مقالات مختارة
المقاومة لترميم "توازن الردع": الحرب المقبلة غير تقليدية
إبراهيم الأمين - صحيفة الأخبار
لم يكن السيد حسن نصر الله، أمس، كما كان عليه في خطابه الاول في الثالث من تشرين الثاني الماضي. خطاب أمس كان أكثر صرامة وحسمًا حيال الخيارات التي يمكن للمقاومة في لبنان ان تلجأ اليها في مواجهة الحرب المفتوحة التي تشنها الولايات المتحدة و"اسرائيل" ضد فلسطين ولبنان وسورية واليمن والعراق وصولا إلى إيران. ومن دون الدخول في شروحات حول ما اختلف من وقائع بين الخطابين، الا ان المشهد الاجمالي صار واضحًا بصورة كبيرة. ورغم ان قائد حزب الله ركز أمس على النتائج الايجابية لعملية «طوفان الأقصى» المجيدة التي نفذتها حركة حماس في 7 اكتوبر الماضي، إلا أنه لم يخف وجود احتمالات جدية لانزلاق الامور على الجبهة مع لبنان نحو حرب واسعة.لم يكن نصر الله مضطرًا إلى أن يكون صريحًا إلى هذا الحد عندما قال إن اندفاعة المقاومة إلى الدخول في الحرب في الثامن من تشرين الاول الماضي «كان قربة إلى الله تعالى وإسنادا لأهلنا المظلومين في غزّة وتخفيفًا عنهم». أي، بكلام آخر، كان يمكن لحزب الله ان لا ينخرط في الحرب بالشكل الذي انخرط فيه، على قاعدة ان متطلبات الدعم الذي تريده غزّة لم يكن يفترض حكمًا هذا الشكل من الاسناد العسكري. وهو كلام يختصر النقاشات التي جرت داخل قيادة حزب الله أولًا، كما يعكس نتيجة نقاش جرى بين السيد نصر الله والشهيد الشيخ صالح العاروري، في حضور الأمين العام للجهاد الإسلاميّ زياد نخالة.
كلنا يذكر طبيعة النقاش «الكيدي» الذي سبق خطاب نصر الله الاول ورافقه وتلاه. واذا وضعنا جانبًا أهالي قطاع غزّة الذين يحق لهم قول أي شيء، والمطالبة بكل شيء، فان كلّ «المزايدين» من خارج القطاع لم يقدموا للمقاومة في غزّة سوى الكلام، مقابل أكثر من 130 شهيدًا قدمهم حزب الله حتّى اليوم. ومع ذلك، فان البحث الذي لم يخرج إلى العلن من يومها، يتعلق بالواقع الذي فرضته عملية «طوفان الأقصى» على كلّ اللاعبين من دون استثناء. وهي عملية كسرت كلّ القوالب والقواعد. وكان متوقعًا ان يلجأ العدو، في ذروة استغلاله لما اعتبر «جنونًا» عند قيادته، إلى كسر كلّ القوالب والقواعد في المقابل. وبمجرد ان يرفع العدوّ شعار سحق المقاومة في غزّة، يكون قد فتح الباب امام وقائع مختلفة تتعلق بالصراع في المنطقة.
عمليًا، ما حصل هو ان العدوّ الذي حاول الاستفراد بغزّة، كان يعرف ان لها حلفاء في المنطقة والاقليم، سيعملون على نصرتها بكل الوسائل. وكان يعلم ان الاطراف الفاعلة في محور المقاومة ستبادر إلى اعادة تموضع جديدة، وصياغة سياسات جديدة، وهو ما اسس لحركة كلّ اطراف المحور لاحقًا، من فتح لبنان جبهته الجنوبية، إلى انخراط مجموعات عراقية وحتّى سورية في ضرب العدو، وصولا إلى ما قام به «أنصار الله» في اليمن. وكانت كلّ هذا الوقائع تشير إلى ان العدوّ في صدد «حصد ما أمكن من الأهداف» خلال هذه الحرب.
