عيد المقاومة والتحرير
التوأم في مسار تكامله: بانوراما وحدة الدم الفلسطيني - اللبناني
السيد عباس شابًّا وحلم التدرب للقتال داخل فلسطين
ليست الذاكرة الشفهية لبيئة المقاومة الإسلامية مترعة فقط بتوثيق كامل للعلاقة بينها وبين فلسطين وشعبها قبل الاحتلال وبعده. بل إن الباحث في خبايا الذاكرة العاملية واللبنانية لا يحتاج إلى البحث طويلًا بين بطون الكتب أو الصحف والمجلات حتّى يرى علاقة رواد المقاومة الإسلامية وبيئتها في لبنان وتعلقهم القلبي والروحي الشديد بفلسطين. ليس في الخيام أو بنت جبيل أو عيتا الشعب الجنوبيات الحدوديات فقط بل في أقصى شرق لبنان، في النبيّ شيث ومن خلفها كلّ قرى وبلدات البقاع الذي انطلقت منه المقاومة الإسلامية وحزب الله، من رحم أحداث الاجتياح الصهيوني صيف العام 1982. فسيّد شهداء المقاومة الإسلامية الشهيد السيد عباس الموسوي (رض) الذي أطلق عليه أبناء الضفّة الغربية المحتلة في شباط 1992 إبان شهادته لقب "شهيد فلسطين" وفتح له الفلسطينيون سرادقات العزاء من القدس وجنين وغزّة إلى كلّ فلسطين من البحر إلى النهر، كان بحق شهيدًا لفلسطين. ذاك الشاب الأسمر الذي صار أمينًا عامًا لحزب الله، كان سيصبح في مثل هذه الأيام من أيار/مايو عام 1968 قائدًا لإحدى المجموعات الخاصة في قوات "العاصفة" الذراع العسكري لحركة "فتح"، مهمته القيام بعمليات داخل فلسطين وتنفيذ دوريات استطلاع خلف خطوط العدوّ فيها، كعشرات من أقرانه اللبنانيين الذين انخرطوا في صفوف العمل المسلح ضدّ كيان العدوّ، ومنهم الشهيد البيروتي خليل عز الدين الجمل، أول شهيد لبناني في حركة المقاومة الفلسطينية في 10 نيسان/ابريل 1968.
كان السيد عباس منذ نعومة أظفاره وقبل أن يبلغ الحلم متعلّقًا بفلسطين، ومنذ انطلاق الرصاصات الأولى في عيليبون ليلة 31 - 12 - 1964 أصبح همه الرئيسي أن يصبح عنده بندقية ويتدرب عليها ويحملها إلى فلسطين المحتلة ليقتل فيها بها أعداء الأمة. وقد وثقت مجموعة من المؤلفات التي حكت روت مذكراته أنه كان ينام تحت قصاصات من أعداد نشرة "ثورتنا" ومجلة "فلسطيننا" التي أسسها القائد العسكري الفلسطيني الفذ خليل الوزير "ابو جهاد"، لتواكب بداية العمل المسلح عام 1965. وكان سماحة السيد عباس الحدث الذي قارب الثالثة عشرة من عمره الشريف يحرص أن تبقى تلك القصاصات التي تحتوي صور المقاومين الفلسطينيين الأوائل فوق رأسه في مكان نومه لتشهد على حلمه بأن يطأ أرض فلسطين يومًا في عملية عسكرية ضدّ جيش العدو.
منتصف ربيع العام 1968 وخلال 1968 وخلال عطلة مدرسية قصدت العائلة التي كانت تقطن منطقة الشياح إلى بلدة النبيّ شيث مسقط رأس السيد عباس الموسوي، وهناك نفّذ السيد الشهيد خطوته، حيث ترك الأهل والأقارب في النبيّ شيث، وذهب سيرًا على القدمين إلى منطقة النبيّ أسباط ليدخل منها إلى منطقة الزبداني في الأراضي السورية، ملتحقًا بمخيم الهامة التدريبي في قدسيا بريف دمشق، وهو من أوائل معسكرات التدريب التي أنشأتها حركة "فتح"، ووضع تحت إشراف مسؤول التنشئة والتجنيد والتعبئة في حركة "فتح" آنذاك الشهيد القائد أبو علي إياد، أحد مؤسسي العمل العسكري الفلسطيني.
