معركة أولي البأس

أفغانستان

تركة الاسلحة الاميركية في افغانستان: انتشار المتاجر الحربية من المسدس الى المدفع(2)
11/10/2021

تركة الاسلحة الاميركية في افغانستان: انتشار المتاجر الحربية من المسدس الى المدفع(2)

د. علي دربج(*)
محقون هم الافغان. لا يشعرون بالزمن، فهو لم يتغير عندهم. مسلسل الغزوات لبلدهم الذي لا ينتهي، سئموا مشاهدته وبات مملا، بعدما حفظوا، عن ظهر قلب، اسماء "ابطاله الغزاة" وان تبدلت على المدى القرون والعقود الماضية. فهؤلاء المحتلون لم يجلبوا لهم الخير يوما.

من اميركا الى "طالبان"، كانت افغانستان وما زالت اشبه بهيكل دولة، وازداد المشهد سوداوية بعد الرحيل الاميركي الذي لم يخلّف وراءه سوى الفوضى واورث اهلها الكوارث والازمات والنكبات، والاهمّ، السلاح الذي حوّل حياتهم الى جحيم (التفجير الدموي الاخير في احد المساجد)،  واصبح يغزو الاسواق ويجذب التجار ويباع في الاسواق الافغانية جنبا الى جنب مع السلع الغذائية.

في 4 تشرين الاول/ اكتوبر الجاري، أقرت وزارة الحرب الأميركية (البنتاغون) بأن عددًا كبيرًا من أسلحة الولايات المتحدة المُقدّمة للجيش الافغاني، لا يزال في أفغانستان التي تحولت الى ما يشبه سوقا للسلاح ازدهرت فيه هذه التجارة بزمن قياسي  خصوصا مع وجود الحركة في السلطة، بسبب مردودها المادي الكبير.

تركة الاسلحة الاميركية في افغانستان: انتشار المتاجر الحربية من المسدس الى المدفع(2)

ففي مقابلات مع صحيفة "نيويورك تايمز" الشهر الحالي، كشف ثلاثة تجار أسلحة في قندهار جنوب أفغانستان ان "عشرات الأفغان افتتحوا متاجر أسلحة في جنوب أفغانستان بشكل علني، يبيعون فيها مسدسات وبنادق وقنابل يدوية ومناظير للرؤية الليلية أميركية الصنع. وهنا لا بد من طرح السؤال التالي: ما هي أسباب ظهور هذه التجارة؟ وكيف حصل ويحصل التجار على بضاعتهم تلك؟ ومن هم زبائنهم؟ اما الجواب، فسنجده عند هذا الثلاثي المقيت "طالبان، قوات الامن الافغانية، وتجار السلاح".

لنبدأ بـ"طالبان"، في الماضي وخلال "التمرد"، سعت الحركة بشغف للحصول على أسلحة ومعدات أميركية. كشف احد تجار السلاح في قندهار طلب عدم الكشف عن هويته ـ لان  الحركة حذرته من التحدث الى وسائل الاعلام ـ ان "تجار الاسلحة باعوا اسلحة كبيرة مثل المدافع المضادة للطائرات الى طالبان هذا الصيف".

لكن الصورة انقبلت بعد الانسحاب، حيث تراجع  طلب الحركة على السلاح الاميركي مع نهاية القتال، في اعقاب  استيلائها على الالاف من الاسلحة الاميركية الصنع واطنان من المعدات العسكرية، بعدما استسلمت القواعد العسكرية الحكومية او تم اجتياحها.

الان لنكتشف دور الجيش وقوات الامن الافغانية. فهؤلاء، وعندما ايقنوا ان الانسحاب الاميركي واقع لا محالة، حوّلوا التهديد الذي يتربص بهم الى فرصة، فضربوا عصفورين بحجر واحد.

