معركة أولي البأس

مقالات مختارة

إعلام المجهود الحربي الإسرائيلي - الأميركي 
04/11/2023

إعلام المجهود الحربي الإسرائيلي - الأميركي 

أسعد أبو خليل - صحيفة "الأخبار"

مَزِّقوا مناهج كليّات الإعلام، وأعيدوا النظر بالكتب المقرّرة. لقد عانيتُ مع غيري طويلاً في إقناعكم بأن الإعلام الغربي هو غير ما يُصوَّر في الصحافة العربيّة. كنّا نأخذ هذا الإعلام على محمل الجدّ، وكنّا نكتب عن أقطابهم باحترام وتقدير كبيرَين. قبل أن آتي إلى أميركا، سمعتُ كثيراً عن الصحافيّة بربارة والترز، وكيف أنها ساهمت في الترويج لأنور السادات، وكان السادات يتحدّث عنها على أنها من كبار أعلام الصحافة الغربيّة. لم يكن هناك عولمة للشبكات الأميركيّة كما اليوم، حيث تمكن المشاهدة من أيّ مكان في العالم. احتجتُ أن أعيش في أميركا كي أكتشف ليس فقط أن بربارة والترز متطفّلة على الصحافة، بل إنها مشهورة بالصحافة الفنيّة لا السياسيّة. هي التي مرّة سألت نجمة سينمائيّة: أيّ شجرة تحبّين أن تكوني. وهي صهيونيّة عنصريّة صفيقة، مع أنها كانت قريبة من أثرياء العرب. وكنا نسمع عن شبكات الإعلام الأميركيّة، وكيف أنها تمثّل نخبة الإعلام.

في سنوات دراستي في جورجتاون، كان موضوع الرهائن الأميركيّة هو الشغل اليومي لكل وسائل الإعلام هنا. وكان هناك طلب على شخص أكاديمي لبناني شيعي كي يشرح لبنان للجمهور المُتعطّش لفهم لبنان وتشعّباته. وكان حضور فؤاد عجمي طاغياً، ولم يكن بعد قد جاهر بالصهيونيّة كما فعل في أواخر الثمانينيّات. استعانت بي شبكة «إن. بي. سي.» وكنت أقضي وقتاً مع رئيس الشبكة ونائب الرئيس ومحرّر الشؤون الدولية، بالإضافة إلى بعض المذيعين والمنتجين. أي أنني عرفتُ الشبكة من الداخل وعلى مستوى المسؤولين. وكنتُ أتناول وجبات الطعام في غرفة الطعام الخاصّة بالمسؤولين عن الشبكة. أدركتُ مدى عنصريّتهم وجهلهم سريعاً. لم أكن أرتدي ربطة عنق، وكانوا يسألونني بانتباه شديد: هل إن نفورك من ربطة العنق يعود لسبب ديني في الإسلام؟ وأقول لهم: لم تكن ربطات العنق سائدة في زمن الرسول كي يصدر تحريم أو تحبيذ بشأنها. ومرّة فضّلت الدجاج على لحم البقر فسألوني: هل إن نفورك من لحم البقر يعود لسبب ديني؟ وكنتُ أردّ: أنتم تخلطون بين الهندوس والمسلمين. كميّة هائلة من الجهل. وكنتُ أقول: إذا كان الجهل سائداً على مستوى النخبة، فما بالك بالعامّة؟ ومرّة استدعوني إلى نيويورك وقالوا لي: نريد أن ندشّن برنامجاً سياسيّاً أسبوعيّاً جديداً، وقد اخترنا لموضوع الحلقة الأولى، محمد حسين فضل الله (وكنت قد قابلتُه من قبل، وكانت الشبكة مهتمّة بآرائه لأنه كان بالنسبة إليهم المسؤول الأول عن ضرب مقر المارينز وعن خطف الرهائن). وقال لي محرّر الشؤون الدوليّة: ماذا لو أرسلنا فريقاً إلى بيروت كي نعلن له اختياره كالإرهابي الأوّل في العالم، ونسجّل معه مقابلة للحلقة الأولى. لم أصدّق ما سمعته، وأخبرتهم عن سعة نفوذه وعن احترامه من قبل فريق كبير من الشيعة ومن غير الشيعة.