من هناك، بدأت أولى خطوات السيد عباس الموسوي في رحلة الألف ميل من أجل فلسطين التي ختمها بالشهادة. وفي المعسكر التدريبي، كان لقاؤه الأول مع أبو علي إياد الذي أعجب ببراعة السيد عباس وتفوقه. وبعدما أتم الدورة الأولى التمهيدية بنجاح، رشحه أبو علي إياد لدورة أخرى في العمليات الخاصة كانت ستجري في عام 1969.
في الوقت المحدّد التحق السيد عباس (رض) بقاعدة تدريب القوات الخاصة في مخيم اليرموك بسورية. أتم السيد المجاهد الأسابيع التسعة الأولى من الدورة بتفوق ولم يتبق له إلى نهاية الدورة سوى 7 أسابيع، إلا أن الحكمة الإلهية قضت أن لا يُتِم السيد عباس ما تبقى من دورته الخاصة حيث أصيب في أحد التدريبات الخطرة بإصابة بالغة في قدمه عطّلته عن الاستمرار، وكان قد بلغ خلال الدورة عامه السابع عشر.
عاد السيد عباس إلى بيروت موطدًا عزمه على استكمال ما تبقى من دورة العمليات الخاصة في العام القادم. إلا أن مشروع تدريب من هم تحت الـ 18 عامًا توقف فجأة بعد انتقال أبو علي إياد إلى أحراج عجلون الأردنية في عز الخلاف بين النظام الأردني والمقاومة الفلسطينية الذي تطوّر إلى أحداث دموية في ايلول/سبتمبر العام 1970، بما بات يعرف لاحقًا بأحداث أيلول الأسود.
وقتها استخدم الملك الأردني الراحل الحسين بن طلال سلاح الجو والمدفعية الثقيلة والقوات الخاصة والدروع للقضاء على بنية المقاومة الفلسطينية القوية في شرق الأردن. وبعد أسابيع من القتال الضاري تدخلت الجامعة العربية ورتبت خروجًا آمنًا لفصائل المقاومة الفلسطينية إلى سورية فلبنان.
إلا أن القائد الفلسطيني أبو علي إياد صمم على مقارعة النظام الأردني وعدم الانسحاب من أحراج عجلون حتّى الشهادة، وأرسل في 27 - 7 - 1971 برقية إلى قيادة المقاومة الفلسطينية كانت آخر رسائله قال في نهايتها: "المعركة قاسية وعنيفة والقتال وجهًا لوجه ونقاط التعزيز قد قطعت وسنقاتل حتّى الشهادة". واستشهد أبو علي إياد وتوقف برنامجه التدريبي الذي كانت فلسفته هي إعداد شباب أحداث في السن فوق الـ 15 من عمرهم إعدادًا عسكريًا لمدة ثلاثة سنوات يتم صقلهم فيها حتّى يصبحوا كوادر ميدانيين يمكنهم نقل الخبرة والتجربة العسكرية إلى أقرانهم.
أثّرت تلك الأحداث بشكل كبير في الشهيد السيد عباس الموسوي (رض) لأسباب عديدة، أهمها تضييع قدرات وازنة كانت تمتلكها المقاومة الفلسطينية في الأردن مكنتها في العام 1968 من خوض معركة الكرامة المجيدة وصد لواء من جيش العدوّ وإلحاق خسائر كبيرة به. كما تأثر السيد بضياع فرصة ذهبية للالتحاق بالمجموعات العسكرية التي كانت تعمل في الداخل الفلسطيني إلا أن الحكمة الالهية قضت أن يلتحق بهذه الروحية الثورية في سلك العلم الديني ليتخرج منه قائدًا ثوريًا فذًا قاد المقاومة الإسلامية اللبنانية التي أذلت العدوّ ورسمت مع المقاومة الفلسطينية طريق زوال "إسرائيل" من الوجود.
وظيفة السيف والقلم
كان لحضور الإمام السيد موسى الصدر النشط والمؤثر على مستوى الساحة اللبنانية وما يتخطاها سياسيًا إلى الإقليم وارتباطه الشديد بالقضية الفلسطينية، بُعد حركي أخذ يترسخ في شخصية السيد عباس الموسوي، فاهتم السيد عباس بالسيد موسى واعتبره البديل الذي خلقته الحكمة الإلهية التي حرمت السيد عباس من استكمال مشروعه العسكري.
