الرد القاسم
اغتيال قائد لواء القدس والإنتقال نحو استراتيجية الهجوم
د. محمد علي جعفر
في التقارير العبرية بعد اغتيال الجنرال قاسم سليماني، تصريحٌ واضحٌ بأن تل أبيب استطاعت التخلص من "أكبر أعدائها على مرّ كلّ الأزمنة". يحتاج التحليل الإستراتيجي الى إطارٍ من الحقائق ما يستوجب العودة الى الحيثيات والأسباب الحقيقية. وهو ما يفرض البدء من المصلحة القومية للكيان الإسرائيلي. كما أن الإنطلاق من الكلام الإسرائيلي ضرورة تعود لأهمية الدور والتأثير الإسرائيلي في الداخل الأمريكي لا سيما في المرحلة الراهنة وعلى بُعد أشهرٍ من الإنتخابات الأمريكية. وعلى الرغم من أن الخطوة التي أقدمت عليها الإدارة الأمريكية الحالية تدخل ضمن سلسلة الخطوات المجنونة للرئيس الأمريكي ولو أنها تُعد الأكثر جنوناً، فإنها أيضاً خطوة مُسبقة يسعى من خلالها ترامب تحصيل دعم اللوبي الصهيوني.
صدرت منذ أسبوعين توصيات "مؤتمر المركز متعدد التخصصات في هرتزيليا". هذه التوصيات كافية للدلالة على القراءة المغايرة للمخاطر القومية على الكيان الإسرائيلي. مع ما شكلته هذه التلميحات من وجود توجهٍ مشترك وواضح بين الكيان الإسرائيلي وبعض مراكز القرار في الولايات المتحدة لتغيير سلوكهم في المنطقة خلال المرحلة المقبلة. وهنا لا بد من التذكير بأن المؤتمر هو محطة دورية يُناقَش فيها مستقبل الكيان الإسرائيلي ضمن سقف المصالح القومية لتل أبيب، وتوضع التوصيات بعد نقاشات ومباحثات علمية تُجريها نخب أكاديمية وعسكرية وأمنية ورجال أعمال من المعنيين بالأمن القومي الإسرائيلي ويحضرون من عدة دول من بينها أمريكا وأوروبا.
أهم ما خلُص اليه المؤتمر هو الرسائل المُباشرة التي أرسلتها القيادة الإسرائيلية الى نظيرتها الأمريكية والتي عبَّر عنها في كلمته رئيس أركان الجيش الإسرائيلي الجنرال أفيف كوخافي. كرَّر أكثر من مرة عبارة "لواء القدس" وشدَّد فيها على "دوره النوعي المتنامي" في البئية الإستراتيجية للكيان الإسرائيلي، داعياً الى "ضرورة ردعه" مُتحسراً على "شعور الكيان بالوحدة" كنتيجة "للدور المفقود للحلفاء" في القيام "بالردع المناسب".
هي المرة الأولى التي يتم فيها استخدام عبارات خاصة بلواء القدس بهذا الشكل والسياق. وهو ما يُشكل إطاراً من الحقائق التي يجب البناء عليها في أي تقدير موقفٍ استراتيجي. كل ما تقدم يدخل ضمن نقاش الحيثيات. فماذا في الأسباب والدلالات؟ وما علاقة "منظومة القوة المتكاملة لمحور المقاومة" التي بناها الجنرال قاسم سليماني؟
في الحديث عن أسباب الإغتيال يمكن قول التالي ضمن المنظور الأمريكي:
أولاً: فيما يخص المصلحة الإستراتيجية الأمريكية في المنطقة، أقرَّت واشنطن بفشل الوكلاء في كل الساحات التي اعتمدت فيها الحرب بالوكالة من فلسطين الى لبنان وسوريا والعراق واليمن. مع لحاظ أن معيار النجاح أو الفشل هو مستوى ضمان أمن الكيان الإسرائيلي. بل إن قيام واشنطن بتوجيه الضربة دون سواها من الحلفاء أو العملاء، هو اعترافٌ بالتالي:
ـ فشل كل الحروب الصلبة والناعمة وبأدواتها المختلفة والتي قادتها أمريكا وهدفت بأسبابها الجيوسياسية والجيوعسكرية لضمان أمن الكيان الإسرائيلي مع ما يعينه ذلك من سبب لأي حركة أمريكية وهدفاً مركزياً لها.
