أفغانستان
طالبان ما بين الانهيار والصعود (3) كيف خاضت أمريكا معاركها بالفياغرا؟
د. علي دربج - باحث ومحاضر جامعي
تصدرت قضية المرأة الأفغانية وحقوقها وحريتها ووجودها المشهد الدولي بعد سيطرة "طالبان" على أفغانستان، حيث بدأت الأخبار والتقارير الصحافية تتوارد عن عودة الانتهاكات والإاضطهاد والعنف الذي يمارس ضدها من قبل عناصر الحركة وصولًا الى القتل. فارتفعت أصوات الدول والمنظمات الانسانية على امتداد المعمورة، مطالبة الولايات المتحدة والغرب، بتأمين الحماية للنساء في هذا البلد، والتحذير من ارتكاب المجازر بحقهم، والعودة بهم الى نير العبودية الذي كان سائدا في عهد "طالبان" قبل الاحتلال الاميركي لأفغانستان، وعدم التفريط بالمكتسبات التي حصّلتها بعد الغزو.
لا يمكن لأي عاقل في العالم، أن ينكر أو يجد مبررًا واحدًا سواء كان دينيًا أو اجتماعيًا لما سببته "طالبان" للنساء خلال سنوات حكمها في التسعينيات لأفغانستان، (حتى أثناء وجودها في المناطق التي أعادت أو بقيت تحت سيطرتها بعد الغزو الأميركي) من معاناة وارتكاب فظائع انسانية بحقهن فاقت التصورات، بحجة تطبيق الشريعة التي فصّلها هؤلاء على مقاس زعمائهم وأمرائهم وعناصرهم وأوجدوا لها فتاوى غبّ الطلب، لتتناسب مع مصالحهم، بينما لا يمت هذا التعاطي والنظرة للمرأة بصلة، الى الاسلام الأصيل الحنيف الذي رفع شأنها وأعلى مكانتها ومكّنها وأعطاها كافة حقوقها بالتساوي مع الرجال.
للوهلة الأولى، يظن المرء أن الاحتلال الأميركي جعل النساء في أفغانستان يعشن في رفاهية وترف مادي واجتماعي تمامًا كما هو حال نظيراتهن في سويسرا أو السويد مثلًا، ونقلهُنّ من الكهوف الى القصور، وأرسى المساواة بينهنّ وبين الرجال، وقد يخيل لنا أن القرار أصبح بعهدة المرأة في ظل الوجود الأميركي.
ومع ذلك، وانسجامًا مع رؤيتنا الواقعية للأمور، لا بد من الاعتراف بالتحول الذي طرأ على حياة جزء محدود من النساء الافغانيات واستفادتهن من وجود الاحتلال لتحصيل عدة مكتسبات. وبغض النظر عن الصورة الاعلامية البراقة التي تحرص أميركا على تقديمها للمرأة بعد الغزو وتعدها ضمن انجازاتها في هذا البلد، فإن ما يجهله كثر، هو أن الجزء الأكبر والأعظم من النساء الأفغانيات بقين مهمشات، لا بل زادت معاناتهن جراء الوجود الاميركي ومعها الناتو، الذي كرّس التمييز وعدم المساواة والتفرقة الطبقية المناطقية بين النساء الافغان، (حتى انهم لجأوا الى أساليب شيطانية في استغلال المرأة، لتحقيق مصالحهم) لذا فإن ما رأيناه وشاهدناه من تغيير في حياة المرأة الأفغانية، انحصر في عدد صغير من المدن خصوصًا كابول، فيما بقي البؤس والمعاناة والقتل من نصيب نساء الأرياف والمناطق الريفية، وهن يشكّلن النسبة الأغلب من نساء أفغانستان.
في البداية، أهم ما يجب معرفته عن أفغانستان هو أنها دولة ريفية بنسبة تتراوح بين 70 الى 75 بالمائة. لكن هذا العنصر مغيّب في التغطية الإعلامية، لأن معظم التقارير تتم في كابول ويبدو العالم مختلفًا جدًا في العاصمة مقابل الريف.
في السنوات القليلة الماضية كان من الممكن الذهاب إلى كابول؛ فقد كانت آمنة للغاية، وربما كانت أكثر أمانًا من معظم المدن الأميركية. كان في كابل مقاهٍ وفنادق فاخرة، فضلًا عن مجتمع مدني مزدهر. ولكن في اللحظة التي تطأ فيها قدماك خارج بوابات المدينة لتتوجه إلى المناطق الريفية النائية تجد عالمًا آخر أشبه بالبدائي.
