معركة أولي البأس

مقالات مختارة

الموقف سلاح
27/08/2024

الموقف سلاح

الشيخ ماهر حمود- صحيفة "الأخبار"

عند استقالته من حكومة أُطلق عليها «حكومة الإنماء والإعمار»، في 16 تموز 1979، أورد الراحل الكبير في بيانه عبارة «وظلّ سلاح الموقف في غمده». وقد شرح ذلك مراراً بالقول: «صحيح أن صلاحيات رئيس الحكومة قبل الطائف محدودة ومقيدة بصلاحيات رئيس الجمهورية الواسعة، وكان رئيس الحكومة - كما وصفه بدقة الرئيس سامي الصلح - باشكاتب عند الرئيس، إلا أن في إمكانه أن يقول لا، وأن يرفض التوقيع فيوقف أي مرسوم. لكن رؤساء الحكومات السابقين لم يستعملوا هذه الصلاحية إلا نادراً... أما هو فاستعملها بعدما بقي ستة أشهر، عقب اختياره رئيساً للحكومة، يوقّع من دون أيّ تحفّظ، لأنه توهّم بأنهم يسعون إلى الإنماء والإعمار... إلى أن اكتشف، والتعبير له، أن الطائفية في كل شيء في لبنان، فأصبح يمتنع عن التوقيع ليدرس الموضوع بكل أبعاده، «وظل سلاح الموقف في غمده» حفرت عميقاً في نفسي. عندما اعتقل الشيخ راغب حرب، شريكنا في «تجمع العلماء» (في 8 آذار 1983) بعد نحو أربع سنوات من ذلك البيان، فلم أجد تعبيراً أفضل من كلمة «الموقف سلاح» التي اقتبستها من تلك العبارة، ووضعتها تحت صورة الشيخ راغب، فإذا بهذه الكلمة تصبح شعاراً رئيسياً من شعارات المقاومة، نفخر بها، وترسم لنا آفاقاً واسعة للمستقبل.

هذا واحد من إنجازاته التي لا تحصى. فقد نزل من سيارته (على سبيل المثال) لمصافحتنا في شبعا يوم الأحد الذي تلا الخامس والعشرين من أيار 2000، يعلو وجهه البشر والسرور بالتحرير وبالمعاني العظيمة التي يحملها. ولعلّه رئيس الحكومة الوحيد الذي زار المناطق المحررة بعد عام 2000.

بغضّ النظر عمّن قال ولمن قيل: دخلت على تاريخنا ذات ليلة/ فرائحة التاريخ مسك وعنبر، إلا أن هذا البيت هو التعبير الأفضل عن دخوله في السياسة اللبنانية التي نشر عطراً في جنباتها، فجالت قوة خفية تحاول مكافحة الفساد المستشري. ولكن، أنّى له ذلك، وهو فرد في النهاية، رغم أن احترامه وحبّه ملآ القلوب، كما ملأ العقول بحكمته، ولم يكن له نظراء في السياسة يمكن الاعتماد عليهم ليشكلوا فريقاً سياسياً فاعلاً ورافعة سياسية.
لم يكن يتوقف عن العمل، ولم يكن جدول مواعيده يتغيّر كثيراً عندما يكون في الحكم أو خارجه، مكرّساً وقته للناس وللشأن العام. وكان ينتقل من قمة إلى قمة، وإحدى قممه علاقته المميزة مع الشهيد الشيخ حسن خالد، إذ رفعت صورهما في أنحاء بيروت مذيّلة بـ «الإطفائيان»، وأصاب من فعل ذلك.

الأهم من ذلك، صلاة عيد الفطر الجامعة في الملعب البلدي في 11 تموز 1983، والتي شارك فيها 50 ألف مصلٍّ، وكان أهم أهدافها إدانة الإجراءات الأمنية الظالمة ضد بيروت الغربية أوائل عهد أمين الجميل تحت شعار «بيروت الكبرى»، والتي هدف منها إلى إثبات أنه يحكم شيئاً من لبنان... في تلك الصلاة، رفع الشهيد الشيخ حسن خالد شعار: «لا نريد أن تكبر بيروت ليصغر لبنان»، وكان الجزء السياسي من الخطبة بالتشاور مع الرئيس الراحل الكبير، بل من كتابته. كذلك كانت علاقته مع سماحة الراحل الكبير السيّد محمد حسين فضل الله مميّزة، وقد حجّا معاً عام 1990 على الأرجح، وكانا يتشاوران في كل كبيرة وصغيرة.

لمن المؤلم، مثلاً، أن يقول عبد الحليم خدام عندما كان له باع رئيسي في تشكيل الحكومات: مثل هذا الرجل يناسب حكومة في السويد أو فنلندا... أما في لبنان، فنحتاج إلى نوعية أخرى. ففي ذلك إدانة للطبقة السياسية، واعتراف بأنه لا ينجح في السياسة في لبنان إلا من يعتمد الأساليب الملتوية، أما أهل الاستقامة فلا يستطيعون مواجهة هذا الكمّ من الانحراف والفساد.

وثمة صفة لطيفة أخرى لا يعلمها كثيرون عن امتلاك الراحل الكبير موهبة النكتة الهادفة، فكان قادراً على التعبير عن الموقف السياسي بكل تعقيداته بطُرَفٍ لطيفة دقيقة، تعبّر عن الموقف من دون الحاجة إلى إيراد تسميات تؤذي هذا أو ذاك. ومن نكاته المأثورة، بعد فشل تحويل مراكز الأحزاب إلى مراكز اجتماعية للحدّ من الاشتباكات بين الأحياء، واندلاع العنف مجدداً: «بدأ القصف الاجتماعي».

قلّ مثله، بل ندر أمثاله. لن يتكرر هذا الشخص المثالي الذي يطلق الشعار ويلتزم به، وأهم ما قال: لا يزال المسؤول قوياً حتى يطلب شيئاً لنفسه... وهو لم يطلب شيئاً لنفسه. ننعاه، بل ننعى السياسة في لبنان، هذه السياسة التي لم تستطع أن تخرّج إلى الحياة السياسية أمثاله، ولن نرى مثله قريباً للأسف.

سليم الحص

إقرأ المزيد في: مقالات مختارة

خبر عاجل