معادلة الردع
نتنياهو - كوخافي في مواجهة حزب الله: التقدير الخاطئ
جهاد حيدر
حسمت مواقف الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله الإجابة عن العديد من الأسئلة التي كان يمكن أن تراود المراقبين قبل وبعد الرد على الاعتداءين الاسرائيليين في الضاحية وفي عقربة في سوريا، حيث أدى الأخير الى سقوط شهيدين لحزب الله. وتقلصت في ضوء ذلك مساحة الاجتهاد حول قراءة حزب الله وخياراته وتقديراته. في المقابل، بعدما انكشف مدى ارتداع العدو من خلال ردة فعله على العملية الصاروخية، وبعدما بدت له صراحة المعادلة التي يهدف حزب الله الى تثبيتها، تقلصت أيضًا مساحة الاجتهاد في محاولة فهم قراءة العدو للمسارات التي تلي. في ضوء هاتين الحقيقتين انتقل تفكير الجهات المختصة الى مرحلة استشراف سيناريوهات استهداف الطائرات المسيرة. اضافة الى المرحلة التي تلي. وكما هي العادة في مثل هذه المحطات تطرح كافة الاحتمالات من أقصى اليمين الى أقصى اليسار. وفي كل الأحوال تبقى الكلمة النهائية لقيادة حزب الله ورجال الميدان.
رغم ذلك تبقى هناك خصوصية للسياقات التي اندرجت ضمنها الاعتداءات الاسرائيلية، وخصوصية أخرى تتصل بالتقديرات والرهانات التي انطلق منها العدو لتنفيذ خياره العدواني.
في الاطار العام، تندرج الاعتداءات الاسرائيلية المتجددة والجديدة في سياق مرحلة بدأ كيان العدو يتلمس معالمها، ويعبر عن مخاوفه من الأخطار الكامنة فيها عبر قنوات وأساليب متعددة. نقطة الانطلاق لهذه المرحلة تكمن في فشل الرهان على خيار ترامب في وضع ايران بين خيارين: إما خضوعها للشروط الأميركية أو تقويض نظامها من الداخل، عبر حملة الضغوط القصوى التي تتعرض لها. لكن بدا واضحًا حتى الآن أن ايران صمدت اقتصاديًا، رغم التداعيات القاسية جدًا التي تتعرض لها، وصمدت سياسيًا، وعززت قوة ردعها، واستمرت في دعم حلفائها في المنطقة، وهو ما يعني استمرار المسار التصاعدي لمحور المقاومة على كافة المستويات.
في هذه المحطات من المؤكد أن مؤسسة القرار السياسي والأمني في "تل ابيب"، درست خياراتها المضادة والبديلة. لأنها لا تستطيع البقاء مكتوفة الأيدي بانتظار تبلور النتائج النهائية لفشل الخيار الأميركي، إما بهدف التأثير في مساره و/ أو الاستعداد والتأسيس للخيارات البديلة والموازية.
في هذا السياق، ليس صدفة أن ترتقي الاعتداءات الاسرائيلية وتتسع جغرافيًا وتحاول "تل أبيب" التأسيس لارتقاء تصاعدي في مواجهة تعاظم محور المقاومة. مع ذلك، فإن هذا المستوى من القرارات عادة ما يتخذ في أعقاب تقدير يدرس - من ضمن مجموعة عناوين - المخاطر الكامنة في هذا المسار وتحديدًا ما يتعلق بردود الفعل.
من ضمن ما تميز به اعتداء العدو في الضاحية الجنوبية، سياقه وتوقيته وأسلوبه. وبعد المعطيات التي كشفها أمين عام حزب الله بات واضحًا أنه كان محاولة تنفيذ عملية تفجير دون ترك بصمات.
مع ذلك يبدو أن من العوامل التي شجعت العدو على المبادرة العملانية الى ما لم يفعله منذ حرب العام 2006، ومما استند اليه، تقديرات مفادها أنه ليس من مصلحة حزب الله ومحور المقاومة التسبب بحرب أو حتى مواجهة واسعة. وهو ما يشكل ضمانة ما أن التطورات لن تسلك المسار الذي يتخوفون منه في "تل ابيب".
في سياق متصل، ليس من مصلحة محور المقاومة والجمهورية الاسلامية في هذه المرحلة تحديدًا الدفع نحو حرب واسعة في المنطقة. خاصة وأن الطرف الأميركي يلتزم حتى الآن بالمعادلة التي فرضتها ايران بخصوص الاعتداءات العسكرية المباشرة، وفي عدم تجاوز خطوط محددة في أكثر من عنوان.
إن الوضع الاقتصادي الضاغط في لبنان سوف يحضر ويشكل عامل ضغط على حزب الله لردعه عن الرد الجدي وسيساهم بموازاة حملة داخلية في محاولة تقييد مؤسسة القرار في حزب الله لثنيه عن الرد.
