مقالات مختارة
خطاب اللامعنى: مسرحية الكونغرس (لا) تحسم مصير الحرب
يحيى دبوق- صحيفة "الأخبار"
إذا كان ثمّة مَن يسعى لأن يستشفّ من خطاب رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، أمام الكونغرس، إشارات إلى قرب عقد صفقة تنهي حرب غزة، أو بُعده، فسيصاب بخيبة. واقع الأمر، أن الرجل جاء إلى الكونغرس لأغراض مغايرة، ومتداخلة، يتّصل جزء منها بمصلحته الشخصية، والجزء الآخر بتزخيم حملة العلاقات العامة الهادفة إلى تحسين صورة إسرائيل ومكانتها، والحضّ على الوقوف إلى جانبها بلا أيّ تحفظات، سواء من جانب الإدارة الأميركية أو حتى الرأي العام الأميركي، وذلك بدعوى أن الحرب التي تخوضها هي بالوكالة عن الغرب ضدّ محور الشرّ في العالم، ما يحتّم على الولايات المتحدة مساندتها ودعْمها.في خطاب نتنياهو، ليست ثمة سياقات خاصة دفعت إسرائيل إلى شنّ حربها على قطاع غزة، كما ليست هناك عوامل وأسباب ترتبط بالاحتلال والظلم، ومَحو هوية الآخرين، وسحْق تطلعاتهم الوطنية والشخصية، بل ثمة فحسب حربٌ يقودها «إرهابيون» ضدّ الغرب، وتتصدّى لها إسرائيل بالوكالة عن هذا الأخير. فهل نجح «بيبي» في تحقيق أهداف زيارته؟ قد تكون الإجابة غير مهمة، لأن النتيجة محقّقة بالفعل أصلاً؛ فالدعم وصل إلى حدوده القصوى، وأكثر، قبل الحرب الإسرائيلية على غزة وخلالها وبعدها - إنْ كُتب لها أن تنتهي -، فيما لم تَظهر مؤشرات إلى تحوّلات في موقف صنّاع القرار في العواصم الغربية الوازنة، وبالأخصّ في واشنطن.
كذلك، لم تظهر من خلال الزيارة أو الخطاب، دلائل على قرب إنهاء الحرب أو وضع مسار لإنهائها، بل برز، في الظاهر، ما يشي بنية إدامتها. على أن خلوّ الخطاب من الحديث عن استمرارها، بالنحو الذي كان يرد في المواقف والتسريبات الصادرة عن نتنياهو خلال الأشهر الماضية، يشير في الوقت نفسه إلى إمكانية إيقافها. وكيفما اتّفق، لم يخصّص نتنياهو خطابه لتظهير موقفه بهذا الخصوص، بل أراد أن يبقيه ضبابياً ومشوّشاً، إذ إن ضرورات حملة العلاقات العامة لا يجب أن تطغى على الأهداف الموضوعة لمرحلة التفاوض على اتفاق، وعلى الاتفاق نفسه، وعلى الغايات النهائية المراد تحقيقها من خلال التفاوض.
غير أن نتنياهو خصّص جزءاً من خطابه للتنديد الضمني بمنع إمداد آلة القتل والتدمير الإسرائيلية، بأنواع معينة من الأسلحة والذخائر الأميركية، في ما قد يُعدّ إشارة إلى اتجاه لمواصلة الحرب، بل وأيضاً توسعتها، ربطاً بماهية الذخائر المطلوبة التي تعزّز نيّات مواجهة جبهات متعدّدة وبعيدة، وذات إمكانات مغايرة لتلك التي في حوزة الفلسطينيين. لكن في المقابل، قد يكون الهدف من طلب الحصول على هذه الذخائر، على الأقل في المرحلة الأولى، هو تظهير القوّة والاقتدار لردع الجبهات الأخرى غير الفلسطينية، وسط تقديرات منخفضة بإمكانية تفعيلها ميدانيّاً. وانطلاقاً من ذلك تحديداً، جاء نتنياهو إلى الكونغرس لممارسة الضغوط العلنية على الإدارة الأميركية، وعلى صناع القرارات فيها؛ فحيازة هكذا أسلحة وذخائر، وإنْ مع التزامات بأن لا يجري تفعيلها من دون قرار وإذن أميركيَّين، هي نوع من الاقتدار العسكري الذي يمنح تل أبيب هامش مناورة، ويعزّز مستوى ردعها أمام الآخرين.
