الرد القاسم
من "صراع عربي - اسرائيلي" الى أزمة "عقار"
ايهاب زكي
كانت السمة الرئيسية في منطقتنا والعالم في النصف الثاني من القرن الماضي، ما عرف بـ"الصراع العربي-الإسرائيلي"، وخضعت المنطقة طوال تلك الفترة لقوانين ذلك الصراع وتجرعت آثاره. وكما مرَّ على مدى ذلك الصراع محطاتٍ مفصلية، فقد مرت فيه مراحل من الرتابة والجمود، ولكن مع بدايات القرن الجديد خضع الصراع لأشد لحظاته تصاغراً وتضاؤلاً، فقد صار يُنظر إليه باعتباره صراعاً فلسطينياً-"إسرائيلياً"، ثم من كونه صراعاً سياسياً تاريخياً ومصيرياً، إلى أن يكون مجرد مشكلةٍ إنسانية مع "إسرائيل"، أو أزمة عقار معها في أحسن الظروف. وبالتزامن مع هذه الزاوية تخللها صراعٌ فلسطيني - فلسطيني، وفي السنوات الأخيرة وصل الأمر لأكثر لحظاته ومفاهيمه انحطاطاً، حيث بدا في مكانٍ ما أنّه صراع "عربئيلي-فلسطيني"، حيث اصطفت عروش عربية مع حق "إسرائيل" في البقاء بل والتسيد، ولم تعد فلسطين هي نقطة العبور نحو تحرر الأمة، بل أصبحت هي العقبة في طريق المهرولين نحو"تل أبيب"، وأصبح التخلص من هذه العقبة هو الهدف بغض النظر عن الوسيلة. وفي هذه اللحظة بدا وكأن هذا الصراع انتهى عملياً، والجميع يأخذ وضع الجهوزية للإعلان عن تلك النهاية فقط.
في ذلك المسار التاريخي الطويل، بدا في بعض محطاته أنّ الصراع هو جزء من الحرب الباردة، وأنّ الصراع مع "إسرائيل" يتطلب قوة عظمى لخلق التوازن مع الولايات المتحدة الداعم الأكبر للكيان، ولم تكن الولايات المتحدة بحد ذاتها عدواً قابلاً للاستهداف المباشر، ثم شيئاً فشيئاً وعلى ضوء نتائج الحرب الباردة، تحولت إلى الراعي الرسمي لما يسمى بـ"عملية السلام"، وكانت الوسيط المنحاز غير الآمن وغير النزيه، ثم أصبح الحلم العربي هو محاولة انتزاع مواقف أمريكية تلحظ ولو من بعيد بعض الحقوق الفلسطينية، وكانت هذه المحاولات العربية والفلسطينية بتقديم المزيد من التنازلات، بدءاً باتفاقيات السلام المنفردة والثنائية وصولاً إلى ما يسمى بـ"مبادرة السلام العربية"، وليس انتهاءً بما يعرف بـ"مبدأ الاقتصاد مقابل السلام" و"التطبيع قبل السلام" و"الأمن مقابل الأمن"، ثم في عصر ترامب لم يعد هناك ما هو قابل للتفاوض، وما يتم تسريبه عن بنود ما يُعرف بـ"صفقة القرن" هو تصفيةٌ كاملة للقضية الفلسطينية وإعلان رسمي للنهاية.