خلال فترة الانتظار التي فاقت السنتين، وبعد لقائه الإمام السيد موسى الصدر (اعاده الله ورفيقيه) الذي كان كثير التردّد إلى الشياح، وبطلب من السيد موسى الذي أوصاه أحد أقارب السيد عباس بقريبه خيرًا، وافق السيد عباس على الالتحاق بحوزة صور التي أسسها الامام السيد موسى الصدر، وكان ذلك يسمح له بالدراسة الشرعية والمشاركة في العمل المقاوم بعدما انتقلت كلّ فصائل المقاومة الفلسطينية إلى لبنان ليصبح المقر البديل لانطلاقة عملياتها إلى الداخل الفلسطيني.
إلا أن نبوغ السيد عباس السريع في حوزة صور ومهاراته الادارية وشخصيته القيادية وكاريزما السيد الخاصة ونفَسَه الثوري، لفتت أنظار أساتذته إليه وعلى رأسهم الإمام الصدر الذي أقنع السيد عباس مجددًا بالسفر إلى النجف للدراسة في حاضرة العلم. وفور موافقة السيد عباس حمّله الامام الصدر رسالة تزكية وتعريف كتبها الامام إلى صهره وابن عمه آية الله العظمى السيد محمد باقر الصدر (قدس) موصيًا إياه بالسيد عباس خيرًا. فهاجر السيد عباس إلى النجف وتتلمذ على يد السيد محمد باقر الصدر الذي اهتم به وبكل الطلاب اللبنانيين الذين استقطبهم السيد عباس وكان يناديهم بأبنائي، حتّى عودتهم القسرية من النجف في أواخر السبعينيات بعد أن عمد النظام البعثي في العراق إلى طرد العلماء طلاب الدين اللبنانيين. عاد السيد عباس إلى لبنان ليؤسس في 4 شباط/فبراير 1978 حوزة الإمام المنتظر(عج) التي انطلق منها حزب الله عام 1982 ووضعت فيها المداميك الأولية للمقاومة الإسلامية وشعارها "يا قدس حزب الله قادمون".
حزب الله بدايات على طريق القدس
بعد رحيل المقاومة الفلسطينية من لبنان في أيلول/سبتمبر 1982، بات حزب الله ملجأً لعدد مهم من كوادر حركة "فتح" اللبنانيين ضمن توليفة ضمّت مجموعات من مكتبة الشهيد مطهري واللجان الإسلامية ولجان المساجد التي كانت قد بدأت تتشكّل عام 1978، فضلًا عن استقطاب أفراد وكوادر أكاديميين وعسكريين لم يكونوا منتمين إلى أحزاب، جرى استقطابهم لمقاومة العدوّ، إلى جانب أعضاء سابقين من أحزاب وتنظيمات لبنانية كانت مرتبطة بالمقاومة الفلسطينية قامت بحلّ أجهزتها العسكرية بعد رحيل المقاومة الفلسطينية عن بيروت.
كانت وظيفة حزب الله منذ البداية وظيفة جهادية، تتمثل فقط بقتال العدوّ ضمن جهاز المقاومة الإسلامية، فضلًا عن استقطاب مجاهدين جدد وتأهيلهم وتدريبهم وإعدادهم لقتال العدوّ الصهيوني الذي كان يحتل 50% من مساحة لبنان. وتولى سماحة السيد الشهيد عباس الموسوي وتلامذته في حوزة الإمام المنتظر(عج) التبليغ وتعريف اللبنانيين بخطر الإحتلال وضرورة مقاومته بأساليب مبتكرة وواضحة وذكية. وكان لشخصية السيد عباس وشخصية تلامذته الكاريزمية دورًا أساسيًا في قبول الناس بالمفاهيم التي كان يلقيها السيد عباس وفريقه. ومن خلال دعم حرس الثورة الإسلامية والمثابرة على إيضاح حقيقة ومستوى الصراع مع العدوّ، بدأت تتشكّل بيئة حاضنة قوية وتمتلك الوعي الكامل بالواجب والتكليف، وأخذت تلك البيئة الحاضنة ترسل أبناءها إلى المقاومة في إشارة وتعبير واضح منها للاستعداد لقبول كلّ التضحيات في طريق القدس.
كانت المقاومة الإسلامية في بداياتها تعبّر عن ثلّة قليلة قرّرت خوض معركة التحرير بعقيدتها الراسخة بالشهادة وثقتها بالنصر، إن جاء على شكل انتصار أو شهادة. وخلال سنوات، تحوّل العشرات إلى مئات والمئات إلى آلاف، ثمّ أصبحت كلّ البيئة الحاضنة منخرطة في أعمال المقاومة بعناوينها المختلفة العسكرية والأمنية والاجتماعية والإعلامية.
