الرد القاسم
فجر الأمة.. سليماني
ليلى عماشا
خمس ليال مرت واحدة بين فجرين، أولّهما عزّ مخضّب بدم الشهداء ودمع كلّ أهل الحق، وثانيهما عزّ مكلّل بنار القوة، وبنور الكرامة، وبفرح يمسحُ عن وجه الجبهات حزن الفقد، ويحيله غضبًا يصنع نصرًا، وما النّصر إلا من عند الله المنتقم.
في الفجر الأوّل، أيتم قاسم سليماني وصحبه الأحرار كل روح تقاتل. "الجندي" الذي عاش شهيدًا حيًّا منذ أول نبضة عشق في طهر روحه، كتب للتاريخ مفترقًا جديدًا، وتحوّلت أمنيته بالاستشهاد إلى محطة ينقسم الزمن بين ما قبلها وما بعدها. بحرٌ من دمع رافق صعوده، وبحرٌ من قلوب هدرَ يتبع نعشه من العراق إلى إيران، وبحرٌ من شهداء استقبله مشتاقًا إليه في العليين. كان فجرًا قاسيًا، فجرًا يصعبُ احتواء كلّ ما فيه من انفعالات ومشاعر ودموع ورضا.
خمس ليال من غضب أمين، من حزن بتّار ومن يقين بأنّ المرحلة دخلت بُعدًا جديدًا في الصراع، ترتّل فيها الروح على وقع ألمها:"أيّ دمٍ لنا سفكتم؟!" وتشتعل حرائق لمّاعة في كل عين تميّز الحقّ بحاسّة العشق، وتعرفه بأهله، وسليماني خير أهله وأجملهم، ودليلنا إليه عبق السواتر وعطر الجبهات التي جعلها ضفيرة تلتف حول عنق وجود الأميركي في بلادنا.
خمس ليال ووعدُ الثأر يمسح على رأس القلوب التي حلّت فيها جراح جسده الطّاهر فبضّعتها حزنًا وافتقادًا وتمسّكًا بالحق وبالسلاح، ويقينًا بأن هذا الدم سيحرق كل أمل أميركي بالبقاء في بلادنا.
خمس ليال وعيون الدنيا مسمّرة على الجمهورية الإسلامية في ايران، حلفاء وخصوم، أحبة وعدو. فقد أيقن العالم منذ اللحظة الأولى لفجر الجمعة أنّ عليه أن ينتظر الردّ الإيراني، وأن يكون على استعداد لحفظ كل تفصيل في المشهد. فهُناك، والسيل البشري الهادر بـ "علمدار نيامد" (حامل الراية لم يعد) بدا على أعلى جهوزية للثأر، و"انتقام سخت" لم يكن شعارًا يُرفع لرفع العتب كما اعتدنا في بلاد ومن بلاد اعتادت غالبية أنظمتها على نظم الوهم شعارات في حب فلسطين وفي العتم ساومت عليها وتآمرت. خمس ليال ودمعُ العاشقين مطر، وقيل يُعرف أهل الحق بما يُبكيهم، فإن كان عاليًا رفعهم دمعهم إلى أعلى القوّة وإن كان سافلًا وضعهم في خانة الضعفاء. وما بكى أهل الحق إلّا حبًا وافتقادًا واستعجالًا لحتمية النصر، فكان الفجر الثاني أذانًا للقلوب أن حيّ على الحب، ومن الحب الكرامة والوفاء.
إذًا، في الفجر الثاني، وفي تمام الساعة الواحدة والعشرين دقيقة، دوّى الردّ لهيبًا يوقد القاعدة العسكرية الأميركية الكبرى في العراق، عين الأسد، والمركز الذي يتباهى الاحتلال الأميركي بتكاليفه وتجهيزاته وجنوده، وبوهمه أن أحدًا لن يحرؤ على رميه بحجر. رميةٌ بالستية من بأس سليماني أشعلت بلحظة حبّ سنين دأب خلالها الأميركي على تعزيز وجوده وبسط سيطرته وتعبئة العقول الخاوية والأرواح المهزومة بوهم تفوّقه العسكري. سقطت أسطورتهم في لحظة، وتلاها ألف ألف سقوط لهم.
سقط الوهم الأمريكي وأسقط معه كلّ من صدّقه يومًا أو تضمّنت أمنياته أن تكون "الكذبة الأميركية" حقيقة. بل سبقه إلى السقوط كلّ فرد وجماعة التحقوا به كأدوات تهلّل ولو بالقلب لوجوده هذا، إن لم يكن لرجس عمالة فيها، فلرجس البغض لجمهورية الثورة ونواة محور المقاومة وداعمة ثورييه الأمميين. هنا، يصبح تفصيل عدد القتلى الأميركيين هامشًا لا يستحقّ التوقّف عنده، ففي معايير الصراع، لا يمكن الآن تعداد قتلى الخيبة من أميركيين وأدواتهم، ولا يمكن إحصاء جرحى الذهول بما استطاعت فعله إيران رغم العقوبات والحصار والجرح البليغ، ولا يمكن لصفحات أن تفنّد حجم الخسائر التي مُنيت بها الولايات المتحدة الأميركية في كل العالم.
فجر سليمانيّ كان ربما تمهيدًا لشروق شمس كسر الجبروت الأميركي في المنطقة. ما زال النهار في أوله، وساعاته تُحتسب بعدّاد الثأر المقاوم، ووفق مواقيت السّلاح وحسابات الخرائط والإحداثيات.
إقرأ المزيد في: الرد القاسم
23/01/2020