مقالات مختارة
الجنوب.. تُنسى، كأنّك لم تكن!
صادق النابلسي - الأخبار
زمنان بلا حارس. زمن ما بعد تأسيس دولة لبنان الكبير وزمن ما بعد الطائف. زمنان لم تبنِ السلطات المتعاقبة إلا سورًا من طين ووعودًا من قش. تركت الجنوبيين وحدهم. لم تطعمهم من جوع ولا آمنتهم من خوف. دموعهم كانت تسيل بعيدًا عن نظر سكّان القصور الرسمية. هِجْرتُهم بين المدن والشوارع والمهاجع البائسة منذ قيام الكيان الإسرائيلي لم تُثر غضب أصحاب الرتب العالية في السياسة والعسكر. (مرةً هدّد موسى الصدر باحتلال القصور وإعطائها للمهجّرين ردًّا على أولئك الذين يُجرون المراهنات ويتلقّون الرشاوى لرمي الجنوب والجنوبيين جثة في حفرة بلا مراسم وحتّى بلا صلاة). كان المطلوب أن يُنسى الجنوب وناسه. تُنسى - أيها الجنوب وبالإذن من محمود درويش - كأنّك لم تكن. تُنسى ككنيسة مهجورة. تُنسى كأنّك لم تكن... خبرًا، ولا أثرًا.الشبه بين الجنوب وفلسطين كبير. يجب أن يُنسى الجنوب بقمح حقوله وسنديان وديانه كما بمسك شهدائه وجباه مقاتليه. تمامًا كفلسطين التي أُريد لحاراتها وبيّاراتها وقراها ومدنها وزهر ليمونها ومناضليها وأسرار قداسة مساجدها وكنائسها أن تنسى إلى الأبد.
كل السلوك الماضي يُظهر إرادة متحالفين في الداخل والخارج لحرق الذاكرة لتسهُل عملية الهيمنة والسيطرة والنهب. ضباع بشرية عملت على حرق الأرض من أخضرها وتجفيفها من مائها وإيصاد كلّ الأبواب في وجه نمائها حتّى يفكر كلّ جنوبي بالرحيل إلى أبعد ما يستطيع من بلاد أخرى. ضباع بشرية، كانت تقسم الأدوار في ما بينها. شبيه ما يقوم به ثلاثة رجال ضدّ سجين في زنزانة. الأول ينقضّ، والثاني يكبّل اليدين، والثالث يعصّب العينين، لتتم بعدها عملية الاستيلاء على ما في الجيب إن كان هناك شيء فيها قبل تنفيذ أمر الإعدام.
العامليون الذين تنتهي سلالتهم عند أعتاب كربلاء، بدا وكأنهم نَفذوا من خرم إبرة التاريخ والتهجير والحرمان والتنكيل والقتل، وبعد أن كان يُفترض أن ينقرضوا عادوا أسياد الأرض بشعار لا ينقرض أبدًا، "هيهات منّا الذلة". هكذا أنقذت المقاومة التي عُجنت فيهم، التراب والبحر والكتب والشعر والفقه والأرواح من تلف أكيد.
لم تقوَ الاحتلالات على محو تفاصيل الحياة اليومية، ولا الحرمان الذي خُطّط له كي يكون ليلًا أبديًا منع نور السماء، ولا الأسوار الطائفية التي أرادت الجنوب جزءًا غريبًا مبتورًا استطاعت أن تكسر صورة كبريائه.
كل جنوبي نسج قصّة لصموده، يحمل مفتاح بيته المهدّم مفتوح العينين على فلسطين - فالأحرار من دم واحد - لا يخيفه أن يكون في هذا المكان الذي كلّ ما فيه اليوم نار. لا ينفلت من لحظة تجعله صانع أقدار وتاريخ. كلّ شيء فيه يقوده إلى اقتحام هذه الحيطان العالية ورؤية ما تشتهي العين رؤيته في بلاد الأنبياء.
حتّى لو لم يصحح الإعلام نطقه وروايته، حتّى لو كان العرب يسحبون بعض ناسهم إلى الترفيه والتفاهة خوفًا من تسرّب صوت الشرف الجنوبي إليهم، حتّى لو استمرت دول الاستكبار تفكر بالتخلص من الجنوبيين كما اليوم الغزاويين في حفرة جماعية، حتّى لو لم يذكر أحد أولئك الأبطال الذين يلفّون على أكتافهم كوفية المجد وهم يمضون بشوق إلى الله، حتّى لو ملأ الرماد عيون فئات من اللبنانيين لا ترى الصواب إلا الذي يأتي من رعاة البقر، وحتّى لو كان هذا البلد في أساس ثقافته لا يجود دائمًا بأبناء ينشغلون بما يحسّه الجنوبيون من ألم ونكران وتهميش وتشويه، وحتّى لو صعد من السياسيين من صعد على منابر التضليل يزيّف حقيقة الجنوب والجنوبيين وموقفهم تجاه بلدهم وحرف كلّ الجهد الذي يبذلونه في سبيل حماية لبنان وشعبه، لن يغيّر الجنوب ترابه وبحره وسماءه وقيمه وأصالته ولن يبدل الجنوبيون الرجال الذين "صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدّلوا تبديلًا"، من حبهم لأرضهم بالانشغال بالضغينة ضدّ المثبطين. في كلّ مرة تحضر المقاومة واجبًا لا فرضًا عليهم، كانوا يحاولون أن يوقظوا هذا القِسْمَ النائم من اللبنانيين والعرب بماء الكرامة البارد. يقولون لهم إنّ الخوف لا يمنع الموت ولكنه يمنع الحياة!
من يخاف يمنع عن نفسه وعن أهله الحياة الكريمة. أما الجنوبيون فما اعتادوا إلا تجسيد كلمة الإمام علي عليه السلام "الموت في حياتكم مقهورين والحياة في موتكم قاهرين"!
نُسي الجنوب أم لم يُنسَ. سيبقى الجنوبيون يردّدون تلك البداهات الأولى: "... والله لا نبالي أوقعنا على الموت أو وقع الموت علينا". علينا أن نقاوم ما أمكننا... أن لا نسقط فريسة التهويل، أن لا نيأس من المستقبل، أن نلبث واقفين، وأن نكون رجالًا لا خرقة، وأن تكون لنا عزيمة صلبة بأن لا نستسلم. عزيمة كعزيمة هذه العمامة السوداء التي أرادت للبنانيين أن يواصلوا العيش من دون أن ينحني لهم جبين!