ـ تراجع قدرة الكيان الإسرائيلي على تثبيت معادلة ردع في بيئته الإستراتيجية والذي بات أمام حقيقة حتمية تعني هزيمته في أي حرب تحصل في المستقبل ولو قادها بعض أطراف محور المقاومة.
ـ اعتراف ضمني بالقوة الإقليمية للجمهورية الإسلامية الإيرانية وتحولها الى قوة دولية وضرورة نزالها بشكل مباشر بغض النظر عن ميدان المواجهة.
ثانياً: فيما يخص محور المقاومة، رضخت واشنطن للواقع الذي بات مُكرساً. فمع إيمانها بحتمية هزيمة كل حلفائها في أي معركة مستقبلية، تنظر واشنطن وبحسرة على المعادلات الجديدة التي يُبرزها المشهد الكلي في المنطقة:
ـ سيطرة عسكرية لمحور المقاومة على الرقعة الجيو عسكرية التي حددتها واشنطن كساحة لمشروع الشرق الأوسط الجديد.
ـ طغيان النفوذ السياسي للأجنحة السياسية لأطراف محور المقاومة في الدول المركزية ضمن الصراع مع تراجع وهشاشة كل من الدول الخليجية والكيان الإسرائيلي.
بالنتيجة، احتاجت واشنطن لصدمة، تُمكِّنها من فرض معادلة جديدة. وهو ما يحتاج الى تغيير المعادلة القائمة. ومع إدراك ما يُشكله شخص الجنرال قاسم سليماني من معادلة سياسية وعسكرية، تُفهم عملية اغتياله في هذا السياق. ولأن الأميركيين يعرفون أن إيران ستردّ، تعمَّدوا توجيههم لضربة عسكرية ذات أبعاد سياسية - حيث كان يُمكن أن تُنفذ العملية بشكل أمني وعبر أطراف أخرى - بناءاً لقرار وتنفيذٍ أمريكي واضح للقول أنهم لا يناورون وعلى إيران أن تفتح صفحة جديدة في نوعية المواجهة. فجاء الإغتيال للجنرال سليماني مع ما يمكن للأمريكي استثماره في عدة مجالات. عملياً وبتجرُّد، نجحت واشنطن في فرض تموضعٍ جديدٍ لأعدائها. ولكن هل يكفي ذلك؟
هنا تأتي قصة "منظومة القوة المتكاملة لمحور المقاومة" التي بناها الشهيد قاسم سليماني. هو الدور المركزي الذي لعبه خلال السنوات العشرين الأخيرة من عمره المبارك. الكلام لا يتسع هنا للحديث عن المنظومة، ولكن يمكن النظر الى مشهد المنطقة لنرى "شبكة تعاومنية مترابطة جيوسياساً وجيوعسكرياً وجيو اقتصادياً وجيو إعلاميا، وتتألف من قوى تنتمي لمحور المقاومة والذي تقوده الجمهورية الإسلامية. باتت تتصف هذه الشبكة بكل مقومات القوة، فإلى جانب امتلاكها للقوة العسكرية باتت تمتلك قدرات أمنية ونفوذ سياسي وتربطها مجموعة من الروابط القيَمية." هي الشبكة نفسها التي خرجت ملامحها الى العلن عام 2007 وساهم ذلك في اغتيال الحاج عماد مغنية عام 2008 الذي كان شريكاً في لعب الدور التأسيسي. اليوم باتت الشبكة واقعاً مُكرساً يتحكم بالصراع في المنطقة ويأخذ دوراً في فرض المعادلات السياسية والعسكرية والأمنية والإقتصادية.
