مقالات مختارة
أيّ حلّ سياسي يوقف العدوان؟
ابراهيم الأمين- صحيفة الأخبار
الصحافيون في كيان العدو ليسوا في حالة جيدة. ليست هذه المرة الأولى التي يضطرّون فيها الى التغطية على جرائم حكوماتهم، لكنها قد تكون المرة الأولى التي يتحوّلون فيها جميعاً، طوعاً أو عنوة، إلى مجموعة من «الفنّاصين» الذين يتصرّفون ككثيرين من الحمقى عندنا. أولئك الذين يعتقدون أنهم يخدمون المقاومة ببهلوانيات لا تتوقف. والفارق يبقى فارقاً، كون صحافة العدو تميّزت طوال الوقت، بالقدرة على احترام القالب المهني الى حدود كبيرة. غير أن ما قامت به لا يكشف فقط عن حجم الرقابة المفروضة، بل عن انحياز أعمى يأخذ شكل تجنيد هؤلاء في صفوف الجيش. والضرر الأول أصاب علاقة وسائل الإعلام مع الجمهور الإسرائيلي الذي لجأ الى وسائل التواصل الاجتماعي للاطّلاع على التفاصيل من جهات أخرى، معادية أو حليفة.من خارج الكيان، بات من الصعب الركون الى ما ينشر أو يذاع أو يبثّ، واعتباره عاكساً للصورة الحقيقية، إذ لم يحصل أيّ نقاش جدي حول قدرة جيش الاحتلال على سحق المقاومة في غزة، أو حتى ردع حزب الله عن المشاركة في إسناد جبهة غزة، ولا حتى في إثارة الذعر في جبهات أخرى مثل العراق وسوريا واليمن. وصار بالإمكان تجاوز الكثير ممّا ينشر في وسائل الإعلام التقليدية، والعثور على عناصر مهمة على مواقع التواصل الاجتماعي، إضافة الى وسائل معرفية أخرى.
عملياً، صورة الموقف في إسرائيل لا يعكسها الإعلام هناك. وكلّ من له صلة بالاتصالات الخارجية الخاصة بالصراع، يصف العدو بالمتوتر والمجنون، وهو أمر بات يتجاوز حالة «الغضب» التي سادت إثر عملية طوفان الأقصى. وحتى حافزية الجيش العالية لشن عمليات إبادة، بقصد استعادة صورة الردع لدى جمهوره وأمام الأعداء، لا تستند الى عقل يعرف الى أين يريد الوصول.
عملياً، حققت الهدنة «تنفيسة» لجانب من الاحتقان الناجم عن الحرب. صحيح أن العنوان متصل بجوانب إنسانية، لكن لا أحد يمكنه الاقتناع بأنّ هدنة تستهدف تحرير أسرى ومعتقلين وإدخال مساعدات تتطلّب هذا القدر من الاتصالات. وكان واضحاً أن إطالة أمر المفاوضات هدف من جانب أميركا إلى منح العدو فرصة تحقيق إنجازات تفيد في تعديل الصفقة لمصلحته. ولما تبيّن أن الضغط الميداني لم ينجح، تمّ القبول بما عرضته المقاومة منذ بداية العملية البرية ضد القطاع.
عندما يجري الحديث الآن عن تمديد للهدنة، فإن من يقف خلف الفكرة ليس لديه عنوان للتمديد سوى إطلاق مزيد من الأسرى والمعتقلين وإدخال مزيد من المساعدات. وهي عملية تتطلّب أيضاً تنازل العدوّ والقبول بدفع أثمان أكبر ممّا يدفع في هذا الجزء من الصفقة. ورغم غياب المؤشرات العملانية على بحث سياسي قائم حول ما يمكن أن يقود الى وقف الحرب، فإن الغرق في تفاصيل الهدنة يعني البحث في الخيارات المطروحة أمام الجانبين:
من جهة المقاومة، فهي مستعدة جدّياً، وليس إعلامياً، لتنفيذ صفقة شاملة، تقود الى مبادلة كل ما هو موجود عندها، من أحياء أو أموات، مقابل إطلاق سراح جميع المعتقلين في سجون العدو، وتسليم جثث عشرات المقاومين الى ذويهم. لكن المقاومة لا تفكر في إنجاز خطوة بهذا الحجم، قبل وقف العدوان. ليس فقط لأن عملية كبيرة بهذا الحجم تحتاج الى وقت طويل وإلى موارد كبيرة، بل لأن ورقة الأسرى أساسية في يد المقاومة وستبقى كذلك الى حين توقف الحرب.
