أفغانستان
أميركا وصناعة "المجاهدين"(2): على من وزّعت "سي آي إيه" المصاحف؟
د. علي دربج - باحث ومحاضر جامعي
بحلول أواخر تشرين الثاني 1979، تم نقل القوات الروسية إلى الحدود بين الاتحاد السوفيتي وأفغانستان. كما تم وضع قوات حلف وارسو في حالة استعداد متقدمة. ثم جرى إرسال كتيبتين سوفيتيتين بهدوء إلى قاعدة جوية بالقرب من كابول خلال الأسبوع الأول من شهر كانون الاول من العام ذاته، مما مهد الطريق لما كان سيتبع.
عشية عيد الميلاد عام 1979، اقتحم عشرات الآلاف من القوات السوفيتية على متن الدبابات وناقلات الجند المدرعة نهر أموداريا إلى الريف الأفغاني الوعر، بينما طار آلاف آخرون إلى القواعد الجوية في كابول وباغرام وشنداند، بعدها قام السوفييت بتنصيب رئيس للجمهورية وحكومة مواليَين.
على الصعيد الجيوستراتيجي، أدى الغزو الى تحول التوازن في المنطقة، مما دفع بالبيت الابيض الى وصف السياسة السوفيتية في أفغانستان بأنها "أخطر تهديد للسلام العالمي منذ الحرب العالمية الثانية".
أما أميركيًا (وأميركا هي التي استدرجت موسكو الى الفخّ الافغاني كما ورد في الحلقة السابقة)، فكان معظم المعتدلين والليبراليين الأميركيين في الادارة الاميركية وحتى الكونغرس آنذاك، يتماشون مع زملائهم المحافظين، ويدعمون المساعدة السرية للمتمردين الأفغان، مع عدم وجود أي شخص تقريبًا يدعو إلى الدبلوماسية كوسيلة لحل الصراع الخفي مع الاتحاد السوفياتي بعد غزوه هذا البلد.
يرى ستيف كول (كان مدير مكتب جنوب آسيا في صحيفة واشنطن بوست بين عامي 1989 ــ 1992) في كتابه المهم عن افغانستان تحت عنوان "حروب الأشباح: التاريخ السري لوكالة المخابرات المركزية وأفغانستان وبن لادن، من الغزو السوفياتي حتى 10 ايلول 2001" انه "بعد الغزو السوفياتي لأفغانستان، صمم البيت الأبيض ووكالة المخابرات المركزية على قتل أكبر عدد ممكن من الجنود الروس، والرغبة في استعادة بعض الهالة من الرجولة القاسية بالإضافة إلى المصداقية التي كان قادة الولايات المتحدة يخشون أنهم فقدوها بعد خسارتهم شاه ايران.
عمليًا،
في تلك الفترة كان ويليام كيسي فارسًا كاثوليكيًا من فرسان مالطا تلقى تعليمه علي يد اليسوعيين. بحسب كول، ملأت تماثيل السيدة مريم العذراء قصره المسمى "Maryknoll" في لونغ آيلاند. كان يحضر القداس يوميًا ويحث على المسيحية كل من يطلب نصيحته. بمجرد أن استقر كمدير لوكالة المخابرات المركزية في عهد الرئيس رونالد ريغان، بدأ في تحويل أموال العمل السرية من خلال الكنيسة الكاثوليكية إلى مناهضي الشيوعية في بولندا وأمريكا الوسطى، رغم انه كان يُعد ذلك في بعض الأحيان انتهاكا للقانون الأمريكي.
كان يؤمن كيسي بشدة أنه من خلال زيادة نفوذ الكنيسة الكاثوليكية وقوتها، يمكنه احتواء تقدم الشيوعية أو عكسه. ومن قناعاته نمت أهم السياسات الخارجية للولايات المتحدة في الثمانينيات، دعم الحملة الصليبية الدولية ضد السوفييت في أفغانستان، ورعاية إرهاب الدولة في نيكاراغوا والسلفادور وغواتيمالا.
لم يكن كيسي يعرف شيئًا عن الأصولية الإسلامية أو مظالم دول الشرق الأوسط ضد الإمبريالية الغربية. لقد رأى الإسلام السياسي والكنيسة الكاثوليكية كحليفين طبيعيين في الاستراتيجية المضادة للعمل السري لإحباط الإمبريالية السوفيتية. كان يعتقد أن الاتحاد السوفياتي يحاول ضرب الولايات المتحدة في أمريكا الوسطى والدول المنتجة للنفط في الشرق الأوسط.