ومع النظر الى العراق كساحة مشتركة للنزاع، بما يعنيه من ساحة استراتيجية للعبور نحو غرب آسيا، بحسب تصور الإستراتيجية الأمريكية (استراتيجية أولبرايت هادلي، واستراتيجية الأمن القومي 2017)، يُفهم الخطر الإستراتيجي في تحوُّل هذا البلد الى أن يكون جزءاً من هذه المنظومة. هنا كان الخط الأحمر الأمريكي الذي تم اجتيازه وساهم في اغتيال الجنرال سليماني.
بناءاً لكل ما تقدم، يمكن توقع الرد الإيراني ضمن مقاربة الدلالات التالية:
أولاً: إنطلاق الجمهورية الإسلامية الإيرانية من اعتبار الفعلة الأمريكية تعدياً على مصالح إيران القومية، ومصالح الشعب الإيراني.
ثانياً: إن ترؤس الإمام الخامنئي اجتماع المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني، يجب قراءته مع لحاظ أن الأمام الخامنئي هو قائد الثورة الإسلامية التي تتخطى بحدودها جغرافيا الجمهوية الإسلامية.
ثالثاً: إن عملية الإغتيال حصلت على أرض العراق كساحة لصراع مستقبلي مع ما بررته الخطوة الأمريكية من سلوك مستقبلي مشروع للجمهورية الإسلامية على الساحة العراقية.
رابعاً: لحاظ دور الشهيد سليماني العلني والمعروف كعرَّاب للقضايا الإستراتيجية الخاصة بمحور المقاومة والذي تتزعمه إيران، وعلى الصعيدين الميداني والسياسي في العالمي العربي والإسلامي.
أمام هذا المشهد، أحرجت أمريكا نفسها وحلفاءها وخسرت في رهانها على أن عملية الإغتيال تعني فرض تموضع جديد لمحور المقاومة يمنعه من الرد بشكل شامل بل موضعي. وهو ما يأتي ضمن عقلية المقامرة التي يحملها ترامب وفريقه، مع ما يعنيه ذلك من تحميل حلفاء واشنطن في المنطقة أكثر من قدرتهم على الصعيدين العسكري والسياسي. وهنا لم تُخف تل أبيب رغم فرحها الكبير، خشيتها من الرد الإيراني وتداعياته الحتمية. لكن تل أبيب التي نجحت في توريط الإدارة أمريكية واستغلال أفول قوتها السياسية والعسكرية في المنطقة، باتت تستشعر وكنتيجة طبيعية لوجوها في المنطقة أنها أمام تحوُّل يعني عسكرياً "الإنتقال التدريجي لمحور المقاومة من الدفاع الى الهجوم". وهو ما لن تنفع معه المصطلحات العسكرية والتي ليست إلا ابتداعاً عسكرياً هدف لتنظيم التوازن العسكري من "معركة بين الحروب" الى "فترة قتال محدود" الى "مواجهة"، خصوصاً أن الخطوط الحمر سقطت والإحتمالات باتت كثيرة والجميع أمام اختبار في تقدير الموقف الإستراتيجي.
لذلك ستعتمد الجمهورية الإسلامية الرد ضمن حسابات ومعادلات تبدأ حيث انتهت كل حروب محور المقاومة. وسيكون لذلك آثار اقليمية ودولية ضمن معادلة الصراع التاريخية "من القدس والى القدس". وسيلعب كل من ينتم لـ "منظومة القوة المتكاملة لمحور المقاومة" الدور المطلوب بحسب اللحظة الراهنة ضمن تقدير متكامل يرعى المصالح الخاصة للأطراف والمصلحة العامة لمحور المقاومة. كل ذلك في ظل فائض من القوة يمتلكه المحور.
لقد كان استشهاد الحاج عماد مغنية بداية لمرحلة جديدة من تحويل المقاومة الى حالة إقليمية. واليوم، فإن استشهاد الجنرال سليماني هو بداية تحويل المقاومة الى حالة دولية. فهل باتت صورة المشهد المستقبلي واضحة؟
إقرأ المزيد في: الرد القاسم
23/01/2020