لم يعد إعلام العدوّ مصدراً جاذباً لأهل الكيان كما لخارجه... ومسلسل الهُدن رهن «عقلنة» العدوّ
من جانب العدو، فهو يسعى إلى استعادة أسراه. وهو صار يتحدث عن الأمر كهدف مركزي يتقدّم على هدف سحق المقاومة. لكنه يعرف أنه سيواجه مشكلة كبرى إن رضخ لمطالب المقاومة. فهو ليس في وضع يتحمّل فيه إعلان هزيمته الكاملة أمام المقاومة في فلسطين. ولذلك، سيرفض طلبات المقاومة، وسيدخل في مساومات لطالما قام بها منذ قيام الكيان، وسيسعى إلى وضع سقف متدنٍّ للمقابل الذي يريد دفعه مقابل أسراه. لكنّ العدو يعرف أن المقاومة لن تقبل بهذا الأمر. وهو لمس في مفاوضات الهدنة، وخلال تنفيذها، أن المقاومة التي تريد وقفاً لإطلاق النار ومساعدة أبناء غزة ليست على استعداد للخضوع لشروطه، بل أظهرت له قبل يومين أنها مستعدة لوقف العملية برمّتها ما لم يلتزم ببنود الصفقة كافةً.
وعليه، فإن لعبة الشروط والسقوف ستدفع العدوّ، أقلّه، الى استئناف عدوانه على القطاع، سواء للضغط لإجبار المقاومة على التنازل في ملف الأسرى، أو لتحقيق مكاسب أكثر استراتيجية له. وفي هذه الحالة، سنعود الى المربع الأول عند بدء تنفيذ الهدنة، حيث لا قدرة لدى العدو على الحسم مسبقاً بقدرته على تحقيق إنجازات ضخمة في مواجهة المقاومة، وسيكون أمام تحدّيات من نوع جديد، وسيعود الى ارتكاب الفظائع، ما يفرض عليه أسئلة من جانب الرأي العام العالمي، وليس صحيحاً أنه يمكن تجاهل مثل هذا الأمر.
يبقى أن يكون لدى العدوّ خيار من نوع آخر، مثل القبول باستعادة بعض الأحياء من أسراه، وفق معادلة جديدة، تفرض عليه دفع أثمان مختلفة، لأن من يفترض أنهم لا يزالون في يد المقاومة، ذكوراً وإناثاً، ليسوا سوى عسكريين، بعضهم كان في الخدمة الفعلية وبعضهم الآخر من جنود الاحتياط. وهنا، بإمكان العدوّ العودة الى صيغة سبق له أن طرحها في بداية المفاوضات حول الهدنة، وقال فيها إنه يريد إطلاق من لم يكن في الخدمة وقت اعتقاله، وهي عملية يمكن الحصول على نتائج لها. لكنّ ثمنها كبير أيضاً.
أما الخيار الثالث، فهو المتعلق بالقتلى من أسرى العدو، ومثل هذه العملية تتطلب وقتاً طويلاً من وقف العمليات العسكرية، لأن المقاومة سبق أن أعلنت أن هناك أسرى قتلوا بسبب غارات العدو، وبالتالي المطلوب عملية طويلة ومعقّدة، فيها رفع للأنقاض وفحص للجثث التي ربما تحلّلت خلال الفترة الماضية.
على أن الهدنة، أو الهُدَن، ليست في حقيقة الأمر سوى مساحة زمنية لإخراج البحث الجدي الى العلن، وهو البحث الجاري للإجابة عن سؤال مركزي: أيّ حلّ سياسي يمكن التوصل إليه لوقف العدوان على القطاع؟
هذا الخيار قد يكون السلّم المناسب لإنزال الجميع عن الشجرة، لكن صناعة السلم لا يمكن أن تكون أميركية فقط، كما لا يمكن توقّعها كاملة من المقاومة، إنما هي عملية مشتركة، أساسها اقتناع الولايات المتحدة بأن أيام النار قد حان وقت وقفها، وفتح الباب أمام تسوية لن تعيش من دون ضمان مصالح المقاومة والشعب الفلسطيني.