وعلى الطريق، توطّدت علاقة المقاومة الإسلامية بالمقاومة الفلسطينية من خلال أدائها وعملياتها الأولى النوعية ضدّ العدوّ. وكان لشخصَي الشهيدين السعيدين السيد عباس الموسوي (رض) والحاج عماد مغنية (رض) دور حاسم في رفع هذه العلاقة إلى مستويَي التحالف والتعاون برز في عمليات الأسر التي كانت تنفذها المقاومتان الفلسطينية والإسلامية اللبنانية. حيث كان الفلسطيني يضع الأسرى اللبنانيين في قائمة لوائح مطالبهم بإطلاق الأسرى اللبنانيين والعرب خلال مفاوضات التبادل غير المباشرة عبر الصليب الأحمر الدولي أو عبر وسطاء أوروبيين، وكذلك فعلت المقاومة الإسلامية في لبنان.
في 23 تشرين ثاني/نوفمبر 1983 حصلت أولى عمليات التبادل بعد اجتياح العام 1982 بين حكومة العدوّ وحركة "فتح". وفي تلك العملية أطلقت "إسرائيل" سراح جميع أسرى معتقل أنصار في الجنوب اللبناني وعددهم 4700 أسير فلسطيني ولبناني، و65 أسيرًا من السجون الإسرائيلية مقابل إطلاق سراح ستة جنود إسرائيليين من قوات الـ"ناحال" الخاصة، أُسروا في منطقة بحمدون في لبنان من قبل منظمة التحرير الفلسطينية "حركة فتح" بتاريخ 4/9/1982 وهم (الياهو افوتفول - وداني جلبوع - ورافي حزان - وروبين كوهين - وابراهام مونتبليسكي - وآفي كورنفلد).
في 20 أيار/مايو 1985م أجرت "إسرائيل" عملية تبادل مع "الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة"، سمّيت بـ"عملية الجليل" أطلق العدوّ بموجبها سراح 1155 أسيرًا كانوا محتجزين في سجونه المختلفة، منهم 883 أسيرًا كانوا محتجزين في السجون الإسرائيلية، و118 أسيرًا كانوا قد خطفوا من معتقل أنصار في الجنوب اللبناني أثناء تبادل العام 1983 مع حركة "فتح"، و154 معتقلًا كانوا قد نقلوا من معتقل أنصار إلى معتقل عتليت أثناء الانسحاب الإسرائيلي من جنوب لبنان، مقابل ثلاثة جنود كانوا بقبضة "الجبهة الشعبية" وهم الرقيب أول حازي يشاي وهو يهودي من أصل عراقي، وقد أُسر خلال معركة السلطان يعقوب في 11 حزيران/يونيو1982 حينما كان يقود إحدى الدبابات ضمن رتل من الدبابات الإسرائيلية، فضلّت دبابته طريقها فأطلقت عليها مجموعة من "الجبهة الشعبية - القيادة العامة" قذائف "آر بي جي" مما أدى لإصابتها، وبعدها شاهدوا جنديًّا يفرّ من داخلها وتمكّنوا من أسره ونقله لمكان آخر. والجنديّان الآخران هما يوسف عزون ونسيم شاليم، أحدهما من أصل هنغاري والآخر يهودي من أصل مصري، أُسرا في بحمدون - لبنان بتاريخ 4 أيلول/سبتمبر 1982.
وتتالت عمليات التبادل التي كان يتبادل فيها الطرفان كلّ من اللبناني والفلسطيني أسماء معتقلي الطرف الآخر لدى العدوّ حتّى حصلت أكبر عمليات التبادل في نهاية كانون الثاني/يناير 2004، حيث لم يقتصر التبادل على أسرى من لبنان بل شمل جنسيات عربية متعددة. فقد شملت الصفقة 23 لبنانيًّا، و400 فلسطيني، وخمسة سوريين، وأسيرًا ليبيًّا، وثلاثة مغاربة، وثلاثة سودانيين، وأسيرًا ألمانيًّا مسلمًا، ورفات 59 مقاومًا لبنانيًّا. وتسلمت "إسرائيل" من حزب الله ضابط المخابرات الحنان تننباوم، وجثث ثلاثة جنود هم عدي أفيطان وعمر سواعد وبيني أفراهام، الذين كانوا قد قتلوا أثناء أسرهم عام 2000.