لم يخصّص نتنياهو خطابه لتظهير موقفه من استمرار الحرب أو إنهائها، بل أراد أن يبقيه ضبابياً
أيضاً، لم يرد في الخطاب ما يشير إلى نيّة فعلية ومكشوفة بمواصلة الحرب من دون التطلّع إلى اتفاقات تؤدي إلى إيقافها، بل بدا حمّال أوجه في هذا الخصوص، كما أن نبرته الهادفة إلى تظهير القوّة لا تنفي ولا تحيّد المؤشرات الدالة على إمكانية التوصّل إلى اتفاق تهدئة، وهي كثيرة ومتعدّدة إلى الحدّ الذي لا يمكن معه تفسيرها بأنها مجرّد وسيلة لتسهيل الزيارة. وعلى أي حال، فإن نتنياهو أراد أن لا تؤثّر هذه الأخيرة على العملية التفاوضية، بما يُظهره مستعجلاً لإبرام اتفاق مع الجانب الفلسطيني، أو تبعث اعتقاداً لدى «حماس» بأنها قد تليّن موقفه التفاوضي. كذلك، لم يكن الرجل معنيّاً بأن يظهر للأميركيين أنه في عجلة من أمره لعقد صفقة؛ فتلك سلعة تستأهل تلقّي أثمان من واشنطن، وهو ما يفسر إصراره على أن لا تتزامن زيارة الوفد الإسرائيلي المفاوض، الذي يحمل في جعبته صلاحيات تفاوضية مغايرة عما كان عليه الحال سابقاً، إلى الدوحة مع أيّ استحقاق وازن في زيارته الأميركية. وهكذا، عندما تيقّن أن لقاءه الرئيس جو بايدن تأجّل يوماً واحداً، أجّل زيارة رئيس الموساد، ديفيد برنياع، يوماً واحداً، ومن ثم إلى بداية الأسبوع المقبل، لمنع أيّ تأثير مفاجئ في خلال الزيارة، على المسار التفاوضي.
وأياً يكن، فالواضح أن لدى نتنياهو نيّة لمواصلة الحرب بأدوات أخرى، قد تكون غير عسكرية، أو عسكرية بمستويات منخفضة، في حين لا يلغي ذلك إمكانية التوصّل إلى اتفاق تبادل أسرى مع الفلسطينيين، على الأقل في مرحلته الأولى، على أن يصار إلى تحديد ما سيلي لاحقاً. وفي هذا الإطار، تحدّث نتنياهو عن «تطلّعاته»: «في اليوم الذي يلي هزيمة حماس، ستظهر غزة جديدة، منزوعة السلاح وغير متطرّفة. ونحن بحاجة إلى ضمان حرية العمل العسكري لضمان عدم عودة غزة إلى كونها تهديداً لإسرائيل. لا بد من إنشاء سلطة مدنية لا تريد تدمير إسرائيل. ليس هناك الكثير لنطلبه، سيكون علينا أن نواصل السيطرة على غزة بشكل آمن حتى في اليوم الذي يلي».
ولربما تكون هذه الجملة أهمّ ما ورد في الخطاب، إذ تسلّط الضوء على المسار الذي يريد نتنياهو اتّباعه، ليس في ما يتعلّق بالمفاوضات فحسب، بل ربطاً بالترتيب الأمني والسياسي والسلطوي المنشود في غزة، إذ لا يظهر في ضوء إمكانات إسرائيل أنها ستكون قادرة على تنفيذ ما ورد في الخطاب بهذا الخصوص، ما يعني، بشكل أو بآخر، أن المواجهة ستستمرّ، مع صعود وانخفاض في وتيرتها تبعاً للمتغيرات السياسية والأمنية وتفسير التهديدات المتشكّلة، وكذلك التقلّبات المزاجية لصنّاع القرار في تل أبيب. على أن هكذا سيناريوات تحيّد تأثير وفاعلية جبهات المساندة الإقليمية، من لبنان إلى اليمن والعراق وغيرهما من جبهات المحور، وهو ما لا يُعد ممكناً، في ظل احتمالات مرتفعة لتصعيد أشمل، وتحديداً من لبنان، من شأن ذلك أن يُعمق مأزق إسرائيل. وعليه، فإن الأخيرة معنية بأن تأخذ هذه الجبهات في الاعتبار، في حال قرّرت المضيّ في حربها على غزة، وإنْ بمستويات وأساليب أخرى.