا ما يردد لها "يا تقبريني يا حجة بدي جيب تراب من تحت إجريكِ وإتيمم فيهن عند ما اوقف بكل طاعة صلا بس كون بالجنوب." على دفاتره وكتبه المدرسية كان توقيعه الدائم وختمه وخاتمته "الشهيد البطل محمد حدرج". كان محمد يولي اهتمامًا خاصًا بعيد الأم، وهو صاحب النهفات المحببة. في يوم عيد الأم أحضر لأمه هدية عبارة عن مجموعة زجاجية للمطبخ، وكلما كان يهم بالخروج من المنزل يطالبها بالهدية مازحًا "اعطيني الطقم بدي آخدو معي". تضحك الأم وهي تروي نهفاته.

     استشهد محمد في شباط، لكن لم يجد الإخوان جثمانه. توجه أخوه يوسف إلى الجنوب باحثًا عن جثمان أخيه الشهيد محمد، ليجد الجثمان في أوائل شهر آذار. وعند تواصل الأم وابنها يوسف طالبته عاتبة "ليه ما نزلت مع جثمان خيك؟" فكان جوابه "ما بدي كون ضعيف قدام خيي". وكما كان محمد شهيدًا بطلًا، كذا كان يوسف. استشهد الأخ بعد شهادة أخيه بشهرٍ ونصف، أي في حوالي ذكرى أربعين أخيه. استشهد يوسف وعمره ثمانية عشر ربيعًا، وحتى وهو في عمرٍ أصغر، كان زواره من الرجال والكبار، يسألون أمه عنه "الشيخ يوسف هون؟" تضحك أمه معه حين يقول لها يوسف "هاو رفقاتي"، "شو رفقاتك يعني أديش في فرق بالعمر!". يجيبها يوسف "ما خص العمر، الأصل العقل يكون كبير."
     دائمًا ما كانت تشعر الأم بوجود ابنيها الشهيدين محمد ويوسف في المنزل وبجانبها، خصوصًا في أصعب أوقاتها.

     بعد حوالي عامين، عام 1987، يستيقظ ابنها حسن ليقول لها "عندي شغلة زغيرة وراجع". لم يكن يعلم حسن حينها أن ما ينتظره هو الشهادة، وهي أمرٌ عظيم. سمعت الأم صوت الانفجار، دبّ القلق في قلبها، سمعت صوت الإسعاف، والضجة في الحي، لكن لم يخطر ببالها أن ابنها هو الذي داخل سيارة الإسعاف. في اليوم الثاني اشتعل قلبها قلقًا عليه لأنه لم يعد، لتعود وتستقبل خبر شهادته.

     "حسن" الذي كان أنيس أمه بعد شهادة أخويه، وكان لا يخرج من المنزل قبل أن يوصي إخوته بها "انتبهولها لإمي، ما تتركوها لحالها". كان يرافقها إلى روضة الشهيدين لزيارة أخويه الشهيدين، ليجاور ضريحه ضريحهما بعد عامين.

     الأم التي استشهد أبناؤها الثلاثة تختصر مشاعرها بغصة "فرقتهن مش هينة، فرقتهن صعبة، صار الحمل كبير والوجع كبير، والله إذا أحب عبده ابتلاه". تختم هذه الأم العظيمة بضوع مسكها "أنا الله سبحانه وتعالى خصني كرمني وأعزني وأخد هالكوكبة من بيتي لإعتز بالدنيا وبالآخرة".

     بمثل هكذا أم لا تبخل بالعطاء، ولا تكتفي، راضية مسلِّمة فخورة معتزة بأبنائها الشبان الذين لم يتجاوزوا العشرين عامًا شهداء، أمتنا تبقى بألف خير وعز.

     منذ بضعة أيام التقت الحاجة "مريم طباجة" بأبنائها الشهداء، راضية مطمئنة، وما أبهى لقاء الأم بالفلذات الشهداء، من وضعتهم في بطن الأرض، لتحصد الأمة أجمع، زرع هذه الأم، عزًا وانتصارًا يتلوه انتصار.

يوم الشهيد

إقرأ المزيد في: #جماعة_82

التغطية الإخبارية
مقالات مرتبطة

خبر عاجل