معركة أولي البأس

أفغانستان

اميركا وصناعة
13/09/2021

اميركا وصناعة "المجاهدين"(3): 25 مليون دولار التمويل السعودي الشهري للفصائل

د. علي دربج - باحث ومحاضر جامعي

كالعادة، أينما وجد التطرّف الإسلامي والتكفير، فتش عن دور السعودية، ستجد بصماتها وأدواتها حاضرة في كل زاوية وحي ومنطقة تغلغلت فيها. هكذا كان الحال وما زال في أفغانستان وإن بوتيرةٍ أقل هذه الأيام؛ فخزائنها التي لا تنضب أموالها، وحجبتها عن دعم فلسطين اللهم إلا من فتات ــ لزوم الدعاية ليلهج بها وعّاظ امرائها وجيوش الاعلاميين من لبنانيين وعرب وحتى أجانب ممن يحجّون الى سفاراتها ويتغنون بالفكر التحرري وبالديمقراطية الوهابية ويكيلون المدائح لاعتدالها الذي غمر أطفال اليمن بأطنان القذائف والصواريخ التي انهمرت وتنهمر على رؤوسهم يوميًا ــ شرّعتها وبأوامر من السيدّ الأميركي أمام الفصائل الاسلامية المتطرفة المتعددة خصوصًا حركة "طالبان" وأخواتها.   

كانت دوافع السعودية في أفغانستان مختلفة عن تلك لكل من الولايات المتحدة وباكستان. المملكة، قبل كل شيء، هي الدولة القومية الوحيدة الحديثة التي نشأت على الجهاد. اعتنقت (العائلة المالكة، التي وصلت إلى السلطة عبر التحالف مع رجل دين تكفيري متطرف، يدعى محمد بن عبد الوهاب الذي وجد آل سعود في دعوته الدينية دعامة لمشروعهم السياسي) العقيدة الوهابية التكفيرية. وبذلك، وبمساندة محمد بن عبد الوهاب لم يعد آل سعود مجرد عشيرة أخرى من عشائر الجزيرة العربية التي تسعى نحو النفوذ والسلطان، وإنما غدوا دعاة "يجاهدون في سبيل نشر العقيدة الصحيحة".

يكتب ستيف كول (كان مدير مكتب جنوب آسيا في صحيفة واشنطن بوست بين عامي 1989 ــ 1992) في كتابه المهم عن أفغانستان تحت عنوان "حروب الأشباح: التاريخ السري لوكالة المخابرات المركزية وأفغانستان وبن لادن، من الغزو السوفياتي حتى 10 ايلول 2001 كول" ان "السعوديين المتدينين من الطبقة الوسطى والذين تنعموا بالثروة النفطية احتضنوا القضية الأفغانية، لأن رواد الكنيسة الأميركيين قد يستجيبون لمجاعة أفريقية أو زلزال تركي".

قدمت السعودية المال بسخاء لـ"المجاهدين" الأفغان واستنفرت مخابراتها وبعض أجهزتها الرسمية وواكبت المبادرات الشعبية من أجل هذه الغاية. يقول تشالمرز جونسون (أستاذ متقاعد في الدراسات الآسيوية بجامعة كاليفورنيا، سان دييغو، عمل من عام 1968 حتى عام 1972، كمستشار لمكتب التقديرات الوطنية لوكالة المخابرات المركزية) "وصلت الأموال المتدفقة من المملكة بغزارة  إلى الحدود الأفغانية على شكل تبرعات مالية وعينية تتضمن مجوهرات من الذهب تسقطها زوجات التجار في مساجد جدة على أطباق خاصة، أكياس نقدية يسلمها رجال الأعمال إلى جمعيات الرياض الخيرية كزكاة، شيكات مصرفية بمبالغ خيالية مصدرها حسابات حكومية شبه رسمية تعود لأمراء سعوديين صغار، هذا فضلًا عن العائدات المالية الوفيرة التي تم جمعها من خلال الاتصالات الهاتفية السنوية بإشراف الأمير سلمان (ملك السعودية الحالي) أمير الرياض آنذاك. أما الأدسم من ذلك كله، فهو التحويلات السنوية من دائرة المخابرات العامة السعودية، أو الاستخبارات، إلى الحسابات المصرفية السويسرية التابعة لوكالة المخابرات المركزية الأميركية".