اختبرتُ الإعلام من الداخل، كمستشار وكضيف في معظم البرامج الإخباريّة هنا. كنتُ أظنّ أن هذا واجبي لإبراز وجهة النظر العربيّة، وبعد ١١ أيلول شجّعني إدوار سعيد على الظهور في زمن كان فيه الخوف منتشراً هنا. لكن في مقابلة في ٢٠٠٥ مع أندرسون كوبر مع الـ«سي إن إن» قررتُ في منتصف المقابلة، بعدما سألني سؤالاً غبياً عن حزب الله، أنني سأكتفي وأكفّ عن الظهور في الإعلام المتنفّذ. وهكذا كان. هجرتُ الإعلام الإخباري التلفزيوني، كضيف وكمُشاهد، وهذا أرحم على أعصابي الرقيقة.

الإعلام لم يعد مستقلاً في الغرب، وكانت الاستقلاليّة ماليّة عائليّة، وهذا يعكس انحيازاً طبقيّاً. كان هناك عائلات تملك بالوراثة صحفاً ومحطات إذاعة وتلفزيون. لكن كلفة التشغيل زادت وتناقص عدد الأيدي التي تملك الإعلام. كما درس بن بغديكيان في كتابه المرجع «احتكار الإعلام»، فإن عدد الشركات التي تملك وسائل الإعلام تتناقص باستمرار إلى نحو عشرٍ فقط أو أقلّ. ويمكن للمنظمات الصهيونية أن تتوصّل إلى تفاهمات مع أصحاب هذه الشركات. وتفعل حكومة إسرائيل الشيء نفسه في ما يتعلّق بشركات التواصل العملاقة، وهناك العديد من الأدلّة عن إصرار شركة «ميتا» على إسكات أصواتٍ مناصرة لفلسطين. وتعرّض إيلون مسك (الذي اعترفَ بأنه لن يمنح الإنترنت لغزة عبر خدمة القمر الصناعي الذي يملكه من دون إذن الحكومتين الأميركيّة والإسرائيليّة) لضغوط من الاتحاد الأوروبي كي يقمع أصواتاً مناصرةً لفلسطين.

لم يعد هناك فروقات في الإعلام. ليس من مروحة، أو أن المروحة تضيق. الصحافة اليسارية والوسطية واليمينية تغطّي العالم بدرجات الانحياز نفسها وبأجندة «الناتو» نفسها. التغطية في سوريا كانت المفصل: إن الإعلام بات إعلاماً حربيّاً لحلف شمال الأطلسي. وجنّدت «الناتو» لهذه الغاية وسائل إعلام جديدة افتتحتها في كل العالم العربي (وهذه الوسائل تندرج من ضمن الإعلام الغربي، لأنها إعلام غربي في التمويل والأجندة واقتفاء الأثر وإن كانت اللغة محليّة). تستطيع أن تتبيّن الأجندة من وسائل «رصيف» (التي نالت منحة من وزارة الخارجيّة على خدماتها الإعلاميّة) و«درج» و«ميغافون». الأخيرة كانت تنشر خمسين بوستاً عن إيران مقابل واحد عن فلسطين قبل حرب غزة. هذه النسبة كافية لمعرفة سبب تمويل هذه المواقع. هناك جهد لتغيير الوعي العربي. وعندما بدأت المجازر، وقع الارتباك في هذه المواقع، وكان هناك محاولة للتجاهل. لكن المجازر زادت ولم يعد التجاهل ممكناً. هنا، بدأت التغطية مثل نشرات الأخبار. لا تنديد ولا سخرية ولا تقريع، كعادة هذه المواقع في تغطية إيران وكل أعداء إسرائيل، وخصوصاً حزب الله. كل خطاب لنصر الله كان يتعرّض لهجاء وسخرية وتشويه. أمّا تصريحات قادة العدوّ وخطبهم، فإنها تُنقل بأمانة وتهذيب وحرص ومن دون سخرية. هذه تكفي لمعرفة غرض المواقع تلك. وهذه المواقع حذرة في المصطلحات، وخصوصاً أن طلب التمويل دوري وهو يخضع لمراجعة (لهذا تقوم المواقع بنشر المضمون بالإنكليزية لتسهيل المراجعة). وألكسندر سوروس، الوريث الشرعي والوحيد لوالده، جاهر بموقفه من فلسطين: يقع بين توماس فريدمان و«هآرتس» وهو رفض وصف «الإبادة الجماعيّة» للمجازر في غزة. وسوروس أشار إلى مقالة لامت الشعب الفلسطيني على الحرق الذي تعرّض له في جباليا وفي كل غزة.