أيّد كيسي الإسلام باعتباره مضادًا للإلحاد في الاتحاد السوفييتي. ويشير كول إلى أنه "كان يخلط أحيانا بين المنظمات الكاثوليكية العلمانية مثل أوبوس داي، و"الإخوان المسلمين"، وهي المنظمة المصرية المتطرفة، التي كان أيمن الظواهري، الملازم الأول لأسامة بن لادن، عضوا متحمسا فيها".
يؤكد كول أن "كيسي، أكثر من أي أميركي آخر، كان مسؤولًا عن تلاحم التحالف بين وكالة الاستخبارات المركزية والاستخبارات السعودية وجيش الجنرال محمد ضياء الحق، الديكتاتور العسكري الباكستاني من عام 1977 إلى عام 1988". وغني عن التعريف ان فرع "جماعة الإخوان المسلمين" في باكستان، كان مدعوما بقوة من الجيش الباكستاني، وهو ما سنعود اليه لاحقا.
لم يتوان كيسي عن الظهور بمظهر الداعية الاسلامي لتعبئة "المجاهدين" الأفغان، فبناءً على اقتراح من المخابرات الباكستانية (ISI)، ذهب كيسي إلى حد طباعة آلاف النسخ من المصاحف، التي أرسلها إلى الحدود الأفغانية لتوزيعها في أفغانستان وأوزبكستان السوفيتية.
كما أنه عبأ -بدون سلطة رئاسية- المسلمين لتنفيذ الهجمات داخل الاتحاد السوفياتي، وكان يرى دائمًا أن الضباط السريين في وكالة المخابرات المركزية كانوا خجولين للغاية. غير أنه فضّل النوع الذي يمثله صديقه أوليفر نورث الذي ارتبط اسمه بأسوأ فضائح العهد الريغاني.
بمرور الوقت، أصبح موقف كيسي متشددًا في عقيدة وكالة المخابرات المركزية، التي تم فرضها على عملائها بمختلف الطرق الممكنة. رفضت الوكالة بحزم المساعدة في اختيار الفائزين والخاسرين بين قادة حرب العصابات في الجهاد الأفغاني. وكانت النتيجة، أن أجندة رئيس الحكومة العسكرية الباكستانية ضياء الحق، السياسية والدينية في أفغانستان، أصبحت تدريجيًا خاصة بوكالة المخابرات المركزية".
عندما كتب إدموند ماكويليامز، المبعوث الخاص لوزارة الخارجية الأمريكية إلى المقاومة الأفغانية بين عامي 1988-1989 أن "السلطة الأمريكية ومليارات الدولارات المتأتّية من تمويل دافعي الضرائب قد اختطفت في نهاية الحرب من قبل عصابة لا ترحم معادية للولايات المتحدة من الإسلاميين وضباط الاستخبارات الباكستانية المصممين على فرض إرادتهم على أفغانستان"، هاجمه مسؤولو وكالة الاستخبارات المركزية وروجوا عنه قصصًا قبيحة في السفارة بأنه قد يكون مثلي الجنس أو مدمن كحول.
في الواقع لم تكن اتفاقية التعاون بين الولايات المتحدة وباكستان طبيعية أو قائمة على المصالح المشتركة. بعد أسبوعين فقط من استيلاء الطلاب المتطرفين على السفارة الأمريكية في طهران في 5 تشرين الثاني 1979، قامت مجموعة مماثلة من المتطرفين الإسلاميين الباكستانيين بإحراق السفارة الأمريكية في إسلام أباد بالكامل، بينما كانت قوات ضياء الله تقف مكتوفة الأيدي.
لكن الولايات المتحدة كانت على استعداد للتغاضي عن أي شيء تقريبًا يفعله الجنرال الباكستاني من أجل إبقائه ملتزمًا بالجهاد ضد السوفييت. بعد الغزو السوفيتي، كتب بريجنسكي إلى كارتر قائلا: "سيتطلب هذا مراجعة سياستنا تجاه باكستان، والمزيد من الضمانات لها، والمزيد من المساعدة في الأسلحة، وللأسف، قرارًا بأن سياستنا الأمنية تجاه باكستان لا يمكن أن تمليها سياسة منع الانتشار النووي".
لا شك أن التاريخ سيسجل ما إذا كان بريجنسكي قد اتخذ قرارًا ذكيًا بإعطاء الضوء الأخضر لتطوير باكستان للأسلحة النووية مقابل دعم التمرد ضد السوفييت.