فمن جهة، استخدموا السلاح الاميركي الذي كان بحوزتهم، كطوق نجاة من القتل، وهو ما جرى اثناء تفاوضهم مع "طالبان" على عمليات الاستسلام الجماعي، حيث قاموا بتسليم هذه الأسلحة والمعدات مقابل وعود من الحركة بإنقاذ حياتهم. (اوضح قائد سابق لطالبان يعيش في قندهار ويدعى الملا بصير أخوند إن انهيار القواعد الحكومية ترك المنطقة مغمورة بالأسلحة الأمريكية الصنع).

ومن جهة اخرى، وجدت هذه القوات الحكومية، ان هذا السلاح، سيدُر عليهم ذهبا ويكون مصدر دخل مهم بالنسبة لهم، فلم يترددوا في بيعه لينعموا بأمواله التي  طالما حرموا منها من قبل حكومتهم.

تركة الاسلحة الاميركية في افغانستان: انتشار المتاجر الحربية من المسدس الى المدفع(2)

تجّار السلاح بدورهم، تلقفوا حالة التخبط التي اصابت العناصر الحكومية (مع انتشار اخبار الانسحاب) كما ادركوا طمع بعض مقاتلي "طالبان"،  فسارعوا الى استغلال هذا الواقع لجنى ارباح هائلة، حيث كانوا يدفعون الاموال لجنود الحكومة ومقاتلي "طالبان"،  لقاء حصولهم على البنادق والذخيرة وغيرها من العتاد.

عصمت الله، واحد من التجار الذين تحدثوا عن واقع تجارة السلاح في افغانستان، كشف في حديث لصحيفة "نيويورك تايمز" عن الكيفية التي يحصلون بها على السلاح، إذ قال "إنه فتح متجراً في ولاية قندهار منذ حوالي ثمانية اشهر تقريبا، بعد أن سيطرت طالبان على المنطقة المجاورة. وقبل ذلك، كان يعمل كتاجر أسلحة متجول، ويزور القواعد الحكومية لشراء الأسلحة والذخيرة من الجنود والشرطة الذين هم في أمس الحاجة إلى المال، بعدما ضاقوا ذرعا بحكومة كابول التي يعتقدون أنها تخلت عنهم".

واشار عصمت الله الى "اننا اعتدنا العمل كفريق متنقل. كنا نلتقي بالعديد من الجنود والضباط الحكوميين لشراء أسلحة منهم. ثم  نأخذ هذه الأسلحة إلى طالبان ونبيعها لهم، أو لأي شخص يعطينا ثمنًا جيدًا ".

إضافة الى عصمت الله، هناك العديد من المتاجر ومهربي الأسلحة يتجولون في قندهار هذه الأيام، بحثا عن الأسلحة، لا سيما خلال هذه الفترة الانتقالية حيث يسهل شراء أسلحة جديدة.

ما السرّ في هذا التهافت على السلاح الاميركي؟

الخيار الأول للمشترين، أميركي الصنع، على الرغم من أنه أغلى قليلاً من المنتج الروسي الصنع، لأنها تعمل بشكل جيد للغاية ويعرف الناس كيفية استخدامها. القول هنا يعود لاحد التجّار الذي اوضح انه "منذ افتتاح متجره قبل حوالى ثلاثة اشهر، باع عشرات المسدسات والبنادق والذخيرة واجهزة الاتصال ذات الاتجاهين (الاميركية الصنع). أما الزبائن، فهم رواد أعمال أفغان ومواطنون عاديون". واشار التاجر الى ان "الغاية من شراء الأفغان للأسلحة الأميركية الصنع المرغوبة، إما لإعادة بيعها في باكستان، أو للدفاع عن النفس أو لتسوية نزاعات شخصية أو قبلية طويلة الأمد".

