مقالات مختارة
تحليل مفتوح المصدر لمحتوى الصحف الكبرى: الإعلام الأميركي «رهينة» السردية الصهيونية
نادين كنعان صحيفة الأخبار
جمع موقع «ذا إنترسبت» أكثر من 1000 مقال من «نيويورك تايمز» و«واشنطن بوست» و«لوس أنجليس تايمز» حول العدوان الإسرائيلي، وأحصى استخدامات بعض المصطلحات الرئيسية وسياقها. النتيجة تظهر بما لا يرقى إليه الشكّ، الانحياز الكامل إلى الاستعمار الصهيوني مقابل التعمية على الشهداء والضحايا الفلسطينيين. الأمر نفسه ينطبق على القنوات التلفزيونية. الخلاصة أنّه إذا كان هناك جمهور يتلقّى صورةً مشوّهة، فإنّه ذاك الذي يحصل على الخبر من وسائل الإعلام المهيمنة فيما الجمهور الشاب استقى معلوماته من تيك توك وأخواته
في الأسابيع الستة الأولى من العدوان الإسرائيلي على غزّة، ركّزت الصحف الأميركية الكبرى تغطيتها للحدث المستمرّ منذ أكثر من 100 يوم على السردية الصهيونية. هذا ما يبيّنه تحليل كمّي للمحتوى أجراه موقع «ذا إنترسبت» الأميركي، نُشرت نتائجه الأسبوع الماضي في تقرير وقّعه آدم جونسون وعثمان علي.
لقد أظهرت تغطية «نيويورك تايمز» و«واشنطن بوست» و«لوس أنجليس تايمز» لحرب الإبادة الإسرائيلية على غزة، انحيازاً ثابتاً ضدّ الفلسطينيين. إذ إنّ وسائل الإعلام المطبوعة التي تلعب دوراً مؤثراً في تشكيل وجهات النظر الأميركية حول العدوان الحالي والقضية الفلسطينية عموماً، لم تعر سوى القليل من الاهتمام للتأثير غير المسبوق للحصار والقصف الإسرائيلي على الأطفال والصحافيين في قطاع غزة. ركّزت المؤسّسات الثلاث بشكل غير متكافئ على الوفيات الإسرائيلية، مستخدمةً لغة عاطفية لوصف عمليات قتل الإسرائيليين، لكن ليس الفلسطينيين طبعاً. قدّمت هذه المؤسسات تغطية غير متوازنة لناحية التركيز على الأعمال «المعادية للسامية» في الولايات المتحدة، في حين تجاهلت إلى حد كبير العنصرية ضدّ المسلمين في أعقاب السابع من تشرين الأوّل (أكتوبر) 2023. في هذا السياق، اتهم الناشطون المؤيدون لفلسطين هذه الصحف بالتحيّز إلى إسرائيل، إذ شهدت «نيويورك تايمز» احتجاجات أمام مقرّها الرئيسي في مانهاتن بسبب تغطيتها لحرب الإبادة والتطهير العرقي والتهجير على غزة. علماً أنّ نتائج تحليل «ذا إنترسبت» مفتوح المصدر، تدعم هذا الاتهام.
يركّز التحليل على الأسابيع الستة الأولى من العدوان، بدءاً من عملية «طوفان الأقصى» التي نفّذتها المقاومة الفلسطينية حتى 24 تشرين الثاني (نوفمبر) حين بدأت «الهدنة الإنسانية» التي وافق عليها الطرفان لمدة أسبوع لتبادل الرهائن. في هذه الفترة، استُشهد 14800 فلسطيني، من بينهم أكثر من 6000 طفل، بسبب القصف الإسرائيلي على غزة.
جمع «ذا إنترسبت» أكثر من 1000 مقال من «نيويورك تايمز» و«واشنطن بوست» و«لوس أنجليس تايمز» حول العدوان الإسرائيلي، وأحصى استخدامات بعض المصطلحات الرئيسية والسياق الذي استُخدمت فيه، لتكشف الإحصاءات عن خلل كبير في طريقة تغطية الإسرائيليين والشخصيات المؤيدة لإسرائيل مقابل الأصوات الفلسطينية والمؤيدة للفلسطينيين، ضمن سياق لغوي وتحريري ينحاز إلى السردية الإسرائيلية على تلك الفلسطينية.
هذا التحيّز المناهض للفلسطينيين في وسائل الإعلام المطبوعة يُحاكي نتائج استطلاع مشابه لأخبار محطات الكابل الأميركية، أجراه آدم جونسون وعثمان علي الشهر الماضي لمصلحةThe Column ووجد تبايناً على نطاق أوسع.
هناك مخاطر كبيرة مترتبة على الاستخفاف الدائم والممنهج بحياة الفلسطينيين، في ظل تسجيل عدد هائل من الشهداء (فاق الـ 22 ألف شخص حتى إعداد التقرير)، وتسوية مدن بالأرض، وإزالة عائلات بأكملها من السجّلات، وخصوصاً أنّ لدى الحكومة الأميركية نفوذاً هائلاً باعتبارها الراعي ومورّد الأسلحة الأساسي لإسرائيل.