سريعًا، تقع عيناك على واحد من أفقر الأماكن وأكثرها عنفًا على وجه الأرض، بسبب وجود 100000 شخص تحت السلاح والغارات الجوية، وغيرها من وسائل القتل. لذا فإن الناس هناك لديهم فهم مختلف تمامًا للحرب على الإرهاب.
يقول أحد الدبلوماسيين الغربيين ممن خدموا في أفغانستان لسنوات طويلة: "خلال تواجدي في الريف وإنشاء صداقة مع الناس هناك، كان لدي الكثير من مفاهيمي المسبقة حول ما أسقطته الحرب بسبب ذلك، وهكذا عندما يتعلق الأمر بالتجارب التي عاشتها النساء خلال 20 عامًا من حكم الولايات المتحدة، وقبلها "طالبان"، كانت هناك الكثير من الاختلافات التي رأيتها من التسعينيات وحتى العقد الأول من القرن الحادي والعشرين في المناطق الريفية"، متسائلًا "أي نوع من الاختلافات سيرون في المستقبل؟".
في المناطق الريفية تحت حكم طالبان في التسعينيات، تم إبقاء النساء في منازلهن، وتم حرمانهنّ من الرعاية الصحية والتعليم. وبعد العام 2001، بقين محتجزات في منازلهن في هذه المناطق، يعشن تحت رحمة القصف العشوائي الذي كان ينهمر على رؤوسهنّ من مختلف الاطراف المتحاربة. والمحزن انهنّ كنّ ينمن ليلاً وهن يتساءلن عما إذا كان أحدهم سيأتي ويكسر ابوابهنّ ويأخذ أحباءهنّ، ويحدثنّ انفسنّ بهمس عما إذا كان بإمكانهنّ الذهاب إلى حفل زفاف أو جنازة، دون ان يكُنّ عرضة لهجوم ما في ايّة لحظة.
بعبارة أخرى ، من منظور العديد من النساء الريفيات في مناطق الحرب، ساءت الحياة، في الواقع، في ظل الأميركيين. فيما هذا المنظور، في كثير من الأحيان، غير موجود في كابول لأنه يعود إلى هذا التقسيم بين الريف والحضر. لقد تحسنت الحياة كثيرًا بالنسبة للنساء في كابول، لأنه لا يوجد عنف ولا حرب هناك. وبذلك حققن مكاسب معينة.
ان إحدى المآسي العميقة لهذه الحرب والاحتلال هي أن الولايات المتحدة تجاهلت حقوق المرأة لمعظم النساء، وبدلاً من ذلك، طالت تلك الحقوق أقلية من النساء، على حساب عدد كبير من النساء الأفغانيات الأخريات، اللواتي لم يعرفن في العشرين سنة الماضية، سوى الحزن والعنف والقتل والتنكيل والاضطهاد.
استخدمت الولايات المتحدة حقوق المرأة للمساعدة في تبرير غزو أفغانستان. تأتي حالة عدم اليقين التي تواجها المرأة الأفغانية بعد 20 عامًا من الاجتياح الأمريكي - الذي أعقب عقودًا من التدخل الأجنبي من قبل الاتحاد السوفيتي وآخرين - حيث تم تجميع حقوق المرأة كمبرر آخر للحرب في أفغانستان. أما النتيجة، فهي أن المكاسب كانت متفاوتة وهشة في كثير من الأحيان.
لم يبدأ النضال من أجل المساواة بين الجنسين مع وصول الولايات المتحدة في عام 2001. قاتلت النساء في أفغانستان من أجل حقوقهن قبل وقت طويل من وصول "طالبان" في التسعينيات، كما عارضت بعض الناشطات الأفغانيات التدخل الأمريكي.
جرى إدراج حقوق المرأة لتعبئة الحشد من أجل الحرب، بغض النظر عما إذا كانت المرأة الأفغانية تريدها، وفي بعض الأحيان أضحت ورقة رابحة للأميركيين لتبرير الاحتلال. فالرئيس جورج دبليو بوش، في كانون الأول 2001، أوضح بعد التوقيع على التشريع الخاص بالنساء والأطفال الأفغان أن "الهدف الأساسي للإرهابيين هو القمع الوحشي للنساء - وليس فقط النساء في أفغانستان. الإرهابيون الذين يساعدون في حكم أفغانستان موجودون في عشرات وعشرات البلدان حول العالم. وهذا هو السبب في أن هذه الأمة العظيمة، مع أصدقائنا وحلفائنا، لن تهدأ حتى نقدمهم جميعًا إلى العدالة"، حسب زعمه.
بدورها، قالت لورا بوش في تشرين الثاني 2001 بعد أسابيع قليلة من غزو الولايات المتحدة لأفغانستان في أعقاب هجمات الحادي عشر من أيلول: "إن الحرب ضد الإرهاب هي أيضًا كفاح من أجل حقوق المرأة وكرامتها".