اللقاءات الأولى
بين عامي 1985 و1990 تولى السيد عباس الموسوي قيادة المقاومة الإسلامية في الجنوب. وخلال فترة قيادته اندلعت الانتفاضة الفلسطينية الأولى عام 1987 التي أخرجت من الظل إلى العلن حركتين مقاومتين فلسطينيتين جديدتين قدّر لهما أن تكتبا تاريخ المقاومة الفلسطينية القادم بعدما بدأت بعض فصائل المقاومة وعلى رأسها حركة "فتح" تناقش في العلن جدوى التمسك بالعمل المسلّح كخيار وحيد للتحرير، وبدأت تتّجه إلى اعتماد خيار المفاوضات مع العدو. وقدّر الله أن تظهر إلى العلن بمقابل الخيار غير المجدي الذي تبنّته حركة "فتح" وألزمت به منظمة التحرير الفلسطينية. وخيار الحركتين يشبه بسنخيّته كثيرًا خيار المقاومة الإسلامية في لبنان، فظهرت تباعًا حركة "الجهاد الإسلامي" في فلسطين ثمّ حركة المقاومة الإسلامية في فلسطين "حماس"، لتخوضا الانتفاضة إلى جنب مجاهدي "فتح الداخل" الذين لم يلتزموا حتّى العام 1994 بقرار قيادتهم اعتماد الخيار السلمي كأولوية للتعامل مع العدوّ وتحرير الأرض. فضلًا عن تيار "الأمن" في "فتح" والذي قاده الشهداء حمدي سلطان وابو حسن قاسم ومروان كيالي، الذين كانوا قد بلوروا بعد خروج "فتح" من لبنان مشروع مقاومة في لبنان وفلسطين وخارجهما، وفصائل أخرى وازنة كـ"الجبهة الشعبية - القيادة العامة" والـ"جبهة الشعبية لتحرير فلسطين" و"الجبهة الديموقراطية".
مثَّل إبعاد قيادات من الصف الأول من حركة "الجهاد الإسلامي" إلى لبنان وسورية أواخر العام 1988 بداية علاقة طويلة مع مع هذه الحركة الجهادية العزيزة، وسرعان ما وجدت قيادة حزب الله وعلى رأسها سماحة السيد الشهيد عباس الموسوي بالأمين العام لحركة "الجهاد" المفكر الشهيد فتحي الشقاقي توأمًا جهاديًا وفكريًا وثوريًا طال انتظاره، فغدا التوأمان السيد عباس والدكتور الشقاقي علمين من أعلام الجهاد، فتمازجت فيهما فلسطين بلبنان وبالعكس. وإثر هذه العلاقة التي وثقت عراها المقاومة من أجل التحرير، نشأت مجموعات مقاومة مشتركة نفذت عملياتها المعقّدة والقاسية جدًا على ضد كبار جنرالات العدوّ على ضفتي الحدود اللبنانية - الفلسطينية، وتولى إدارة هذا التشكيل الميدانية أمير الساحات الشهيد القائد الحاج خالد بزي "الحاج قاسم"، وكان من كبار شهدائها اللبنانيين الشهيد حسين منصور الذي تولى إدارة القاطع الأوسط من بليدا إلى أطراف كفركلا، فضلًا عن الاستشهادي صلاح غندور "ملاك" الذي تولى قاطعًا متداخلًا مع القاطع الأوسط يمتد من حولا إلى بنت جبيل.
كانت أولى تجلّيات هذا التعاون أو التماثل عملية السيد عبد الله عطوي "الحر العاملي" الاستشهادية في 19 - 10 - 1988 عندما فجر نفسه بـ 500 كيلوغرام من المتفجرات بقافلتين صهيونيتين في كفر كلا على بوابة فاطمة، المعبر إلى فلسطين المحتلة، وأهدى العملية إلى فلسطين وأبطال وأطفال الانتفاضة في وصيته المصورة قائلًا: "إني أهدي هذه العملية للانتفاضة الإسلامية في فلسطين وأحيي المجاهدين الأبطال الذين صنعوا العزّة والكرامـة للشعب المسلم في فلسطين ولكل المستضعفين في العـالم. يا فتية الانتفاضة الإسلامية إن الحجارة التي تقاتلون بها العدوّ الصهيوني هي أقوى من كلّ سلاح موجود على هذه الأرض، يجب أن لا ترهبكم أميركا و"إسرائيل" من الموت، أنتم عشّاق الشهادة".