وفقاً للتحليل، ترسم تغطية الأسابيع الستة الأولى من العدوان صورة قاتمة للجانب الفلسطيني، تجعل إضفاء الطابع الإنساني على الفلسطينيين، وبالتالي إثارة التعاطف في الولايات المتحدة، أكثر صعوبة. للحصول على هذه البيانات، بحث آدم جونسون وعثمان علي عن جميع المقالات التي تحتوي على كلمات ذات صلة (مثل فلسطيني، وغزة، وإسرائيلي، إلخ) في المواقع الإخبارية الثلاثة، قبل تحليل كل جملة في كل مقال إلى جانب إحصاء عدد مصطلحات معينة. واستثنيت من التحليل جميع الافتتاحيات والرسائل الموجّهة إلى المحرّرين.
يمكن حصر النتائج النهائية لهذا المسح في أربعة عناوين رئيسية، هي: التغطية غير المتكافئة للوفيات، والأطفال والصحافيون، والعدوان الإسرائيلي على غزّة، وتغطية الكراهية في الولايات المتحدة.
في صحف «نيويورك تايمز» و«واشنطن بوست» و«لوس أنجليس تايمز»، تظهر كلمتا «إسرائيلي» أو «إسرائيل» أكثر من كلمة «فلسطيني» أو أشكال مختلفة منها. وعلى الرغم من أنّ الوفيات الفلسطينية فاقت العدد المسجّل على الجانب الصهيوني بكثير، غير أنّه مقابل كل شهيدين فلسطينيين، أشير إلى الفلسطينيين مرةً واحدةً. لكن مقابل كل وفاة إسرائيلية، يُذكر الإسرائيليون ثمان مرات.
وفي سياق متصل، انحصرت المصطلحات المحرّكة للمشاعر المرتبطة بمقتل المدنيين، مثل «مذبحة» و«مجزرة» و«مروّعة»، بالإسرائيليين. هكذا، استخدم مصطلح «مذبحة» من قبل المحررين والمراسلين لوصف مقتل الإسرائيليين مقابل الفلسطينيين بنسبة 60 إلى 1، فيما استُخدمت كلمة «مجزرة» لوصف مقتل الإسرائيليين مقابل الفلسطينيين بنسبة 125 إلى 2. كما استخدمت كلمة «مروعة» لوصف قتل الإسرائيليين مقابل الفلسطينيين بنسبة 36 إلى 4.
بالنسبة إلى الأطفال والصحافيين، هناك عنوانان فقط من أصل أكثر من 1100 مقال إخباري شملها البحث يذكران كلمة «أطفال» تتعلق بصغار غزة، على الرغم من أنّ العدوان الإسرائيلي على القطاع هو الأكثر دموية بالنسبة إلى الأطفال الفلسطينيين في التاريخ الحديث.
وفي حين أنّ العدوان على غزة هو إحدى أكثر الحروب دموية في التاريخ الحديث حتى بالنسبة إلى الصحافيين (118 شهيداً حتى كتابة هذه السطور)، لم تبرز كلمة «الصحافيين» وتكراراتها ومرادفاتها مثل «المراسلين» و«المصوّرين الصحافيين» سوى في تسعة عناوين رئيسة من أصل أكثر من 1100.
التغاضي المتعمّد عن القتل غير المسبوق للأطفال والصحافيين، وهم من الفئات التي تثير عادةً تعاطف وسائل الإعلام الغربية، أمر واضح. من باب المقارنة، استُشهد عدد أكبر من الأطفال الفلسطينيين في الأسبوع الأوّل من قصف غزة مقارنة بالعام الأوّل من الحرب الروسية ــ الأوكرانية. مع ذلك، نشرت «نيويورك تايمز» و«واشنطن بوست» و«لوس أنجليس تايمز» مقالات شخصية متعدّدة تسلّط الضوء على محنة الصغار في الأسابيع الستة الأولى من حرب أوكرانيا.
من الضروري الإشارة في هذا الإطار إلى أنّ عدم التكافؤ في كيفية تغطية الأطفال جاء نوعياً وكمياً. مثلاً، في 13 تشرين الأوّل الماضي، نشرت «لوس أنجليس تايمز» تقريراً لوكالة «أسوشيتد برس» جاء فيه: «قالت وزارة الصحة في غزة يوم الجمعة إنّ 1799 شخصاً قتلوا في القطاع، بما في ذلك أكثر من 580 تحت سن 18 عاماً و351 امرأة. وأدى هجوم «حماس» يوم السبت الماضي إلى مقتل أكثر من 1300 شخص في إسرائيل، بما في ذلك النساء والأطفال وروّاد المهرجانات الموسيقية الشباب». تبدو لافتة الإشارة إلى الشباب الإسرائيليين على أنّهم أطفال، بينما يُشار إلى الشباب الفلسطينيين على أنّهم أشخاص تقل أعمارهم عن 18 عاماً. هذا ما ظهر جلياً أكثر أثناء مفاوضات تبادل الأسرى، إذ أشارت «نيويورك تايمز» في إحدى الحالات إلى تبادل «النساء والأطفال الإسرائيليين» بـ «النساء والقاصرين الفلسطينيين».
