مقالات مختارة
صالح العاروري... "يا مرحبًا بالشهادة"
صحيفة الأخبار
كان مفهوماً منذ لمع نجمه في عام 2014، أنه ينتظرُ مصيراً واحداً لا ثانيَ له، توقّعه بنفسه قبل شهورٍ قليلة، في لقاء مع «قناة الأقصى»، حيث قال: «إحنا في حركة حماس، كلّنا مشاريع شهادة، من الشيخ أحمد ياسين وإنزل... وأنا حاسس حالي عايش عمر زيادة، وتجاوزت العمر الافتراضي، فيا مرحباً بالشهادة». بعد 88 يوماً على بدء معركة «طوفان الأقصى»، اغتيل الشيخ صالح العاروري (أبو محمد)، إثر استهدافه مع مجموعة من «كتائب القسام»، بصواريخ أُطلقت من طائرة مستهدفة مكتباً تابعاً لحركة «حماس» في منطقة المشرّفية في ضاحية بيروت الجنوبية.رحل مساء أمس، ابن بلدة عارورة - قضاء رام الله، عن عمر 58 عاماً، قضى منها 38 في العمل المقاوم. لمعت الشخصية القيادية لدى صالح، الشيخ الشاب، مبكّراً جداً، منذ درس «الشريعة الإسلامية» في جامعة الخليل. آنذاك، التحق بجماعة «الإخوان المسلمين»، وقاد العمل الطالبي في الجامعة طوال سنوات طويلة. وعندما تأسّست «حركة المقاومة الإسلامية - حماس»، في عام 1987، كان من أوائل الملتحقين بها. ومنذ تلك الفترة، شكّل الرجل حالة وطنية امتدّ أثرها إلى مختلف مناطق الضفة الغربية، ما عرّفه طريق السجن الإسرائيلي مبكّراً أيضاً، حيث تكرّر اعتقاله بين عامَي 1990و1992 إدارياً لفترات محدودة بتهمة التحريض وتأسيس الخلايا العسكرية الأولى لـ«كتائب الشهيد عز الدين القسام»، الذراع العسكرية لحركة «حماس».
في أوساط حركة «حماس»، يدور حديث لا نهاية له، عن دور الشيخ صالح في تسليح «القسام»، قبل فترة اعتقاله الأولى، حيث تمكّن حينها القائد «القسّامي» الشهيد عماد عقل من الوصول من غزّة إلى الضفة، ولم يكن في حوزته سوى قطعة سلاح قديمة من طراز «كارلو». وبعد شهور من السعي والبحث، تمكّن العاروري من جمع المال، وتأمين قطعة سلاح من نوع «إم 16»، وعدّة قنابل يدوية. وكانت تلكَ بداية الزخم الفعلي لعمليات «القسّام» في فترة التسعينيات في الضفة. تعتبره إسرائيل أحد أهمّ مؤسّسي «كتائب القسّام» في الضفة؛ إذ قام في البدء بتأسيس وتشكيل جهاز عسكري للحركة عامَي 1991و1992، ما أسهم في الانطلاقة الفعلية للكتائب عام 1992. كما اتّهمته أجهزة العدو الأمنية بالوقوف خلف عملية خطف المستوطنين الثلاثة في الخليل عام 2014، وعمدت على خلفية ذلك إلى هدم منزله.
غير أن هذا الدور الفاعل، عاد به مجدّداً إلى السجون، إذ اعتُقل مجدّداً في نهاية عام 1992، وحُكم عليه بالسجن الفعلي لـ 15 عاماً. وداخل السجن، عمل الرجل بجدّ على ترتيب أوضاع أسرى «حماس»، واستطاع تحقيق مستوى مرتفع من التنظيم، حيث تحوّلت السجون إلى بيئة تعبئة إيمانية ووطنية، يخرج منها الأسرى إلى ميدان العمل المقاوم على نحوٍ أكثر اندفاعاً وفعالية. في عام 2007، خرج العاروري إلى الشمس مجدداً، لكنّ حرّيته لم تدم سوى ثلاثة أشهر، إذ أعيد اعتقاله لثلاث سنوات أخرى، خرج منها في عام 2010، وأُبعد إلى خارج فلسطين، ليرحل إلى سوريا التي أقام فيها ثلاث سنوات، ثم إلى لبنان، فتركيا، فماليزيا وعدة دول أخرى، قبل أن يعود أخيراً للاستقرار في لبنان.