كانت دوافع باكستان في أفغانستان مختلفة تمامًا عن دوافع الولايات المتحدة. كان ضياء الدين مسلمًا متدينًا وداعمًا متحمسًا للجماعات الإسلامية في بلده وفي أفغانستان، وفي جميع أنحاء العالم. لكنه لم يكن متعصبًا وكانت لديه بعض الأسباب العملية لدعم المتطرفين الإسلاميين في أفغانستان. ربما لم يكن قد تم إدراجه في "إحصاء اللحية" السنوي للسفارة الأمريكية لضباط الجيش الباكستانيين، والذي يسجل عدد الضباط المتخرجين والجنرالات الذين احتفظوا بلحاهم وفقًا للتقاليد الإسلامية كإجراء غير مزعج لزيادة أو تقليل "التطرف الديني"، لكن لم يكن لضياء سوى شارب.
منذ البداية طالب ضياء الحق أن تمر جميع الأسلحة والمساعدات للأفغان أيا كان مصدرها عن طريق المخابرات الباكستانية. كانت وكالة المخابرات المركزية مسرورة بالموافقة. كان ضياء يخشى قبل كل شيء أن تنحصر باكستان بين أفغانستان التي يسيطر عليها السوفييت والهند المعادية.
كما كان عليه أن يحترس من حركة استقلال البشتون التي إذا نجحت، من شأنها أن تفكك باكستان. بعبارة أخرى، دعم المسلحين الإسلاميين في أفغانستان وباكستان على أسس دينية لكنه كان مستعدًا تمامًا لاستخدامهم استراتيجيًا. وبذلك وضع أسس التمرد الباكستاني المناهض للهند في كشمير في التسعينيات.
تُظهر وثائق أرشيف الأمن القومي الأميركي، التي رُفعت عنها السرية في تسعينيات القرن، والتسلسل الزمني المتاح أنه "خلال الاحتلال السوفيتي لأفغانستان الذي دام عشر سنوات، طور المسؤولون الأمريكيون علاقة أقوى مع جنرالات باكستان ومنهم ضياء الحق مقارنة بوزارة الخارجية أو المعارضة المدنية".
في الحقبة التي أعقبت كيسي، شكك بعض العلماء والصحفيين وأعضاء الكونغرس بدعم الوكالة السخي للجنرال الإسلامي المدعوم من باكستان، قلب الدين حكمتيار، خصوصًا بعد أن رفض مصافحة رونالد ريغان لأنه كافر. غير ان ميلتون بيردين، رئيس مركز إسلام أباد من 1986 إلى 1989 وفرانك أندرسون، رئيس فرقة العمل الأفغانية في لانغلي (مقر الوكالة)، دافعا بشدة عن حكمتيار على أساس أنه "أرسل المقاتلين الأكثر فعالية ضد السوفييت".
وحتى بعد انسحاب الاتحاد السوفييتي من أفغانستان في عام 1988، استمرت وكالة الاستخبارات المركزية في اتباع المبادرات الباكستانية، مثل مساعدة خليفة حكمتيار، الملا عمر، زعيم حركة "طالبان".
بموازاة الجهود التي كانت تبذلها "سي آي ايه"، لدعم الفصائل الأفغانية الإسلامية المتطرفة عبر باكستان، كان الكونغرس الأميركي بدوره، يقوم بعمل مماثل، إذ شكلت أفغانستان حالة فريدة من نوعها لمشاركة الكونغرس في برنامج مساعدات سري "للمجاهدين الافغان". في حين أن الكونغرس المنقسم غالبًا ما أعاق جهود إدارة ريغان لمساعدة الكونترا في نيكاراغوا، فإن المتشددين في الكونغرس، الذين يركبون موجة من الدعم من الحزبين، ضغطوا باستمرار وبنجاح من أجل تمويل سري "للمجاهدين" أكثر مما طلب البيت الأبيض في أي وقت مضى.
وفي حين بدا أن الجميع في الولايات المتحدة يدعمون "تقرير المصير الأفغاني" وتحرر أفغانستان من الغزوّ الاتحاد السوفيتي، انتقد العديد من أعضاء الكونغرس، بدعم من جماعات الضغط المحافظة، ادارة ريغن لعدم سعيها بقوة كافية لتحقيق انتصار عسكري للمجاهدين على موسكو.
اللافت للانتباه هنا، هو أن الوكالة قاومت بشكل خاص الدعوات لتزويد "المجاهدين" بأسلحة أمريكية الصنع. وكنوع من التضليل اشترت الوكالة أسلحة أجنبية، من الطراز السوفييتي عادة، من أجل "الإنكار المعقول" لتورط الولايات المتحدة إذا دعت الحاجة إلى ذلك.
