معادلة الردع
مستويات انتصار حزب الله: من فشل عملية الضاحية الى استهداف الاراضي "السيادية"
جهاد حيدر
لم يقتصر فشل العدو الاسرائيلي في محاولة تنفيذ عملية عدوانية في الضاحية الجنوبية على مستوى دون آخر. وامتدت ظلال هذا الفشل إلى الهجوم والدفاع والردع. فلا حقق العدو هدفه العسكري الابتدائي، ولا الردعي ولا الدفاعي ولا في الرد على الرد. في المقابل نجح حزب الله في تحويل ما كان يُفترض أن يكون فرصة للعدو الى تهديد له، فعزز قوة ردعه، وانتقل الى الهجوم الدفاعي على أرض فلسطين التي تُصنّف اسرائيلياً بالاراضي السيادية، وأسس لمستويات أعلى من الردع.
مع أن جولة ردود حزب الله لم تُستكمل حتى الآن (بانتظار اسقاط طائرة مسيرة) يمكن تناول انجازات حزب الله التي توالت منذ ما بعد "مبادرة" العدو في الضاحية الجنوبية.
أول مصاديق فشل العدو تمثل في فشل العملية التي كان يفترض أن تحقق هدفًا محددًا يعرفه حزب الله. منذ اليوم الأول اتضح الجزء الأول من الفشل عندما تعثرت عملية الطائرة المسيرة الأولى ووقعت في أيدي رجال حزب الله، ثم كشف الأمين العام لحزب الله عن فشل الثانية في تحقيق الهدف المرسوم لها، رغم أنه حصل على ما يبدو تحول في مهمتها من عملية صامتة بدون بصمة الى عملية انقضاض من الجو على أمل تحقيق الهدف.
لا يخفى أن فشل العدو في تحقيق هدفه، سوف يتحول الى فرصة لحزب الله من خلال الاستفادة من انكشاف رصد العدو للهدف أيًا كان. وهو ما سيدفع حزب الله الى اتخاذ اجراءات ما يعرفها المتخصصون. وهكذا يكون حزب الله استفاد على المستوى المعلوماتي الذي سيوظفه في حماية وتحصين الهدف عن رصد العدو.
من جهة أخرى، أدى فشل المهمة الى كشف هذا التكتيك الذي لو نجح ربما لبقي غامضًا حتى حين، أو على الأقل حضر باعتباره أحد الاحتمالات. في المقابل، يشكل انكشاف هذا التكتيك مصلحة هامة للمقاومة، بغض النظر عن الأسباب الحقيقية التي أدت الى هذه النتيجة.
أدى هذا الانكشاف الى توفير الأرضية لتوجيه الاتهام الى "اسرائيل"، في أي عملية لاحقة مفترضة، ويكون هذا الاتهام مبنيًا على سابقة تشكل قرينة على صحة تحميل "اسرائيل" المسؤولية مع ما سيترتب على ذلك من نتائج.
شكّل اعلان حزب الله عزمه الرد على الاعتداء حدثًا قائمًا بذاته، كونه جسَّد فشل رهانات العدو بأن تؤدي الظروف الاقليمية والداخلية اللبنانية اضافة الى سياسة التهويل الاسرائيلي الى ثني حزب الله عن قرار الرد. لكن النتيجة كانت على عكس رهانات العدو. ويمثل تنفيذ الوعد الذي اعلنه أمين عام حزب الله ترجمة لمصداقيته، وتكريسًا لها لدى العدو والصديق على حد سواء. وينبغي الاشارة الى أن التأكيد على هذه السمة ليس من باب المدح فقط، وانما تنبع أهمية ترسيخها مجددًا الى كونها سلاحًا، وعنصر قوة بالنسبة لحزب الله، له مفاعيله في وعي وحسابات قادة العدو. وأن ينفذ حزب الله وعده بالرد بالرغم من كل محاولات الضغط والظروف المحيطة، يعني ذلك الكثير بالنسبة لمؤسسة القرار في "تل ابيب"، وستحضر هذه الحقيقة كسابقة لها اثرها لدى دراسة أي خيارات لاحقة.
الانجاز الذي حققه حزب الله، تجسد أيضا في تظهير حالة الارتباك والانكفاء التي اضطر جيش العدو الى اظهارها عبر اخلائه مواقعه ونقاطه على الحدود التي يُفترض أنها سيادية. وهدف العدو من وراء ذلك، الى سلب حزب الله أية أهداف بشرية يعلمون جيدًا أن حزب الله سيصطادها. وهكذا اختار العدو التضحية بهيبته وصورته كجيش، تفاديًا لاستهداف جنوده وضباطه، والسبب أن ذلك كان (وفق حساباته قبل تنفيذ حزب الله الرد) سيحرجه انطلاقًا من أنه سيضعه أمام خيارين: إما الرد الذي سيستدرج ردًا اضافيًا من حزب الله، أو الامتناع عن الرد وهو ما سيمس بهيبته.. وهو ما تحقق لاحقاً..
كما هو معلوم واكب تنفيذ العملية الكثير من اللغط في صفوف العدو حول سقوط خسائر بشرية من عدمه. مع ذلك، من المهم التأكيد على أنه على فرض صحة ما روجه العدو - في أسوأ السيناريوهات - فإن ذلك لن يقدح بالنتائج الردعية والاستراتيجية والسياسية للعملية، خاصة وأن هذه النتائج مرتبطة بتفاعل متلقي الضربة - قيادة العدو - مع رسائل العملية. والمثال الأبرز على ذلك، عدم سقوط قتلى اسرائيليين في رد حزب الله في عملية شبعا عام 2014 ردًا على اعتداء جنتا، ومع ذلك، تلاها ارتداع اسرائيلي بقي مستمرًا حتى العام 2019، موعد اعتداء الضاحية.
لعل النتيجة الأهم في هذا السياق، هي أن حزب الله نفّذ رده في الأراضي المصنَّفة اراضي سيادية في المنظور الاسرائيلي وحتى الدولي. وهو ارتقاء لم يسبق أن تحقق في مراحل سابقة. وما يعزز هذا الارتقاء أنه تم ايضًا عبر صواريخ مضادة للدروع، وبدا فيه حزب الله متوثبًا وملاحقًا لجنود العدو الذين اختبأوا على مسافة عدة كيلومترات من الحدود.
كان لافتاً ايضا، أن العدو انكفأ خلال وبعد تنفيذ العملية الصاروخية التي استهدفت احدى الياته، عن الرد في العمق اللبناني، وفي القرى المتاخمة. بل امتنع العدو ايضا عن الرد الموضعي حتى على نقاط المقاومة في تلك المنطقة. وحتى لو افترضنا صحة الرواية الاسرائيلية بخصوص عدم سقوط قتلى، فإن دوافع العدو كانت مرتفعة جدًا لتنفيذ مثل هذا الرد، لأن حزب الله نفذ عملية صاروخية تمت داخل الاراضي "السيادية". وكان يُفترض بالعدو أن يعمل على التأسيس لمعادلة تكبح حزب الله عن تكرار مثل هذه الردود في أي مرحلة لاحقة. لكن الذي حصل أن ردود فعل جيش العدو الميدانية عززت الردع العملياتي لحزب الله، وأسست لمسار من الردود لم يكن متبلوراً حتى حينه، على الاقل على المستوى التنفيذي.
إقرأ المزيد في: معادلة الردع
03/09/2019