واستمرّ هذا التنسيق والعمليات المشتركة حتّى ما بعد اغتيال السيد عباس الموسوي في 16 - 2 - 1992. وينبغي التنويه هنا إلى أن إحدى أقسى عمليات الثأر للسيد عباس (رض) في الشريط المحتل نفّذتها مجموعة من "سرايا القدس"، وهي عمليّة تمنى فيها الشهيد الشقاقي أن تكون مشتركة تحضيرًا وتخطيطًا، وغير لبنانيّة تنفيذًا، أي ينفذها مجاهدو حركة "الجهاد الإسلامي"، فتولى تنسيق ذلك كله "أمير الميادين" الحاج قاسم، والاستشهادي صلاح غندور واشترك فيها استشهاديان فلسطينيان من المقيمين في الشتات اللبناني، وهما عادل كامل ظاهر داوود، والأردني من أصل فلسطيني خالد محمد حسن، وأكمل سلسلة المجد تلك استشهادي عراقي من البصرة هو نزار محمود خصاف، ونفذت العملية في 6 نيسان/ أبريل 1992 ثأرًا للسيد عباس ضدّ موكب كبير ضم كلّ قيادة العدوّ وعملائه في لبنان وعلى رأسهم قائد المنطقة الشمالية إسحاق موردخاي.
مخيم المبعدين في مرج الزهور: كنز وبدايات
على نفس النسق، أجرت قيادة المقاومة الإسلامية في لبنان اتصالًا مع حركة "حماس" في العام التالي للإنتفاضة الأولى بواسطة قيادات لبنانية، بعضها من الجماعة الإسلامية وبعضها الآخر من هيئات علمائية مقربة من قيادة المقاومة، انتمى إليها قائد المقاومة في الجنوب السيد عباس الموسوي (رض) منذ بداية الثمانينات. إلا أن الاتّصال لم يكن يسمح بتنسيق كامل نتيجة لوجود معظم قيادة "حماس" في الداخل الفلسطيني تحت الحصار والمتابعة الصهيونية اللصيقة والتضييق الكبير عليهم فضلًا عن وجود عدد لا بأس به منهم كمطاردين.
في 17 - 12 - 1992 قام العدوّ بخطأ كبير وصفه بعض قياديي المقاومة الإسلامية في لبنان بخدمة العمر للعمل المقاوم في لبنان وفلسطين، حيث أبعد العدوّ 415 كادرًا كانوا يمثلون 95 % من قيادتي "حماس" و"الجهاد الإسلامي"، من الداخل الفلسطيني إلى منطقة مرج الزهور قرب حاجز زمريا في القطاع الشرقي لجنوب لبنان. كان ذلك العمل الصهيوني الأحمق هدية العمر للمقاومة الإسلامية؛ فخلال سنة كاملة تقريبًا هي أيام إبعاد القادة الفلسطينيين جرى التواصل مباشرة من دون وسيط ومن دون عقبة الجغرافيا، وبحضور قادة كالشهيدين عبد العزيز الرنتيسي ومحمود أبو هنود "صقر الكتائب" وإسماعيل هنية ومحمود الزهار وعشرات من المفاصل الأساسية للعمل المقاوم داخل فلسطين.
صيغ داخل خيام البرد القارس في مرج الزهور، المدماك الأول للذراع القوية اللبنانية الفلسطينية التي ستضفي بحرارتها عناصر جديدة في الجهد المقاوم في لبنان وفلسطين.
كل ذلك كان بحضور شبه يومي للشهيد القائد الحاج عماد مغنية وإخوانه من قياديي المقاومة الإسلامية الذين تبادلوا مع الكادر والخبراء الفلسطينيين المبعدين في مرج الزهور كلّ شيء تقريبًا (التجربة – الخبرة – أساليب التخطيط – نمط العمليات وعشرات النقاط والبرامج الأخرى). وإذا ما جاز لنا وصف الأيام الـ 365 تلك، لجاز لنا وصفها بأيام الإعداد للتسونامي المقاوم الجارف الذي تلا تلك الأيام في لبنان وفلسطين.