بحسب ما كان مخططًا له، كان يفترض أن يؤدي تنفيذ عملية التفجير وفق تكتيك يسلب حزب الله مشروعية الرد، خاصة وأن مروحة التفسيرات والتحليلات ستحاول بالتأكيد ابعاد التهمة عن "اسرائيل" حصرًا في محاولة لتقييد حزب الله. ومع أن المحاولة انكشفت وأقر العدو بالاعتداء عمليًا على لسان نتنياهو، لم ييأس البعض من محاولة حرف الصورة. في نفس السياق، قد لا يكون صدفة اختيار العدو فجر يوم الأحد، وفي الوقت الذي كان فيه قسم كبير من السكان في قراهم، وبعد منتصف الليل لتنفيذ العملية. ويبدو أن العدو حاول اختيار التوقيت الذي يوفر له النجاح في التسلل وزرع العبوات والانسحاب. في كل الأحوال، تبين أن العدو لم يكن مسحه المعلوماتي وتقديره للمخاطر دقيقًا، وهو ما أدى في نهاية المطاف الى الفشل الذي شهدناه.
أتى رد حزب الله وأفشل معه الرهان على كافة المحاولات التهويلية والسياسية في ثني حزب الله عن خياره، واتضح معه خطأ تقديراته ورهاناته التي استند اليها. مشكلة "اسرائيل" أنها أخطأت التقدير في مسارين الأول ميداني - عملياتي، والثاني في مجال تقدير خيارات حزب الله في الرد.
أخطأت قيادة العدو، وتحديدًا الثنائي نتنياهو - كوخافي (رئيس اركان الجيش)، في فهم حزب الله وتقديراته. صحيح أن حزب الله ومحور المقاومة لا يريد ولم يرد الحرب ولا مواجهة واسعة، وفي هذه المرحلة تحديدًا، لكنه يدرك أيضًا، أن العدو ليس من مصلحته هذه الحرب،. وأنه سيبذل كل جهوده لتجنب هذه الحرب أو المواجهة الواسعة. وهو مفهوم أساسي سيكون حاضرًا أيضًا لدى دراسة خياراته المضادة.
في الاطار نفسه، لا يعني أن حزب الله وسائر أطراف محور المقاومة لا يريدون الحرب أو المواجهة العسكرية الواسعة، لكنهم لا يريدونها بأي ثمن. والسبب بكل بساطة: لنفرض أن العدو يدفع نحو مواجهة واسعة، فإن عدم الرد لن يحول دون هذه المواجهة، لأنه يعني أن العدو سيواصل اعتداءاته ويطورها. وبعبارة أخرى سيشن حربًا متقطعة علينا، في الوقت الذي يمتنع فيه حزب الله عن الرد تفاديًا لهذه الحرب. وسيؤدي ذلك الى مخاطر أشد بكثير من نتائج أي حرب. بل قد يتذرع بأي حجة لشن هجوم عسكري على لبنان.
فيما يتعلق بالوضع الاقتصادي والسياسي الداخلي، مشكلة القوى المعادية للمقاومة أنها تخلط أحيانًا بين توصيف الوقائع التي تكون فعلًا صعبة وقاسية، وبين مفاعيلها المفترضة على قرار قيادة المقاومة. وهو خطأ تكرر في الكثير من المحطات السابقة واللاحقة. ربما لم يخطئ الاميركي والاسرائيلي في توصيف الواقع، على الأقل في رسم بعض ملامحه، وانما كمن الخطأ في تقدير مفاعيله على قرار المقاومة وتداعياتها. كما أن الأخطاء الهامة جدًا التي كثيرًا ما تسببت بتقديرات مضللة لقادة العدو في "تل ابيب"، تكمن في تقدير مدى الاستعداد للتضحية لدى الطرف المقابل، في مواجهة التهديدات المحدقة.
فيما يتعلق بتكتيك العدو الذي كان يفترض أن تتم بموجبه عمليات التفجير (بدون بصمات) فقد فات العدو أن هذه الأساليب قد تؤثر على رؤية البعض ويستغلها البعض الآخر لتبرئة الاسرائيلي بهدف تطويق حزب الله. إلا أن مسارًا طويلًا من التجارب يؤكد أن حزب الله انتهج وحيدًا خيارات بدت في حينه مغامرة ومتهورة، ثم اتضحت صحتها وتلمس الجميع انجازاتها. أضف الى أن التجارب تؤكد أيضًا أن لدى حزب الله الكثير من الأساليب والأدوات التي يمكن من خلالها الرد من دون تحمل مسؤولية علنية عن ذلك.
ما جرى حتى الآن يؤكد أن الثنائي رئيس وزراء العدو بنيامين نتنياهو ورئيس أركان الجيش افيف كوخافي، أخطآ التقدير، والرهان في المغامرة التي بادرا اليها. وبالنتيجة من الواضح أن الكيان الاسرائيلي دفع وسيدفع الثمن الملائم. ومن أهم معالم وتداعيات الأخطاء التي ارتكبتها قيادة العدو أن ما جرى شكل بداية مرحلة جديدة على الحدود اللبنانية - الفلسطينية، كما أعلن الأمين العام لحزب الله، وهو ما لم تكن تلك القيادة تتوقعه أو حتى تتخيل حصوله في المدى المنظور.
إقرأ المزيد في: معادلة الردع
03/09/2019