طوال الحرب الأفغانية، استوردت المخابرات المركزية أسلحة ذات تصميم سوفييتي من مصر والصين وأماكن أخرى ونقلتها إلى باكستان. تكشف وثائق أرشيف الأمن القومي الافغاني "عن وصول بنادق AK-47 الصينية والمصرية وصواريخ SA-7 المضادة للطائرات إلى باكستان في وقت مبكر من عام 1980. ولم تغطِ عملية الشراء السرية هذه المسارات الأمريكية فحسب، بل ضمنت توفر الأسلحة المتوافقة مع النوع الذي تم الاستيلاء عليه بواسطة المتمردين من أعدائهم السوفييت.
في عام 1984، أصدر الكونغرس قرارًا قدمه السناتور بول تسونجاس (ديمقراطي من ماساتشوستس) وعضو الكونجرس دون ريتر (جمهوري من بنسلفانيا)، دعا إلى مساعدة مادية أميركية "فعالة" للمتمردين "في كفاحهم من أجل التحرر من الهيمنة الأجنبية". حاول العديد من المشرعين، ولا سيما عضو الكونغرس تشارلي ويلسون (ديمقراطي من تكساس) والسيناتور جوردون همفري (جمهوري من نيو هامبشاير)، استخدام قرار تسونغاس ريتر لزيادة حجم ونوعية برنامج المساعدة السرية للمتمردين.
في نهاية المطاف نجح ويلسون وهامفري في حشد دعم الكونغرس لقوة عسكرية متمردة أقوى في أفغانستان. وعلى الرغم من علامات الفساد في كل من برامج المساعدات العسكرية والإنسانية في وقت مبكر من عام 1982، قدم الكونجرس في المحصلة ما يقرب من 3 مليارات دولار كمساعدات سرية "للمجاهدين"، اي أكثر من جميع العمليات السرية الأخرى لوكالة المخابرات المركزية في الثمانينيات مجتمعة.
وبحلول عام 1987، كانت الولايات المتحدة تقدم "للمجاهدين" ما يقرب من 700 مليون دولار من المساعدات العسكرية سنويًا، بما يفوق ما كانت تتلقاه باكستان نفسها من واشنطن.
في عام 1984، استغل ويلسون منصبه القوي في لجنة الاستخبارات في مجلس النواب للحصول على 50 مليون دولار إضافية للمساعدات السرية الأفغانية، وأقنع وكالة الاستخبارات المركزية بشراء صواريخ من طراز "أوليكون" المضادة للطائرات عالية الجودة والمصممة من قبل سويسرا، والتي يمكن أن تخترق الدرع الثقيل لأقوى آلة لمكافحة التمرد في الاتحاد السوفياتي، وهي طائرة هليكوبتر من طراز Hind Mi-24.
ذهبت وكالة الاستخبارات المركزية إلى أبعد من ذلك في عام 1985، حيث اشترت صواريخ بريطانية متطورة الصنع مضادة للطائرات من طراز Blowpipe. لكن ثمة تحوّلًا طرأ على عمل وكالة الاستخبارات المركزية، في عام 1986، وبسبب ضغوط العديد من أعضاء الكونغرس وعدد من البيروقراطيين في وزارتي الخارجية والدفاع، زوّدت وكالة الاستخبارات المركزية المجاهدين بصواريخ من طراز "ستينغر" أميركية الصنع، وهي أكثر الأسلحة المضادة للطائرات فعالية في العالم. وكانت هذه هي المرة الأولى التي تقدم فيها وكالة الاستخبارات المركزية أسلحة أميركية الصنع كجزء من عملية سرية لدعم التمرد، وكانت السلطة التشريعية مسؤولة إلى حد كبير.
وفي هذا الاطار قال أحد موظفي الكونغرس في وقت لاحق: "لقد كسرنا أخيرا عذرية الوكالة". واشار أحد تقارير البنتاغون أن "صواريخ ستينغر" أجبرت موسكو على القيام بتغييرات تكتيكية وجوية أكثر في الربع الأخير من عام 1986 والربع الأول من عام 1987 مقارنة بالسنوات السبع السابقة من الصراع".
الحلقة الثالثة: دور السعودية في دعم الجيوش الاسلامية في افغانستان
الحلقة الأولى: أميركا وصناعة "المجاهدين"(1): كيف دفعت بالروس إلى الفخّ الأفغاني؟