#مجد_أيار
"الحرب المنسية" وصدمة اللاوعي الصهيوني... الفشل يتيماً
بقلم: جلال شريم
في أجواء الذكرى العشرين لهزيمة الاحتلال الصهيوني، واندحاره عن جنوبي لبنان، وتحقق حلم الانتصار والتحرير في لبنان، يزخر إعلام العدو بكثافة لافتة في المواد المنشورة حول تلك الذكرى، سواء من خلال توثيق المعلومات عن فترة الاحتلال، كنشر مقالات حول ابرز محطات الاحتلال، والعمليات التي واجهها، وتكريم جنود العدو القتلى، ونشر مقالات، وخاصة على الويكيبيديا، حول مواقع العدو خلال فترة الاحتلال ( سجد، الريحان، العباد، العيشية، الدبشة، الشقيف، العويضة، بلاط، راس البياضة،...الخ) لتبيان تاريخها وأهميتها العسكرية، وما واجهته من هجمات، وأسماء من سقط فيها من قتلى للعدو، وأيضاً نشر لقاءات مع قادة تلك المواقع، أو جنود خدموا فيها، او عناصر من العملاء الفارين الى فلسطين المحتلة.
أما الجزء الثاني من المواد المنشورة فيركّز على قرار الانسحاب وتحليله، وتحليل تداعياته وأنه حوّل حزب الله الى قوة وقدوة تهدد الكيان بشكل دائم. وهذا الفشل هو بمثابة "ضرر استراتيجي للدولة سيكون من الصعب اصلاحه على مدى جيل كامل (...) لقد قدمنا نموذجاً سيئاً في التعامل مع حلفائنا وتخلينا عنهم، وهذا ضرر مستقبلي كبير، ويقدم قدوة مشينة لمن يفكر بالتعامل معنا"، بحسب تعبير اللواء الاحتياط، غيرشون هاكوهين.
هذه المنشورات تكاد تجمع على وصف الانسحاب بأنه "هروب" وتم "بتخطيط سيئ" لكنه انقذ الجيش الصهيوني من معادلة "لبنان=الطين، لبنان= الكارثة"، بحسب تعبير البروفيسور الصهيوني، اودي ليبل (1). وهذا الانسحاب، بحسب تلك المنشورات، ترك تداعيات عميقة على هيبة الكيان، وشجع في اندلاع الانتفاضة الفلسطينية عام 2000، وقدم لها القدوة والنموذج، وأفهمها ان هذا العدو "لا يفهم الا لغة القوة" كما ينقل عن مروان البرغوثي، وأغرى الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات بمحاولة نقل التجربة المسلحة الى مناطق سيطرته، في إشارة الى قضية السفينة Karine A ، في العام 2002 التي كانت تنقل الاسلحة من ايران الى مناطق السلطة، بتخطيط واشراف حزب الله اللبناني، وهي السفينة الى أقنعت الكيان المحتل بأن عرفات لا يريد "السلام الفعلي"، فكان لا بد من اغتياله، بحسب الكثيرين.
وبين ثنايا هذه "الفورة"، في المنشورات، نستطيع الامساك بخيوط المحتوى الباطني (الرسمي) التي تخالف ظاهر هذه الفورة (الشعبي)، وعبر رصد السجال الذي يؤرق الصهاينة، ويكشف عمق الصدمة التي تركتها هذه الهزيمة في وجدانهم، والضرر الذي الحقته بعقيدتهم القتالية، وهو السجال الحامي حول ضرورة الاعتراف بفترة احتلال الشريط الحدودي بأنها "حرب مستقلة بشكل رسمي"، بدل تقديمها بأنها قتال (شجار)، او مجموعة حوداث عسكرية "ضائعة بين حربي لبنان الاولى والثانية"، بحسب التعبير الصهيوني. وهذا الامر تتجنبه سلطات العدو لأن دونه محاذير كثيرة: رسمية وقانونية ونفسية، وسينتج عنه تداعيات محلية ودولية، وإقرار رسمي بعدد القتلى خلال تلك الفترة، ووجوب الالتزام بالمعاهدات الدولية التي تقونن الحروب وتلزم المتحاربين باتباع قوانين تجاه الخصم، واحتمالية دفع تعويضات وغيرها. وهذا السجال يدور على صُعُد عدة، وبوسائل متعددة، ولا يوفر منصة إعلامية إلا ويستغل فضاءها لإبراز نفسه.