في هذا الصراع الدامي كانت "إسرائيل" هي الهدف لا سواها، رغم تطور ذلك الهدف ولو بالشكل العكسي، فقد بدأ بمحاولة إزالتها من الوجود، إلى فكرة الاعتراف بالواقع، ثم فكرة التعايش مع وجودها وصولاً إلى فكرة تسيدها للمنطقة اقتصادياً وتكنولوجياً وبالتالي سياسياً وعسكرياً، رغم أنّ هذه العصابة التي تحتل فلسطين، هي مجرد حاملة طائرات أمريكية في البر، وحصلت هذه الحاملة على مسمى دولة لأهدافٍ استعمارية لا علاقة لها بحقوق تاريخية أو دينية أو تضامن إنساني مع اليهود، فـ"بلفور" مثلاً صاحب الوعد المشؤوم والشهير كان معادياً لما يُعرف بالسامية، وبما أنّ هذه "الدولة" هي مجرد وكيلٍ استعماري، فمهما أوتيت من أسباب القوة والتفوق ستظل بلا عوامل قوة ذاتية، وسيبقى الفضل لبقائها كما كان لوجودها للمظلة الاستعمارية التي ترعاها، وهذا خلافاً لما كتبه مارتن أنديك من أنّ "إسرائيل" بعد عقود من الدعم العسكري والاقتصادي الأمريكي والتعاون الأمني قادرة على الدفاع عن نفسها، حيث يبدو أنديك غير مدركٍ للحد الفاصل بين الرغبة والقدرة، فهذه "الدولة" اللقيطة لا تستطيع حماية نفسها من غزة المحاصرة والمنهكة، وترى فيها خطراً استراتيجياً متعاظماً، فكيف بمحورٍ متكاملٍ من صنعاء إلى بيروت فدمشق وبغداد وصولاً إلى طهران. وأبسط مثالٍ على هشاشة هذا الكيان، رغبته الجامحة باغتيال الجنرال قاسم سليماني، ولكن خشيته من ردّ الفعل جعلته يحجم، ولنا أن نتخيل ماذا لو كان الجنرال سليماني في سبعينيات أو ثمانينيات القرن الماضي، هل كان الكيان ليحجم أو حتى يتردد في اغتياله؟
اعتبرت "إسرائيل" أنّها المستفيد الأكبر والأول من اغتيال الجنرال سليماني، لأنّها رأت فيه العدو الألدّ على مدار وجودها، وأنّه الشخص الذي أحاطها بحزامٍ من الصواريخ التي تهدد وجودها. ولكن هذه النظرة الآنية هي نظرة قاصرة، لأنّ اغتيال الجنرال سليماني نقل الصراع إلى النور، ولم يعد - الصراع - مع أحد الأوجه القبيحة للولايات المتحدة "إسرائيل"، بل مع العدو الحقيقي بلا أقنعة، وهذه قفزة عملاقة في تاريخ الصراع وليس مجرد خطوة في الاتجاه الصحيح. كما أنّ هذه القفزة بحد ذاتها مفاجأة صادمة، حيث اكتشفنا متأخرين أنّ الصراع مع هذا الكيان الذي رزح لسبعة عقود على الجغرافيا وسطا على التاريخ وقتل وشرّد وبدا في لحظةٍ ما لا يُقهر، اكتشفنا أن الصراع معه أضحى مجرد تكتيك، وأنّ أي صدامٍ مستقبليٍ معه سيكون موضعياً، على قاعدة استهداف مصدر النيران فقط، أمّا الصراع الحقيقي فهو مع مالك هذه الحاملة البرية، فإخراج الولايات المتحدة من المنطقة يعني بالضرورة الحتمية زوال"إسرائيل" كما قال السيد نصر الله مع احتمالية عدم الحاجة لحربٍ أخيرة، لذلك فإنّ "إسرائيل" ستستفيد من اغتيال الجنرال سليماني أماناً شخصياً لمستوطنيها طالما التزمت الصمت الناري والأمني، وإن أرادت الاستفادة من هذه الميزة أن تراقب المعركة لإخراج الولايات المتحدة عبر الشاشات بحياد، كما فعل نتن ياهو وحكومته عقب عملية الاغتيال، ولتنتظر النهايات حرصاً على حياة يهودها لا حياة كيانهم، فالأموات سريرياً قلما يعودون للحياة.
إقرأ المزيد في: الرد القاسم
23/01/2020