 ويضيف جونسون "قامت السعودية بمضاهاة المدفوعات الأميركية بالدولار، منذ اللحظة التي بدأت فيها أموال الوكالة وأسلحتها في التدفق على المجاهدين في أواخر عام 1979. كما أنهم تجاوزوا المخابرات الباكستانية وقدموا الأموال مباشرة إلى الجماعات التي يفضلونها في أفغانستان، بما في ذلك تلك التي يقودها المليونير الشاب المتدين أسامة بن لادن". وينقل جونسون عن ميلتون بيردن (ضابط سابق في وكالة المخابرات المركزية)، قوله إن "تمويلًا سعوديًا وعربيًا خاصًا يصل إلى 25 مليون دولار شهريًا، كان يتدفق إلى الجيوش الإسلامية الأفغانية، حيث مارست بعض هذه الجماعات الوهابية، وهي صنف إسلامي متشدد نوعًا متزمتًا من الإسلام كان غريبًا على غالبية الأفغان".

كانت الولايات المتحدة على علم تام بالاقتتال الداخلي بين المتمردين حتى قبل الغزوّ السوفياتي. تدخلت السعودية، وتمكّنت المملكة من تحفيز بعض المتمردين من خلال حجب المساعدات عن مختلف أحزاب "المجاهدين" حتى وافقوا على التحالف وتشكيل جبهة معارضة موحدة. ومع ذلك غالبًا ما عملت المساعدات الخارجية على تقسيم المتمردين أكثر من توحيدهم.

بنفس القدر من الأهمية، دربت باكستان ما بين 16000 و18000 مجندًا مسلمًا جديدًا على الحدود الأفغانية كل عام، و6500 آخرين أو نحو ذلك تلقوا تعليمات من الأفغان داخل البلاد خارج سيطرة المخابرات الباكستانية. انضم معظم هؤلاء في نهاية المطاف إلى جيش بن لادن الخاص المكون من 35000 "أفغاني عربي".

"لكن ثمة أمرًا ما أثار ارتباك الأميركيين، وهو أن القادة السعوديين المعتدلين، مثل الأمير تركي الفيصل، رئيس المخابرات حينها، أيدوا الدعم السعودي للأصوليين، طالما كانوا في أفغانستان وليس في السعودية" وفقًا لجونسون.
 
تخرج تركي من مدرسة إعدادية في نيو جيرسي، كان عضوًا في دفعة الرئيس بيل كلينتون عام 1964 في جامعة جورج تاون، وينتمي إلى الجناح الحديث المؤيد للغرب من العائلة المالكة السعودية. رأى تركي "أن السعودية في منافسة مستمرة مع جارتها الشيعية القوية إيران". يقول تشالمرز جونسون "لقد احتاج إلى عملاء إسلاميين من السُنّة الموالين للسعودية ذوي مصداقية لمنافسة عملاء إيران، لا سيما في دول مثل باكستان وأفغانستان، التي تضم عددًا كبيرًا من السكان الشيعة".

كان الأمير تركي غاضبًا أيضًا من فقدان الولايات المتحدة الاهتمام بأفغانستان بعد مناوشات الحرب الباردة مع الاتحاد السوفييتي. لقد فهم أن الولايات المتحدة ستغضّ الطرف عن المساعدات السعودية لما يسمى "المجاهدين الإسلاميين" طالما أبقت بلاده أسعار النفط تحت السيطرة، وتعاونت مع البنتاغون في بناء قواعد عسكرية.