ففي مجال النشر صدرت كتب عدة، آخرها كتاب "لبنان: الحرب المنسية" للصحفي الصهيوني "حاييم هار-زهاف" والذي خدم جندياً في لواء ناحال المحتل في الجنوب بين عامي 1996 و2000، ويرى أنها سنوات أربع زادت طين الاحتلال بلة، بدل استغلال تفاهم نيسان 1996 للانسحاب، وحفظ ماء الوجه. وفي الصحف تم نشر عدد كبير من المقالات السجالية، في هذا الاطار.
وعلى اليوتيوب رصدنا سلسلة من ثلاث حلقات تحت عنوان "حرب بلا اسم" تتناول القضية بشكل مسهب، عبر لقاءات مع قادة جيش العدو وضباطه وجنوده، مستعرضة أسباب الاحتلال، وسير الاحداث حتى الانسحاب وتداعياته. وهي السلسلة التي بثتها محطات تلفزة عبرية، مضافاً إليها حلقات وبرامج عدة.
أما على الفيسبوك فهناك مجموعة تحت اسم "قصص من لبنان ـ ماذا حدث في المواقع" وهي مخصصة لجنود العدو ليرووا ذكرياتهم وتجاربهم ومشاهداتهم أثناء خدمتهم في لبنان. هذه المجموعة مثلت ظاهرة لافتة في هذا الاطار، واستقطبت حوالي 35 ألف عضو، غالبيتهم من الجنود، واحتوت آلاف المنشورات والصور، التي تنشر للمرة الاولى، في فترة قياسية. وتُشكّل هذه المجموعة واحدة من اهم ادوات الضغط، وباتت منشوراتها مادة مرجعية في إعلام العدو في هذا الاطار، لنزع الاعتراف الرسمي بأن فترة الاحتلال كانت حرباً ويلزمها اسم، وبالتالي يجب أن "يُبنى على الشيء مقتضاه"!!
واللافت انه عبر هذه الصفحة تم اطلاق احصاء "غير رسمي" لعدد الجنود الصهاينة القتلى في لبنان، من خلال اصدقائهم وأقاربهم، وهو الامر الذي تأنف المؤسسة العسكرية للعدو من الاعلان عنه رسميا. وقد تبين، حتى الآن، ان عدد جنود العدو الذين سقطوا في لبنان، منذ الاعلان رسميا عن "انتهاء حرب لبنان الاولى" بتاريخ 29-9-1982، حتى لحظة الانسحاب بتاريخ 24-5-2000، قد بلغ 675 جندياً، سقط منهم 414 في الشريط المحتل بعد العام 1985. ولا زال هذا الاحصاء ساري المفعول حتى لحظة كتابة هذه السطور، فالرقم "ليس نهائياً وليس محدداً" بحسب بعض المشرفين على الصفحة، وبينهم "هار ـ زهاف" نفسه.
ولكن السؤال الذي يطرح نفسه: ما هي خلفيات عدم الاعتراف هذا؟
طبعاً تتعدد التحليلات وتتنوع وتتشعب لكنها تعود وتلتقي، آخر المطاف، عند مفاهيم "الهزيمة والفشل والهروب" التي آل اليها المخطط الصهيوني في لبنان.
يرى د. أوري ميلشتاين (2)، في مقاله المنشور بتاريخ 12ـ5ـ2020، أن الغزو الصهيوني إلى لبنان كان ذا شقين: عسكري واستراتيجي.