بعد الحرب وسقوط أفغانستان بيد أميركا، سرعان ما خمدت تلك الشعارات واختفت وظهر زيفها، فكانت قواتها أول من تفنن في استغلال المرأة الافغانية وإن بشكل غير مباشر، فحولت جسدها الى طعم للإيقاع بالمطلوبين لها، مستغلة بذلك حاجات الرجال الأفغان الجنسية لتحقيق أهدافها الأمنية والعسكرية عبر أساليب ووسائل قذرة، أبرزها الطريقة الماكرة التي لجأت اليها وكالة المخابرات المركزية لاستبدال حبوب الفياغرا بمعلومات استخباراتية بشأن أماكن تواجد "طالبان"، بحيث علقّ صحفي أفغاني على هذا التصرف بالقول "يمكن للرجال المسنين اغتصاب زوجاتهم بمباركة أمريكا" حسب تعبيره. كان هذا هو الحال مع زعيم قبلي يبلغ من العمر 60 عامًا. وفقًا لعميل متقاعد أميركي شرح القصة بالقول "كان الرجل زعيم عشيرة في جنوب أفغانستان، وحذرًا من جيشنا، لا داعمًا ولا معارضًا. وله معرفة واسعة بالمنطقة، إذ كانت قريته تسيطر على الممرات الرئيسية عبر المنطقة. من هنا برزت حاجة القوات الأميركية إلى تعاونه وعملت بجد للفوز به".
بعد محادثة طويلة من خلال مترجم، بدأ العميل المتقاعد في البحث عن طرق لكسب ولاء الرجل. كانت مناقشة عائلة الرجل والعديد من الزوجات مصدر إلهام. بمجرد التأكد من أن الرجل يتمتع بصحة جيدة، قدّم له العميل أربعة أقراص من حبوب الفياغرا، وقبلها الزعيم العشائري.
بعد أربعة أيام، عندما عاد الأميركيون، كانت الهدية قد نجحت في سحرها، كما يتذكر العميل المسؤول: "لقد جاء إلينا مبتهجاً. متوجها اليّ بالقول: أنت رجل عظيم". بعد ذلك أوضح العميل أنه "اصبح بالإمكان أن نفعل ما نريد في منطقته".
بالنسبة لمسؤولي المخابرات الأمريكية، هذه هي الطريقة الأنجح والأمثل التي كان يتم بها خوض بعض المعارك الحاسمة في أفغانستان وربحها. في حين أن وكالة المخابرات المركزية لديها تاريخ طويل في شراء المعلومات بالنقود، فقد أدى تمرد "طالبان" المتزايد إلى استخدام حوافز جديدة، واجراء مساومة إبداعية لكسب الدعم في بعض أقسى أحياء البلاد، وفقًا لمسؤولين مشاركين بشكل مباشر في مثل هذه العمليات.
يقول المسؤولون في المخابرات إن "عملاء الوكالة استخدموا مجموعة متنوعة من الخدمات الشخصية في جهودهم لكسب أمراء الحرب والزعماء المتقلبين المعروفين، أما أكثرها فاعلية فهي التعزيزات الصيدلانية للآباء المتقدمين في السن الذين يعانون من تراجع الرغبة الجنسية، على حد قول المسؤولين".
بدوره لفت أحد المسؤولين المطلعين على استخدام المخدرات في أفغانستان، الى أننا: "لم نقم بتسليمها إلى الشباب الأصغر سنًا، ولكن يمكن أن تكون رصاصة فضية لإجراء اتصالات مع كبار السن".
رفضت وكالة المخابرات المركزية التعليق على الأساليب المستخدمة في العمليات السرية. وقال أحد كبار مسؤولي المخابرات الأمريكية المطلعين على عمل الوكالة في أفغانستان إن "السرية تم تدريبها لتكون "حكيمة ورشيقة" وأن تستخدم تكتيكات تتفق مع قوانين بلادنا".
وقال المسؤول: "إنهم يتعلمون المشهد، ويتعرفون على اللاعبين، ويتأقلمون مع بيئة التشغيل، بغض النظر عن مكان وجودهم، إنهم يفكرون خارج الصندوق، ويخاطرون، ويفعلون ما هو ضروري لإنجاز المهمة".
الجزء الرابع: هل تغيرت "طالبان" حقًا؟
الجزء الأول: "طالبان" بين الانهيار والصعود (1): الملّا عُمر يبحث طريقة تسليم بن لادن
الجزء الثاني: "طالبان" بين الانهيار والصعود(2): أموال أميركا تُحيي الحركة