مثل العديد من القادة السعوديين، ربما استخف تركي بالتهديد طويل الأمد لـ"التشدد الإسلامي" على العائلة المالكة السعودية، ولكن، كما يلاحظ كول "وجد الأمير تركي وغيره من الأمراء الليبراليين أنه من الأسهل استرضاء خصومهم الإسلاميين المحليين من خلال السماح لهم بالتبشير وجعل الأذى في الخارج بدلًا من مواجهة هذه التوترات وحلها في الداخل".

في الرياض، بحسب جونسون "لم تبذل وكالة الاستخبارات المركزية أي جهد تقريبًا لتجنيد عملاء مأجورين أو جمع معلومات استخباراتية. وكانت النتيجة أن المملكة عملت باستمرار على توسيع الفصائل الجهادية المتطرفة التكفيرية في كل من أفغانستان وكشمير، فقامت من خلال جهاز حكومي رسمي هو "هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" وهي الشرطة الدينية في المملكة، بتدريس ودعم قوات الشرطة الإسلامية التابعة لحركة ""طالبان"".

أما على أرض الواقع، فلم تكن أفغانستان تنسجم مع الخرائط الذهنية والتركيبات الأيديولوجية للقادة السوفييت. تم تحليلهم للعمليات الاجتماعية الداخلية في أفغانستان من خلال العدسة المفاهيمية للعقيدة الماركسية اللينينية، التي أعمت القيادة عن حقائق المجتمع القبلي التقليدي. اعتقادًا منهم بعدم وجود دولة واحدة في العالم لم تكن ناضجة للاشتراكية.
 
أدى هذا التصور المفاهيمي للوضع إلى محاولات فرض ممارسات اجتماعية واقتصادية غريبة على المجتمع الأفغاني، مثل الإصلاح الزراعي القسري.

لم يتوقع صنّاع القرار السوفييت الدور المؤثر للإسلام في المجتمع الأفغاني. كان هناك عدد قليل جدًا من الخبراء في الإسلام في الحكومة السوفييتية والمؤسسات الأكاديمية. كانت معلومات وفهم القيادة العُليا للمعتقدات الدينية السائدة بين جماهير الشعب الأفغاني، ضعيفًا. تفاجأ القادة السياسيون والعسكريون عندما اكتشفوا أنه بدلاً من أن يُنظر إليهم على أنهم قوة تقدمية مناهضة للإمبريالية الاميركية، فإن الأفغان اعتبروا القوات السوفيياتية غزاة أجانب و"كفارًا".

أكثر من ذلك، ساهمت صورة الجيش السوفييتي الذي يحارب الإسلام في أفغانستان بالارتفاع السريع للأصولية الإسلامية في جمهوريات آسيا الوسطى وربما في تعزيز حركة الاستقلال في الشيشان التي شكلت تهديدًا أمنيًا كبيرًا لروسيا لاحقًا.

جاء الإدراك الروسي من القيادة العسكرية السوفييتية بأنه لا يمكن أن يكون هناك حل عسكري للصراع في أفغانستان في وقت مبكر جدًا. نوقشت مسألة انسحاب القوات والبحث عن حل سياسي في وقت مبكر من عام 1980، ولكن لم يتم اتخاذ خطوات حقيقية في هذا الاتجاه، وواصلت القوات السوفييتية القتال في أفغانستان دون هدف محدد بوضوح.

 وفقًا لوثائق الأمن القومي الروسي أكدت "التقارير العسكرية المبكرة صعوبة القتال على التضاريس الجبلية، والتي لم يتلق الجيش السوفييتي أي تدريب مسبقًا على الإطلاق لخوضها. في بعض النواحي، عملت الطبيعة المجزأة لحركة المتمردين لصالحها في معظم فترات الحرب. لم يتمكن الاتحاد السوفييتي من العثور على قاعدة عمليات متمردة مركزية للقصف، ولا اجتماع تخطيط استراتيجي واحد للتسلل، ولا زعيم شعبي واحد للتفاوض معه، أو القضاء عليه. مضايقات "المجاهدين" المستمرة جاءت من كل الاتجاهات في هذه الحرب بلا حدود".