عقب إبعاده، انتُخب العاروري عضواً في المكتب السياسي لحركة «حماس» عن ساحة الضفة، وقد تولّى شخصياً هندسة قوائم الأسرى الذين أُفرج عنهم بموجب صفقة تبادل «وفاء الأحرار» (صفقة شاليط) في عام 2011. وفي التاسع من أكتوبر/ تشرين الأول عام 2017، انتُخب العاروري نائباً لرئيس المكتب السياسي لحركة «حماس»، إلى جانب رئاسته المكتب السياسي للحركة في الضفة الغربية. وقد ساهم الرجل - إلى جانب قائد حركة «حماس» في غزة يحيى السنوار - في تكريس الحركة كحركة «تحرّر وطني»، وليست حكومة تسعى إلى مكتسبات سياسية، مشدداً على أن كلّ تحرّك وتموضع سياسي، لا بدّ من أن ينطلق من الهدف الأسمى: تحرير فلسطين التاريخية. وهكذا، بمنتهى البساطة والوضوح، عاد الرجلان بـ«حماس»، إلى أكثر المراحل تعقيداً وتكلفة، إذ تطلّب تطبيق تلك الرؤى التي لم تجد من يستطيع الاعتراض عليها، إعادة بناء جسور الثقة مع «محور المقاومة»، وإعادة تفعيل خلايا الضفة.
كما كانت للرجل صولات وجولات بين بيروت ودمشق وطهران، وأخيراً بغداد، في سياق توطيد العلاقات مع «محور المقاومة» وقواه المختلفة
ولما كان «أبو محمّد» مسؤولاً عن ساحة الضفة، تولّى هو التنسيق مع فصائل المقاومة المختلفة هناك، مثل «الجهاد الإسلامي» و«كتائب شهداء الأقصى»، وغيرهما. وعُرف عن الرجل نفسه الفلسطيني «الوحدوي»، وكذلك الإسلامي. وهو من بين قادة حركة «حماس» الذين قادوا سفينة الحركة في السنوات الأخيرة، في اتجاه «إصلاح» وترميم العلاقات مع قوى «محور المقاومة»، بعد سنوات الحرب السورية وما نتج منها. كما كانت للرجل صولات وجولات بين بيروت ودمشق وطهران، وأخيراً بغداد، في سياق توطيد العلاقات مع «محور المقاومة» وقواه المختلفة.
في «حماس» أيضاً، يتحدّثون عن شخصية القائد الشيخ، البسيط جداً، الذي يُفحم محاوره بموروثات وما رُوي عن الصحابة والصالحين، وهو يبسّط كل تهديد، ويسخّف كل هَوْل: «يريدون قتلنا فليفعلوا ... لقد استشهد أبو عمّار وأحمد ياسين وفتحي الشقاقي وأبو علي مصطفى، فهل توقّفت المعركة؟». ينظر العاروري إلى حياته كلها، على أنها مشروع فلسطين الكبير. لذا، فإن الثمن المدفوع على حجمه الباهظ، مُستَحَقٌّ على طريق تحريرها وعاصمتها القدس.
في الضاحية الجنوبية لبيروت، عاش الشيخ آخر سنوات عمره. كان معروفاً ومتميّزاً بقربه من قادة المقاومة الإسلامية في لبنان، وهو كان على مواعيد مع لقاءات دورية بالأمين العام لـ«حزب الله»، السيد حسن نصرالله، وخصوصاً خلال الفترة الأخيرة، مع اندلاع الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة. قبل ذلك، خلال العامين الأخيرين، تواترت الاتهامات الإسرائيلية للعاروري بالمسؤولية عن بناء ورعاية الجسم العسكري لـ«حماس» في لبنان. وهو المسؤول عن إطلاق صواريخ مرات عديدة تجاه مستوطنات العدو الإسرائيلي الشمالية، انطلاقاً من الأراضي اللبنانية. كما أن الرجل تلقّى مرات عديدة تهديدات بالاغتيال، حتى قبل اندلاع الحرب الحالية، بسبب ما تعتبره إسرائيل مسؤوليته عن قيادة المقاومة في الضفة الغربية، وتسليحها وتدريبها والتخطيط لعملياتها.
رحل العاروري، الرجل الذي أثار جدلاً وصدمة في كل تصريح ومقابلة تقريباً، فيما اليوم، وقد تمزّقت وتناثرت أشلاؤه في الضاحية الجنوبية، وقد صدّقت دماؤه وأفعاله سلفاً فعله، أدركت فلسطين كلّها، كيف تكون الدماء مِصداق القول.