كان الشق العسكري يهدف إلى تدمير القوى الفلسطينية، في جنوبي لبنان، وإبعادها عن الحدود مع فلسطين المحتلة، ليحقق الكيان شعار الاجتياح الذي اسماه "سلامة الجليل"، أي ضمان أمن مستوطناته الشمالية.
أما الجانب الاستراتيجي، فهو حلم الطبقة السياسية الصهيونية آنذاك، بـ"إيجاد نظام سياسي جديد في الشرق الاوسط"، عبر إبعاد الفلسطينيين الى الاردن، ليتخذوه وطناً بديلاً لهم.
وبالتالي "تصفية القضية الفلسطينية" وهذا ما ادلى به باراك مؤخراً، وألقى اللائمة بهذا التفكير على "أحلام أرييل شارون".
طبعاً لم يتحقق أي شيء من ذلك، بل كانت النتيجة عكسية، إذ غرق "الجيش الذي لا يُقهر" في وحول لبنان واستبدل الفلسطيني "بعدو جديد قوي ورثه"، وواجه حرب عصابات عجز عن ايجاد حل لها فدخل في دوامة استنزاف مثل "الاستنزاف الذي واجهه بعد حرب الايام الستة"، بحسب تعبير ميلشتاين.
تحوّل حلم تأمين مستوطنات الشمال إلى وهم أنتج كابوساً لمئات الجنود الصهاينة المحتلين في لبنان، مع أهاليهم وقيادتهم، وصار همهم أن يحموا انفسهم، وبات هدفهم أن ينجوا بها من الموت، فحسب.
في مقابلة مع المقدم الصهيوني المخضرم، يفتاح غاي (3)، يروي كيف أن مقاومين نجوا من كمين، فأعطى الاوامر لقوة صهيونية بأن تلاحقهم، فجاءه الامر من قائد المظليين، يسرائيل زيف، بعدم فعل ذلك. يعقب غاي الذي خدم ثلاث مرات في لبنان: "تبينت لي الفكرة: ليس المهم عدد الارهابيين الذين سنقتلهم، ولكن الاهم كم من جنودنا سيبقون على قيد الحياة".
أما أفيتال غونين، مشغل نظام الرادار في موقع قلعة الشقيف، فيقول: "أول الأمر شعرت بفخر وفرحة أنني سأخدم في الموقع (...) ولكن لاحقا لم تعد الحياة تطاق، رغم تواجد الوية النخبة والمظليين والسيطرة الجوية ونظام Kesht الراداري للمراقبة الذي كنت أشغله (...) فبات مجرد الصعود إلى أعلى الحصن نوعاً من اختبار الشجاعة".
يقول جندي آخر: "خوفا من الاختطاف كان الجندي يحتاج الى جندي يرافقه عند خروجه كي يتبول!! ولحسن الحظ أنني خرجت "قطعة واحدة" في اواخر العام 1999".
ويعقب ميلشتاين: "...وكيف تحمي الجنود؟ ليس باتخاذ المبادرة والهجوم، كما اراد ليفين، ولكن بالدفاع، وبناء التحصينات، ورفع الجدران (...) وكلما ارتفعت الجدران الخرسانية، ارتفعت جدران الخوف بين الجنود، وفي قلوب القيادة".
نعم، مرحلة "الشريط المحتل/المنطقة الامنية" صدمة أصابت صميم العقيدة العسكرية للكيان، التي تمثل علة وجوده، وجعلته يتجرع كأس الهزيمة، والغرق الطويل من دون ان يحقق أي هدف من أهدافه المعلنة، واجبرته آخر المطاف على الفرار من دون اي معاهدة أو مقابل، ولو رمزي، لحفظ ماء وجهه.