كانت أولى إرهاصات هذا التفاعل في الشهر الثاني لإنشاء مخيم مرج الزهور، حيث أرسلت إشارة إلى الجناح العسكري لـ"حماس" (لم تكن كتائب القسام قد أعلنت بعد) بالتركيز على الضفّة الغربية المحتلة لأنها الأكثر إيلامًا للعدو. وانتقل القائد محمد الضيف وبعض من الكوادر العسكريين الكبار إلى القدس وإلى إحدى مدن الضفّة. وبمشاركة من مجموعة ضمّت العبقري الفذ الشهيد يحيى عياش، تحولت الضفّة الغربية والقدس و"تل أبيب" والداخل الفلسطيني المحتل عام 1948 إلى جهنم للعدو، إذ نفذت عمليات خطف لجنود وضباط صهاينة لمبادلتهم بأسرى فلسطينيين ولبنانيين وعرب، وارتفعت عمليات الاستهداف المسلح لدوريات وتجمعات وثكنات العدوّ في الضفّة والقدس إلى 9 اضعاف أضعاف، كما بدأت مرحلة العمليات الاستشهادية في نفس شهر الإبعاد حيث نفّذ أحد سكان مخيم جباليا الإستشهادي أنور عزيز من مجاهدي الجناح العسكري لحركة "الجهاد الإسلامي"، التي كانت تعرف بذلك في ذلك الوقت باسم "قسم"، أول عملية استشهادية منذ السبعينيات، حيث قاد سيّارة مفخّخة إلى حاجز "ناحل عوز"، وفجّرها في وسط من الجنود الصهاينة والجيبات العسكرية.
تلتها عملية مفرق "ميهولا" الاستشهادية في 16 - 04 - 1993، وهو أول هجوم بسيارة مفخخة توقّعه كتائب "القسام" الجناح العسكري لحركة "حماس" فلسطين، وأول هجوم استشهادي يخطط له المهندس الشهيد يحيى عياش قائد كتائب "القسام" في الضفّة الغربية، ونفذه الإستشهادي ساهر التمام من نابلس. استهدف التفجير مفترق "ميهولا" شمال شرق الضفّة الغربية قرب قرية بردلة الفلسطينية، حيث تم تفجير باص مفخخ من نوع "فولكس فاغن بيتل" في المفترق مما أدى إلى مقتل إسرائيليَّين وجرح 9 آخرين. وبين العام 1993 والعام 1999 نفذت كتائب "القسام" و"قسم"، الجناح العسكري لـ"الجهاد الإسلامي" 21 عملية استشهادية في معظم أنحاء فلسطين، وكان التركيز الأعلى فيها على "تل أبيب" والقدس الغربية، وكان أشدها عملية شارع "دزينجورف" الاستشهادية في 19 - 10 - 1994 والتي أدت إلى مقتل 22 صهيونيًا. وعملية "بيت ليد" يوم الأحد 22 - 1 - 1995 والتي أدت إلى مقتل 21 جنديًّا وضابطًا صهيونيًا على دفعتين يفصل بينهما 3 دقائق.
في هذه المرحلة تراجع العمل الانتفاضي الشعبي لمصلحة العمل الانتفاضي المسلّح، وصار خيار العمل المسلّح أولوية، متفوقًا على العمل الاحتجاجي السلمي ويتقدّمه بأشواط.
"حزب الله يا عيوني دمر "كريات شمونة""
في آذار 1996 وقبيل شهر من عدوان نيسان/ابريل على لبنان والذي استمر 16 يومًا، خرج إلى العلن في نابلس وجنين شعار لا زال يتردّد حتّى اليوم: "حزب الله يا عيوني – دمر "كريات شمونة"". وتفاعلت جماهير الضفّة الغربية المحتلة مع هذا النداء وأصبحت تطلقه خلال حرب نيسان 1996 والتي أسماها العدوّ عملية "عناقيد الغضب".
في العام 1997 أثمر التعاون الاستخباري بين المقاومة اللبنانية والفلسطينية صياغة لقطعة قتالية رائعة تمثلت بتنفيذ المقاومة الإسلامية لعملية أنصارية.