 بحلول أواخر عام 1986، قرر الكرملين أن الحرب أصبحت مكلفة للغاية. تناوب مئات الآلاف من الرجال السوفييت داخل وخارج الخدمة في أفغانستان، وعادوا إلى الوطن بكل علامات النضال الخاسر الذي لا يحظى بشعبية: انخفاض الروح المعنوية، وانتقاد سياسة الحكومة الأفغانية، وتعاطي المخدرات والكحول.

 أكثر من ذلك. ضربت الحرب الوطن بطرق أخرى. تم إنفاق مليارات الروبلات على أفغانستان بدلاً من الاقتصاد السوفييتي المنهار. في جمهوريات آسيا الوسطى المضطربة، كان المسلمون السوفييت على اتصال بالجهاد الأفغاني عندما عبرت العصابات المتمردة، في نقاط مختلفة أثناء الحرب، الحدود السوفييتية الحساسة لإثارة الاضطرابات بين السكان المسلمين.

كانت أوجه التشابه مع الحرب الأميركية في فيتنام واضحة وكثيرًا، وبالتالي تحققت نبوءة بريجنسكي بشأن سايغون افغانية للروس، ونجحت مخططات الادارة الاميركية بجرّ الاتحاد السوفييتي الى المستنقع الافغاني الذي خرج منهما مهزومًا.
في 8 فبراير 1988، فاجأ ميخائيل جورباتشوف العالم بإعلانه أن الاتحاد السوفييتي سيسحب 100 ألف جندي من أفغانستان.

بالمقابل، في مقر وكالة المخابرات المركزية (CIA)، قام المدير وليام ويبستر و"الفريق الأفغاني"المبتهج، بالاحتفال بعشر سنوات من الجهد ونجاح مشروع بمليارات الدولارات لدعم المتمردين الأفغان المسلمين المناهضين للشيوعية، فيما أصبح أكبر وأنجح عملية سرية لوكالة المخابرات المركزية على الإطلاق. أما في مبنى الكابيتول هيل، فتفاخر عضو الكونغرس تشارلز ويلسون (ديمقراطي من تكساس)، وهو "بطل تشريعي" مؤيد بشدة للمقاتلين المناهضين للسوفييت، بأن "الولايات المتحدة قد تعلمت في أفغانستان أنها يمكن أن تعكس النفوذ السوفييتي في أي مكان في العالم". فيما في البيت الأبيض، أشاد الرئيس جورج بوش بالانسحاب ووصفه بأنه "نقطة تحول" في العلاقات بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيياتي.

لكن النشوة الأميركية لم تدم طويلًا، فالدعم الذي أغدق على "مجاهديها" من قبلها اضافة الى باكستان والسعودية، كان بدوافع متنوعة تمامًا. فالولايات المتحدة لم تأخذ هذه الاختلافات على محمل الجد إلا بعد فوات الأوان. بحلول الوقت الذي استيقظ فيه الاميركيون، في نهاية التسعينيات، كانت حركة طالبان قد أقامت حكومتها في كابول. حينها لم تعترف بها سوى باكستان والسعودية والإمارات العربية المتحدة، ثم ما لبثت ان منحت أسامة بن لادن حرية التصرف وقدمت له الحماية من الجهود الأميركية للقبض عليه أو قتله، ثم ساومت على تسلميه بعد الاحتلال لأفغانستان. وجميعنا يعرف كيف انقلب المارد الافغاني التكفيري على ربيبه الاميركي، وأصابه في عقر داره في 11 ايلول.

الجزء الأخير: حفلة صيد الصقور الاماراتية ونجاة بن لادن

الجزء الثاني: أميركا وصناعة "المجاهدين"(2): على من وزّعت "سي آي إيه" المصاحف؟

الجزء الأول: أميركا وصناعة "المجاهدين"(1): كيف دفعت بالروس إلى الفخّ الأفغاني؟

طالبان

إقرأ المزيد في: أفغانستان