الإعلام في الغرب كان يعظنا في الماضي بأننا عاطفيّون في تغطيتنا للقضيّة الفلسطينيّة، وأننا منحازون وأنهم يستطيعون التغطية من دون انحياز. المشكلة في تغطية الشرق الأوسط من قبلهم أنه يفتقرون إلى خبراء. كان هناك إعلاميّون خبراء في الماضي. الظاهرة اندثرت. معظم المراسلين الغربيّين في بلادنا غير متخصّصين وهم يأتون من خلفيّة تغطية مدن أميركيّة. قلّة منهم تعرف العربيّة. في الماضي، كان الخبراء من المراسلين الغربيّين يؤثّرون على التغطية بسبب كمّ المعرفة المتولّدة لديهم. الآن، هناك فيفيان لي (مراسلة «نيويورك تايمز» في الشرق الأوسط وهي لم تدرس الشرق الأوسط ولا تعرف أيّاً من لغاته، وكانت قبل أن تصل إلى بيروت، ثم القاهرة، تغطّي الجريمة في مدينة نيويورك. قد تكون الجريمة تأهيلاً لتغطية الشرق الأوسط عند الذين يحملون كمّاً من العنصريّة الاستشراقيّة) وهناك فكتوريا كيم التي غطّت لسنوات الكوريّتَين. نحن أحقر من أن نستحق التخصّص في تغطيتنا، بالنسبة إليهم.

الحرب السوريّة كشفت الإعلام. هي التي جعلت «الجزيرة» عندنا تصبح بوقاً مؤجّجاً وهي التي دفعت الإعلام الغربي كي يقوم بمهام «الناتو» الإعلاميّة. وحدث توافق وانسجام بين إعلام الخليج والغرب في الترويج للثورة السوريّة. طغت فكرة الانحياز الشامل وطمس أي وجهة نظر أخرى. لكن النقلة الكبرى حدثت في تغطية أوكرانيا، حيث الوطنية الغربيّة أصرّت على تخوين أيّ وجهة نظر أخرى. في أميركا، نحن الذين نعارض الدور الغربي في الحرب ضد روسيا نُتهم بالانحياز إلى روسيا (مع أن روسيا لا تزال تغطّي العدوان الإسرائيلي على سوريا). في أوكرانيا: تم اعتماد أسلوب جديد: ١) المخابرات الغربية هي المُرشد في التغطية. ٢) الأخبار غير المؤكدة يُسمح بنشرها فقط إذا كانت تخدم أجندة المجهود الحربي الأوكراني. ٣) تخوين وجهات النظر الأخرى والتشكيك بسرديات مختلفة. ٤) ضخ العداء العنصري ضد العدو الروسي. ٥) تجاهل خرق حقوق الإنسان والتضييق على الحريات ومظاهر النازيّة واحتقار العنصر والثقافة الروسيّة عند الحليف الأوكراني. ٦) استخدام الصحافة لتعبئة الرأي العام الغربي للتضحية بقوته لمدّ أوكرانيا بالمزيد من السلاح والمال.