لكن ما الذي حصل؟
عمليًا، يمكن فهم طبيعة المساهمات من جانب المقاومة في لبنان والعراق وحتّى اليمن. وهي عمليات اديرت بطريقة تحدّ من قدرة العدوّ على توسيع الحرب بما يناسبه، ما استدعى تدخلا أميركيا فوريا وكبيرا في المنطقة، وفي إدارة الحرب نفسها. وأراد الأميركيون من خلال تغطية العدوّ سياسيا، ومدّه بكل ادوات القتل، وحضور اساطيله، توجيه رسالة «ردع» في سياق خطة «ترك غزّة وحدها»، وهو أمر لم يحصل، ما دفع بالعدو، عمليًا، إلى اتخاذ قرار غير عادي بكسر قواعد الاشتباك في ساحات عدة. لكن، سبقت هذه السياسة ورافقتها وتلتها مجموعة من الاحداث يجب النظر اليها بعناية. اذ استعاد تنظيم «داعش» حيويته فجأة، وتولى قيادة هجمات مباشرة ضد الجيش السوري وحلفائه في البادية السورية. كما برزت «الحمية» لدى مقاتلين من «جبهة النصرة»، بنسختها التركية في ادلب، لشن هجمات ضد الجيش السوري في الشمال السوري المحتل، مرورا بمحاولة تنشيط «مجموعات إرهابية» في العراق، واستفاقة النظام الاردني على عمليات «تهريب» على الحدود مع سورية توجب تدخل قواته مباشرة في العمل على الارض ضدها... وصولا إلى الجريمة البشعة التي ارتكبت امس في مسقط رأس الشهيد قاسم سليماني في إيران، والتي اتّهم رئيسها "إسرائيل" بالوقوف خلفها.
ما حصل عمليًا هو ان قواعد الاشتباك التي كان معمولًا بها قبل 7 تشرين الاول سقطت. ويحاول العدوّ تكريس قواعد جديدة، ويفعل ذلك بالميدان، لا بالسياسة، منطلقا من قراءة لديه، ويبدو انها موجودة ايضا لدى حلفائه الأميركيين والاوروبيين وحتّى بعض العرب واللبنانيين، تقوم على أن المقاومة مردوعة، والا لكانت دخلت الحرب من الباب الواسع، ومنذ اليوم الاول.
كل ما سبق تمهيد ضروري لشرح أبعاد مواقف حاسمة مررها السيد نصر الله في كلمته امس. وعندما هدّد العدو، بأنه في حال شن حربا على لبنان، فان المقاومة ستذهب إلى الحرب حتّى ابعد مدى، إنما كان يقول للعدو صراحة وبوضوح: ان المقاومة في لبنان لا تقبل بقواعد الاشتباك الجديدة، وان عملية اغتيال العاروري تستوجب ردا يعيد الاعتبار إلى الردع الذي كان قائماَ، وان المقاومة تتجه لتنفيذ هذا الرد عاجلا او آجلا، وفي حال عمد العدوّ إلى التصرف بحماقة كرد على رد المقاومة، يكون قد اقحم نفسه في دائرة الحرب الواسعة، وعندها، لن تكون هناك ضوابط ولا ما يحزنون، سواء كان العدوان على غزّة قد توقف، او في طريقه إلى التوقف، لان المقاومة في لبنان، ودورها المتصل بما يجري في ساحات سورية والعراق واليمن وصولا إلى إيران، لديها ما تقوله في نهاية النقاش،
أما العبارة الأهم في خطاب نصر الله فهي «الاستعداد لحرب من دون ضوابط ومن دون سقوف». وهذه إشارة إلى ان الدرس الأول المستفاد من حرب غزّة، هو أن على المقاومة الاستعداد لمواجهة من نوع مختلف للقوة النارية الهائلة للعدو. ما يعني، ان حرب غزّة، أخذت معها كلّ التصورات التي كانت موجودة سابقا. وان على العدوّ في حال «أخطأ التقدير» ان يستعد لطريقة مختلفة في استخدام حزب الله لقوته النارية تجاه عمق الكيان، والمعادلة عندها لن تكون على شكل مبنى مقابل مبنى بل ستكون عشرات الاف القتلى في كيان العدوّ مقابل آلاف القتلى في لبنان، حيث يتوجب على كلّ صاحب عقل، ان يفكر بأن أسلحة المقاومة في اي حرب مقبلة، لن تكون على الإطلاق، أسلحة تقليدية... وهو كلام لا يمكن ان يكون على ذوق الاحتلال... فوجب التحذير!