وهناك تقرير لـ «واشنطن بوست» بتاريخ 21 تشرين الثاني حول التوصّل إلى اتفاق الهدنة، ورد فيه أنّ الرئيس الأميركي جو بايدن تحدّث في بيان عن «اتفاق إطلاق سراح 50 امرأة وطفلاً تحتجزهم «حماس» كرهائن في غزة، مقابل 150 سجيناً فلسطينياً محتجزاً من قبل إسرائيل»، من دون الإتيان على ذكر النساء والأطفال الفلسطينيين على الإطلاق.
بصورة مماثلة، عندما يتعلّق الأمر بكيفية ترجمة الصراع في غزة إلى خطاب وأفعال كراهية في الولايات المتحدة، أولت الصحف الكبرى اهتماماً أوسع للهجمات «المعادية للسامية» مقارنةً بتلك المنفّذة ضدّ مسلمين. عموماً، كان هناك تركيز غير متكافئ على العنصرية تجاه اليهود، مقابل العنصرية التي تستهدف المسلمين أو العرب أو أولئك الذين ينحون نحوهم. أثناء فترة دراسة «ذا إنترسبت»، ذكرت «نيويورك تايمز» و«واشنطن بوست» و«لوس أنجليس تايمز» عبارة «معاداة السامية» أكثر من «إسلاموفوبيا» (549 مقابل 79). وسبق ذلك الجدل الكبير حول «معاداة السامية في الحرم الجامعي» الذي ابتدعه الجمهوريون في الكونغرس مع بداية أسبوع 5 كانون الأول (ديسمبر) 2023.
وعلى الرغم من وجود العديد من الأمثلة البارزة على «معاداة السامية» والعنصرية المعادية للمسلمين في فترة الاستطلاع، فإنّ 87 في المئة من الإشارات إلى التمييز كانت حول «معاداة السامية»، مقابل 13 في المئة حول كراهية الإسلام، بما في ذلك المصطلحات ذات الصلة.
عموماً، لا تحظى عمليات القتل التي ترتكبها إسرائيل في غزة بتغطية متكافئة، سواءً من حيث النطاق أو الوزن العاطفي مثل مقتل إسرائيليين في السابع من تشرين الأوّل (أكتوبر) 2023. وهي غالباً ما تُقدّم كأرقام مجرّدة مرتفعة بشكل تعسّفي، من دون أن توصف باستخدام لغة عاطفية مثل «مذبحة» أو «مجزرة» أو «مروّعة». وتصوَّر عمليات قتل «حماس» للمدنيين الإسرائيليين كجزء من استراتيجية، في حين تُغطّى عمليات قتل المدنيين الفلسطينيين كما لو كانت سلسلة من الأخطاء المرتكبة لمرّة واحدة.
والنتيجة هي أنّ الصحف الثلاث الكبرى نادراً ما منحت الفلسطينيين تغطيةً إنسانية. غير أنّه على الرغم من هذا التباين، تظهر استطلاعات الرأي تحوّلاً في التعاطف بين الديموقراطيين تجاه الفلسطينيين، مع انقسامات هائلة بين الأجيال، مدفوعة جزئياً بالاختلاف الصارخ في مصادر الأخبار. كما بات معلوماً، يتلقى الشباب الأنباء المرتبطة بالعدوان من تيك توك ويوتيوب وإنستغرام وX، بينما يحصل الأميركيون الأكبر سناً على أخبارهم من وسائل الإعلام المطبوعة والفضائيات.
تؤثر التغطية المتحيّزة في الصحف الكبرى والمحطات التلفزيونية السائدة على التصوّرات العامة للحرب، وتوجّه المشاهدين نحو رؤية مشوّهة لما يجري على الأرض. وقد أدى ذلك بالشخصيات والسياسيين المؤيدين لإسرائيل إلى ربط وجهات النظر المؤيدة للفلسطينيين بـ «المعلومات المضللة» على مواقع التواصل الاجتماعي.
مع ذلك، فإنّ تحليل محتوى وسائل الإعلام المطبوعة والفضائيات، يظهر أنّه إذا كان هناك جمهور يتلقّى صورةً مشوهة، فإنّه ذاك الذي يحصل على الأخبار من وسائل الإعلام السائدة والمتجذّرة في الولايات المتحدة، فيما الجمهور الشاب استقى معلوماته من تيك توك ومنصات التواصل الاجتماعي.