يحلل دورون خياط الذي خدم لسنوات في موقع بلاط هذه المسألة في لقاء في ذكرى الاندحار: "لقد نُسيت تلك الفترة تماماً. هناك أمران يتم الحديث عنهما فقط: كارثة المروحيات والانسحاب (...) المشكلة أن فترة القتال كانت طويلة ولم نفز فيها، وهذا أمر يصعب على الجيش ان يتعامل معه أو يتقبله (...) على الحكومة ان تعترف بأنها حرب لتكريم الذين سقطوا، والذين خدموا هناك. وبمجرد إعلان تواجدنا في "المنطقة الامنية" بأنه حرب فسيكون له يوم ذكرى وطني، كما الحروب الاخرى".
وفي مقال آخر ترد صورة أخرى للفشل: "الاعتراف ببقاء الجيش في قطاع الامن بأنه كان "حرباً" سيكون اعترافاً ايضاً بأنها كانت حرباً من دون خطة ولا استراتيجيا ومن دون شفافية تجاه الجمهور وتجاه المقاتلين (...) هي بالمختصر: حرب الغباء".
يرى التحليل النفسي أن النسيان هو "وسيلة للتغلب على الذكريات الأليمة"، وهذا ينطبق هنا على العقيدة الصهيونية القتالية التي أسطرت جيشها، وقدمته على انه لا يُهزم، ولن يخسر أي حرب مع أعدائه، بغية "الحفاظ على شعب الله المختار، في ارض الميعاد". ولكن مع هزيمته في لبنان بدأ الصهيوني يكتشف ما لديه من أواليات نفسية تساعده على نسيان هذه الذكرى الأليمة، فبدأ بإخراجها من خانة الحروب، ويحاول نسيانها أو طمس جزء من ذاكرته باستئصالها Lobotomie mémorielle والتعالي على الواقع للهروب منه، والحفاظ على صورة جيشه في وجدان مستوطنيه.
لعل مقولة "فرويد" تكفينا في هذا الاطار: "من الواجب ان نهتم بالنسيان أكثر من التذكر، فلكي نتعرف إلى مجتمع ما يجب ان نأخذ بعين الاعتبار ما لا يُخلّد". هي مقولة تذكرنا بمقولة العميد الصهيوني "موشيه تامير" (4) عندما سأله المحاور في نهاية الحلقة الأخيرة من سلسلة "حرب بلا اسم" عن سبب أن "عصر لبنان هو حرب غير مسماة"، فرد باقتضاب معبر: "انظر، الفشل يتيم دائماً"!!
المصادر
(1) أودي ليبل: محاضر وباحث في كلية الاتصال في جامعة "بار إيلان".
(2) أوري ميلشتاين: من اكبر المؤرخين العسكريين الصهاينة، وهو الذي اجرى اللقاء مع باراك مؤخراً.
(3) خدم يفتاح غاي مرات ثلاث في لبنان. المرة الاولى (1984-1989)، الثانية (1993-1995)، ثم تم استدعاؤه، لخبرته بالملف اللبناني، بعد حادثة تحطم المروحيتين في العام 1997 حين تم القضاء خلالها على عدد كبير من جنود محور الشقيف الدبشة علي الطاهر، وبينهم قائد المحور موشيه المعلم، فاستنجدت القيادة به لإعادة بناء هذا المحور الحساس والمهم.
(4) "موشيه تامير": عميد صهيوني متقاعد، كان قائداً للولاء غولاني، ثم قائداً لفرقة غزة في جيش العدو، وخدم في لبنان سنوات عدة، وقاد وحدة "ايجوز" الصهيونية الخاصة. أصدر كتاباً عن حرب لبنان "حرب بلا شارة" (2005). أُجبر على الاستقالة من منصبه في سنة 2010 بعد فضيحة سماحه لابنه الصغير بقيادة مركبة ATV عسكرية، من دون ترخيص، قرب حدود غزة، واصطدامه بمركبة مدنية، ومحاولته لفلفة القضية.
إقرأ المزيد في: #مجد_أيار
27/05/2020
مجد أيار
27/05/2020
كيان الاحتلال بين البقاء والزّوال
27/05/2020