باكستان.. مقصد السلاح

لنتوقف عند باكستان، التي اصبحت الوجهة الثانية للسلاح الاميركي بعد الداخل الافغاني، فالعديد من تجار الأسلحة قاموا بتهريب الأسلحة إليها، حيث الطلب على الأسلحة الأميركية الصنع هناك قوي ومرتفع، خصوصا الخفيفة منها، والتي يسهل نقلها وحملها. فوفقا لشهادة أحد تجار الاسلحة الباكستانيين في التقرير نفسه لـ"نيويورك تايمز"، قال إنه "قدِم الى افغانستان، يبحث عن مسدسات وبنادق ونظارات رؤية ليلية وذخيرة ومعدات عسكرية أخرى تركتها الولايات المتحدة"، بالرغم من ثمنها الباهظ كما يظهر من خلال اسعار بعض الانواع.

على سبيل المثال، يدفع تجار الأسلحة حوالي 1200 دولار مقابل مسدس "بيريتا 9 ملم" واحد من الخدمة الأميركية، وهو مبلغ يزيد كثيرا عن الراتب الشهري للجندي، في وقت لم يكن فيه العديد من رجال الشرطة والجنود يتقاضون رواتبهم أو يعاد تزويدهم بالذخيرة أو الطعام أو الماء.

بالمقابل، وبحسب "نيويورك تايمز" يبلغ سعر البندقية الأمريكية M4، نحو 4000 دولار، خاصة إذا كانت مجهزة بمنظار ليزر، أو بقاذفة قنابل يدوية (توجد تحت قبضة البندقية مباشرة). فيما تباع بندقية كلاشنيكوف بنحو 900 دولار، ويتراوح ثمن قاذفة قنابل صاروخية روسية الصنع  حوالي 1100 دولار. اما المسدسات التي زودت بها قوات حلف شمال الأطلسي ضباط الشرطة الأفغانية، فتباع  بنحو 350 دولارا. الملفت، ان التجار اوضحوا ان "جميع معاملاتهم تقريبا بالروبية الباكستانية، والنقدية".

تركة الاسلحة الاميركية في افغانستان: انتشار المتاجر الحربية من المسدس الى المدفع(2)

وبالعودة الى "طالبان"، فالحركة التي تسعى جاهدة الى تلميع صورتها بعد توليها السلطة في افغانستان، حاولت التبرؤ من الاتهامات  التي وجهت اليها، بمساهمتها في تجارة السلاح، إذ قال المتحدث باسمها بلال كريمي في مقابلة مع صحيفة "The Times": "الأسلحة ليست للبيع. أنا أنكر هذا تمامًا، لا يمكن لمقاتلينا أن يكونوا بهذا القدر من الإهمال، حتى شخص واحد لا يمكنه بيع رصاصة في السوق أو تهريبها". وأضاف كريمي أن "الأسلحة الأميركية الصنع التي تم الاستيلاء عليها سابقًا خلال الحرب تم تسجيلها جميعًا والتحقق منها وكلها محفوظة وآمنة في ظل الإمارة الإسلامية لجيش المستقبل".

لكن على المقلب الاخر، ناقضت شخصيات أخرى في "طالبان" اقوال كريمي، وأكدت أن موجة كبيرة من الأسلحة الأميركية قد ضربت السوق، حيث سمحت الحركة بشكل منفصل لمقاتليها ببيع بعض الأسلحة الصغيرة التي استولوا عليها، في حين تم تسليم بقية الأسلحة المصادرة إلى قادة  الحركة.

في المحصلة، رحلت اميركا عن افغانستان، وبقيت اسلحتها التي سُحب ثمنها من جيوب دافعي الضرائب الاميركيين، الذين اُوهِموا لسنوات، ان اموالهم ذهبت لتمويل حرب قيل لهم انها مقدسة ضد الارهاب وكارهي الحرية الاميركية، ليتفاجأوا انها استقرت في خزائن شركات السلاح الاميركية، و"طالبان" وامراء الحرب والتجار الافغان. انها الحرب، هناك دائما رابحون وخاسرون.
(*) باحث ومحاضر جامعي

افغانستانطالبان

إقرأ المزيد في: أفغانستان

التغطية الإخبارية
مقالات مرتبطة