في الفترة بين 19 - 5 - 2000 و24 - 5 - 2000 (تاريخ اندحار آخر جنديّ صهيوني عن الشريط الحدودي المحتل) شاهد العالم بدهشة ما حققته المقاومة وبيئتها في لبنان بعدوّها بعد 18 عامًا من مقاومة الاحتلال. وإذا كان العالم يراقب ويشاهد تلك الخاتمة السعيدة بالعين الفيزيائية، فإن الشعب الفلسطيني العزيز بمدنييه وعسكرييه شاهد تلك الأيام بعين القلب وكيف أصبح يقينًا لحلم انتظره الفلسطينيون لـ 52 عامًا منذ العام 1948، أملًا أن يتحقق بالبندقية. لقد قدّمت المقاومة اللبنانية وبيئتها الحاضنة لأشد المتشائمين ولأكثر المتيقنين من أبناء الشعب الفلسطيني العزيز، الدليل على أن العدوّ الذي هو أوهن من بيت العنكبوت قابل للهزيمة، وإمكانات كسره في فلسطين ظروفها وفرصها أفضل بعشرات الأضعاف.
كل هذا كان يجري تحت أعين قائد الانتصارين الحاج عماد مغنية، الذي كان يتأمل دامع العين من مارون الراس فلسطين أمامه، منبسطة على مد النظر من الجليل إلى طبريا ومرج بني عامر وجنين والقدس والخليل وغزّة، وعلى حدود غزّة الجنوبية مع مصر تسمّر عقله وهو يطلّ من أعلى تلّة في الشريط الحدودي اللبناني المحرر على فلسطين، من البحر إلى النهر، وتتطاير أمامه أفكار وتكتيكات ومشاريع أخذ بعضها يتبلور في اليوم التالي.
كان اللقاء الأول بين توأم المقاومة في فلسطين ولبنان التي الذي تفرغ فرعه اللبناني للمعركة الكبرى "عتالًا وخادمًا وناقل تجربة" مشخصًا بهذه الوظائف الجديدة الثلاث تكليفه لما سيؤول إليه الوضع بعد 16 أسبوعًا بالتمام والكمال.
التكليف الأول كان إرسال الشهيد القائد فوزي أيوب فورًا إلى الضفّة الغربية ليتولى نقل التجربة والخبرة ميدانيًا إلى مجاهدي القدس وجنين ونابلس وبيت لحم وغيرها. وليبني قلاعًا للمقاومة الفلسطينية تترّس فيها الجيل الذي سيؤسس للمرحلة القادمة، ومن زرْع الشهيد القائد خرجت جنين ومخيمها بأبهى حللها عام 2002 مُظهِرَة للعدو ما سيكون في الزمن القريب.
التكليف الثاني كان تنظيم عملية نقل أسلحة كاسرة للعدو إلى فلسطين المحتلة. وفي هذا الواجب قام تشكيل معقّد من داخل وخارج فلسطين ببناء " نهر جوفي" لإمداد المقاومة بالسلاح من أربعة أنحاء الأرض. ولأنه لا يمكن الحديث عن تفاصيل هذا التشكيل نذكر فقط التشكيل الذي اكتشفته السلطات المصرية عام 2010 والذي يرتبط بقائده "عتال المقاومة الفلسطينية" المجاهد سامي شهاب.
التكليف الثالث كان بناء تشكيل مقاوم سرّي في القدس أداره الحاج عماد شخصيًا، مهمّته رفد كلّ فصائل المقاومة الفلسطينية بما تحتاجه خططها لتنفيذ عمليات متطورة وقادرة على إيقاع أشد الألم بالعدو.
التكليف الرابع كان تدريب كافة كوادر الإعلام المرتبط بالمقاومة الإسلامية على تكتيكات الخطاب مع الجمهور الفلسطيني وكيفية إعداد خطط الحرب النفسية بعناصر ومدخلات فلسطينية، وهذه المهمّة تولّاها الأمين العام لحركة "الجهاد الإسلامي" الراحل الشهيد الدكتور رمضان عبد الله شلح رحمه الله، وتمكّن بعقليّته الفذّة من أخذ جميع الكادر الإعلامي اللبناني بالفكرة والتأهيل والتوصيف الدقيق إلى تفاصيل الحياة داخل فلسطين. وما إن أنهى الدكتور شلح وتلامذته رحلتهم الافتراضية إلى مخيمات ومدن وبلدات وحامولات وعزب فلسطين حتّى أصبح إعلام المقاومة الإسلامية السلاح الأمضى بيد المقاومة الفلسطينية.
حركة التحرر الوطني الفلسطيني ـ فتح
إقرأ المزيد في: عيد المقاومة والتحرير
30/05/2024
25 أيار/ مايو.. لحظة التقدّم نحو الطوفان
27/05/2024