الرد القاسم
بعد خطاب السيد نصر الله: الحلم أصبح مشروعاً
ايهاب زكي
بعد خطاب الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله أصبح الحلم مشروعاً، وبعد خطابه لم يعد التحليل مهما علا سقفه ولو جاوز الأمنيات جنوحاً، فحتى صِعاب الأمنيات أضحت عند طرف البنان، وأصبح المستحيل نطاق الفعل، والزنود تسورت به والهامات، وصار مصير أعظم إمبراطوريات التاريخ مقرَّنًا بأصفادٍ من عزم، ومطوقًا بأحزمةٍ من نار، واليقين الذي كان يخالطه الشك حيناً ومرُّ الصبر أحياناً، تلألأ للناظرين دون ستارٍ أو حُجب، فعرش الكوكب الذي اعتلته الولايات المتحدة منفردة على مدار ثلاثة عقودٍ يتزعزع، فيما خروجها من هذه المنطقة حين تحققه المتيقَّن لا يعني انتزاع العرش فقط، بل انتزاع القلب واقتلاع الشرايين، وسيتسنى حينها للرئيس الروسي فلاديمير بوتين أن يكرر في خطاباته الجملة التي كانت أثيرة على قلب أوباما "روسيا دولة إقليمية كبيرة"، مع تغيير اسم الدولة ليقول "أمريكا دولة إقليمية كبيرة"، حيث كان يتعمد أوباما تكرارها لتذكير روسيا بأنّ العرش لم يعد يتسع لقوتين.
بعد خطاب السيد نصر الله لم يعد الحديث يدور عن معارك تكتيكية، معارك تفرضها ضرورات الميدان سياسياً أو عسكرياً، بل تحوّل الأمر إلى معركةٍ استراتيجية مهما تضاءلت تفاصيلها وأحداثها، لأنها المعركة التي سترسم معالم المنطقة لقرنٍ قادمٍ على الأقل، فاغتيال الجنرال قاسم سليماني هو بمثابة انفجار في مركز الأرض، أدّى وسيؤدي لانزياحاتٍ هائلة في الصفائح التكتونية، ستتبدل على آثارها الجغرافيا والخرائط والحدود وحراسها، وقطعاً لم يدر بخلد ترامب وهو يوقع قرار الاغتيال، أنّ هذا القرار هو الأشد حماقةً منذ عملية "بارباروسا" في الحرب العالمية الثانية، حيث قرر هتلر غزو الاتحاد السوفييتي، وكان يعتقد ترامب أنّ العملية ستمر بأدنى الخسائر، حيث ستعمد إيران إلى براغماتيتها وتنتهز فرصةً ثمينة لاقتناص فوائد اقتصادية، أو تلجأ إلى ردٍ موازٍ في أسوأ الأحوال. وتبدو العقلية"الإسرائيلية" حاضرة في هذا السيناريو، حيث مارست الاغتيال لقادة فلسطينيين ولبنانيين، وكانت الردود تقتصر على عملياتٍ متوازنة ومحسوبة، وهذا لاعتباراتٍ كثيرة لا مجال لحصرها هنا، وهذا ما ظنّه ترامب أو من أزَّه من شياطينه، لكنه لم يأخذ بعين الاعتبار الوقت والشخصية والمكان والمكانة، ولم يدرك طبيعة أعدائه، كما لم يدرك أنّه كان يوقع على آخر الصفحات في كتاب التاريخ الأمريكي في المنطقة.
في أول ردٍ وعلى سبيل الاستفتاح، أصدر البرلمان العراقي قراراً يلزم الحكومة العمل على إخراج القوات الأجنبية من العراق. ولا أريد الدخول في تفاصيل قانونية ودستورية وميثاقية، لها علاقة بالداخل العراقي وتوازناته، كما لها علاقة بالتحالفات الحزبية ومصالحها أكثر من علاقتها بالبعد الاستراتيجي والإطار الوطني والقومي، ولكن بالعموم فإنّ هذه هي الطريقة الأسهل لجلاء القوات الأمريكية من العراق، أن تأخذ الحكومة العراقية على عاتقها هذه المهمة ثنائياً أو دولياً في الأطر الدبلوماسية. وحسب العقلية الأمريكية فإنّ هذا الخيار لن يكون سهل التجرع، وستعمد الولايات المتحدة إلى المماطلة خصوصاً إذا تلمست قدرة على صناعة فوضى جديدة بعد مشاهد التوحد العراقي في تشييع جثامين الشهداء، أو إيقاظ خلايا "داعش" النائمة لمحاولة إعادة استباحة العراق ومدنه، أو الضغط الاقتصادي والمالي والتجاري، وقد تلجأ في حالة قدرة العراق الرسمي على الإصرار ومواصلة تنفيذ قرار البرلمان، قد تلجأ إلى ملاذٍ آمن كالانسحاب إلى كردستان العراق، خصوصاً أنّ النواب الكرد قاطعوا الجلسة البرلمانية الطارئة التي صوتت على قرار الانسحاب، وبهذا الشكل تكون قد التفت على القرار وعلى العراق، ولكن ما ستغفل عنه أمريكا أنّ العراق لم يعد قطعة جغرافية قابلة للاستفراد، بل أصبح قلعةً ضمن سلسلة قلاعٍ قررت الصمود سابقاً والانتصار لاحقاً.
إن استراتيجية إخراج القوات الأمريكية من المنطقة عنوانٌ كبير، وتندرج تحته تفاصيل لا حصر لها ولا نهاية، فلكل قاعدة أمريكية حساب مختلف. قواعد العراق تختلف عن قواعد سوريا، بل حتى تختلف عن قواعد كردستان، وكلاهما يختلف عن القواعد في تركيا، وجلها يختلف عن القواعد في الخليج، وحتى قواعد الخليج لم تعد على ذات السطر، وجلها تختلف عن القواعد في أفغانستان، وعليه فإنّ هذا الاختلاف يوجب أمرين، الأول هو طبيعة التعامل مع كل قاعدة حسب أهميتها ومكان وجودها، والثاني هو المدى الزمني الذي ستستغرقه هذه الاستراتيجية. فمنذ بدء عملية "بارباروسا"، استغرق سقوط الرايخ الثالث ما يقارب الأعوام الأربعة، وقد صرّح الرئيس الإيراني بأنّ "الولايات المتحدة ستكتشف حجم الخطأ الذي ارتكبته في السنوات القادمة".
ولكن هل يعني هذا أنّ سيناريو الحرب الشاملة مستبعد؟ نظرياً هو مستبعد لأنّ الأطراف جميعاً تحاول تجنبها ولا تسعى لها، ولكن عملياً فإنّ رائحة الدم والبارود والنفط لا كوابح لها، خصوصاً أنّ كلام السيد اعتبر أنّ طرد أمريكا من المنطقة ليس هدفاً لذاته بل له غاية، وغايته زوال "إسرائيل" وقد يكون بلا معركة، وزوال هذه الـ"إسرائيل" ليس مجرد تحرير أرض أو طرد محتل، إنّه قيام أمةٍ تمتلك كل عوامل السؤدد وكل أدوات الحفر في صخور التاريخ، لذلك فإنّ علينا أن نتجلد وعلى أمريكا أن تبدأ بإحصاء النعوش، أو أن تعيد مذاكرة التجربة السوفييتية في السقوط فتنهار بعيداً عن النعوش وعنّا.
إقرأ المزيد في: الرد القاسم
23/01/2020