الإعلام الغربي هو إعلام حربي. دخل الغرب ككتلة متراصّة في حرب لن يسهل الفكاك منها بسهولة أو بسرعة. والحزب الديموقراطي برئاسة بايدن أعاد صيغة الحرب الباردة ضد ثلاثة أعداء: الصين وروسيا والشعب الفلسطيني، والحرب ضدّهم ستُخاض بلا هوادة أو رأفة. ميزانيّات الحرب الحاليّة ليس لها مثيل من قبل. أوكرانيا ستتلقّى في غضون سنتين ما يقارب مجمل ما تلقّته إسرائيل (بمقياس عدد المليارات) في كل السنوات. الغرب لا يمزح في شأن هذه الحروب. واستعمال القنبلة النووية بات مطروحاً حتى على الشعب الفلسطيني. نتنياهو ذكّر بهيروشيما، وأميركا لم تعترض. على العكس، الإعلام يلطّف من كلامه ويجعله مجرّد مقارنات تاريخيّة.

نحن نعرف الإعلام الغربي أكثر، ونعرف أن عولمة الإعلام أنتجت إعلاماً محليّاً يعيد إنتاج الإعلام الغربي، الذي يتلاقح مع الإعلام الخليجي. من النادر أن تجد رأياً لعربي في الصحف الغربيّة إلّا ويكون صاحبه أو صاحبته من الموالين لأنظمة الخليج. والحرب السورية ولّدت هذا الانسجام في التغطية. غالباً، يعتمد المراسلون الغربيون على إعلام سعودي بالإنكليزية وعلى إعلام إيراني (مُعارِض) مموّل من السعودية (مثل «إيران إنترناشيونال»، التي ثبت علاقتها بالحكومة الأميركية وفق تحقيق استقصائي أخير). ويعتمد الإعلام الغربي على محلّيّين لأن المراسلين والمراسلات لا يعرفون التحرّك بسهولة في مدننا وأحيائنا (ليسوا من طينة باتريك سيل أو كيم فيلبي أو جون كولي). هؤلاء يعتمدون على متعاقدين محليّين يتقنون تقليد أجندة الرجل الأبيض. كيم غطّاس (التي تكتب هذه الأيام في مجلة «أتلانتيك» التي يحرّرها جندي سابق في جيش الاحتلال) ترقّت في الإعلام الغربي لأنها تقلّد ما يقوله زملاؤها، لكنها تضعه بصيغة الخبير المحلّي (هي قدّمت لكتابها التبجيلي عن هيلاري كلينتون، التي جاهرت بمعارضة وقف إطلاق النار في غزة، بالقول إنها ضد روسيا وضد إيران وضد الشيوعية وإنها في المعسكر الغربي منذ نعومة أظفارها). 

الطاقم الإعلامي المحلّي يخدم غرض إعلام الصهيونية في الغرب عبر الزعم أنه لا يمكن اتهام الإعلام بالعنصريّة لأنه يستعين بعرب ومسلمين. وأشنع من يعمل في صحافة الغرب هم العرب والمسلمون فيه لأنه واجهة لمشروع لا قدرة لهم على التأثير عليه. هم يترقّون إذا ما أحسنوا الطاعة وتلقّي الأوامر. ما حدث في إعلام الـ«بي بي سي» والتلفزيون الألماني صريح: كل من يعمل في إعلامهم عليه أن يعتنق الصهيونيّة مثلهم وإلا الطرد هو مآله. لكن لا نجهد كثيراً. الواقع على الأرض هو الحقيقة. الواقع في الإعلام الغربي هو منية الخيال.

الإعلام

إقرأ المزيد في: مقالات مختارة

التغطية الإخبارية
مقالات مرتبطة

خبر عاجل