معركة أولي البأس

مقالات مختارة

الصين وممرّ المشرق العربي: مقاربة غير تصعيدية بوجه سياسة الاحتواء الأميركية
29/09/2023

الصين وممرّ المشرق العربي: مقاربة غير تصعيدية بوجه سياسة الاحتواء الأميركية

صحيفة الأخبار - حسام مطر

تتميّز الحقبة الحالية من العلاقات الدولية بمنح الدول الأولوية لتنمية علاقاتها الاقتصادية من خلال الاستفادة من مزايا التقدم في مجالات النقل والاتصالات. فالعالم اليوم ينتظم ضمن شبكات اتصالية وسلاسل توريد، وموقع الدولة في هذه الشبكات والسلاسل يحدّد الفرص التي يمكن أن تستفيد منها والمزايا التفاضلية التي يمكن أن تمتاز بها. وهكذا تزداد العلاقة تفاعلاً بين الجغرافيا السياسية والاقتصاد، فلا اقتصاد صاعد ومرن ولا موقع جيو سياسي مؤثّر خارج منطق شبكات البنى التحتية التي تتجاوز إقليم الدولة. وهذا الواقع أدّى إلى ظهور مصطلحات مثل «جيوبولتيك سلاسل التوريد» و«الجغرافيا الوظيفية» و«أسلحة الشبكات الاتصالية».

تظهر هذه المعادلة في المنافسة الدولية المتصاعدة على بناء وإدارة شبكات البنى التحتية العابرة للحدود الوطنية، وكذلك على إنشاء سلاسل توريد، والاندماج فيها، وفي الحالتين يكون السعي لاجتذاب الحلفاء والشركاء والمتعاونين وتحييد وعزل المنافسين والخصوم. لذلك، تعدّ الدول الكبرى والإقليمية خططاً طموحة لإقامة البنى التحتية العابرة للحدود أو المشاركة فيها. وفي هذا الإطار تحاول القوى الفاعلة تأسيس شراكات مصغّرة مخصّصة لأغراض محددة بما في ذلك بناء شبكات البنى التحتية التي يمكن أن تنضمّ إليها دول أخرى تباعاً. وفي ظل المرحلة الانتقالية للنظام الدولية، تتجنّب الدول قدر المستطاع الانخراط في تحالفات واسعة يمكن أن تضعها في خضمّ صراعات القوى الكبرى وتفضّل الشراكات المصغّرة والتحالفات المتعددة مع قوى كبرى مختلفة في آن واحد.

موجز الرؤية المقترحة

فيما تحاول الصين تجنّب التصعيد والمواجهة مع الولايات المتحدة التي تكشف عن استعداء متزايد، فإن خيارها الأنسب يتمثّل في تعزيز التعاون الاقتصادي والتنموي وبناء مزيد من الشبكات والشركات. وعليه، يمكن أن يكون ممرّ المشرق العربي المُقترح (العراق، سوريا، لبنان)، المتّسق مع مشروع الحزام والطريق، بديلاً أساسياً أو/و ممراً برياً إضافياً من إيران أو مياه الخليج (عند ميناء الفاو العراقي أو ميناء الإمام الخميني الإيراني) باتجاه المتوسط أو باتجاه السعودية ثم سائر دول الخليج. كما يمكن لهذا الممرّ أن يساهم في تشبيك مصالح كل من إيران وتركيا مع الدول العربية بما يعزّز الاستقرار ويضبط تنافسات القوى الإقليمية ويطور مصالحها جميعاً مع بكّين وبما يحرم واشنطن من ذرائع للتدخّل في المنطقة. وبالتالي، فإن استثمار الصين في بناء هذا الممر (طرق، سكك حديد، خطوط للطاقة والاتصالات، مناطق صناعية وتجارية حدودية) يتواءم مع المبادرات العالمية والاستراتيجيات الوطنية الصينية في هذه المرحلة الانتقالية للنظام الدولي.

أولاً: السياق الصيني لمقترح ممرّ المشرق العربي

يتوافق طرح فكرة ممرّ المشرق العربي مع الهواجس والخيارات الصينية في الحقبة الحالية، وهي تشمل ترجيح استمرار «المنافسة الشرسة» والتصعيد الأميركي (سياسات العقوبات والقيود على التصدير وبناء الأحلاف) لعزل الصين عن سلاسل التوريد وتطويقها، وصولاً ربما إلى الانفكاك عنها (أخيراً تم استبدال مصطلح الانفكاك بمصطلح نزع المخاطر لكونه يبدو مصطلحاً دفاعياً). وتميل المقترحات الصينية للتعامل مع هذه الاستراتيجية الأميركية بالتركيز على التشبيك مع دول الجنوب العالمي بما في ذلك في الشرق الأوسط بدل اتباع سياسات تصعيدية مباشرة ضد واشنطن. ولذا تتزايد الدعوات الصينية للتعامل مع مبادرة الحزام والطريق من منظار جيوسياسي لا محض اقتصادي قائم على احتساب الأرباح التجارية.

يحاجّ يان كزيتونغ (yan xuetong)، مدير مؤسسة العلاقات الدولية في جامعة «تشينغهو»، أنه بسبب السياسة التصعيدية الأميركية ضدّ الصين ولا سيما في المجال التكنولوجي، إضافة إلى صعود موجة اليمين القومي المعادي للعولمة في الغرب، فإن البيئة الدولية تتسم بعدائية متزايدة ويظهر فيها ميلٌ للابتعاد عن العولمة، ولذلك على الصين والشركات الصينية أن تستعد لهذه المرحلة التي يُرجّح أنها ستتواصل من 10 إلى 20 عاماً أو أكثر. وهذا ما تؤكده كتابات غربية ترى أن العالم ينقسم إلى كتل منفصلة، الكتلة الديمقراطية الغربية، والكتلة «التسلطية» بقيادة الصين وروسيا، وكتلة الجنوب العالمي الحرجة. ولذلك تدعو تلك الكتابات إلى التكامل داخل الكتلة الغربية قدر المستطاع والانفصال الجزئي عن الكتلة ذات القيادة الصينية والتنافس معها بشدة على دول الجنوب.

في مقابل ذلك يقترح شينغ ياوين (Cheng Yawen) أنه يجب على بكين بشكل عاجل، مستفيدةً من الدرس الروسي، بناء ثلاث حلقات من التعاون وتعميق التكامل مع دول الجنوب العالمي بشكل أساسي (لتقليص الاعتماد على الغرب) في مجالات الطاقة والعُملات والمعلومات والمواد الأولية. يحلّ الشرق الأوسط مع شرق ووسط آسيا في الحلقة الأولى من هذا المقترح، ثم باقي آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية في الحلقة الثانية، والدول الغربية والصناعية الأخرى في الحلقة الثالثة. ويجب أن يرتكز هذا التعاون بشكل أساسي على أهداف سياسية وأمنية تليها الأهداف المرتبطة بالنمو والاقتصاد. تمثّل هذه السياسة تجسيداً لمقولة ماو تسي تونغ لتطويق المدن من خلال الأرياف، فالتعاون والتضامن مع دول الجنوب (ريف العالم) ضروريان لتجاوز الإجراءات القمعية الاستباقية الغربية. في السياق ذاته، تظهر دعوة للصين بأن تقوم ببناء نوع جديد من النظام الدولي مع دول الجنوب العالمي حيث العمق الاستراتيجي، ولذا يفترض النظر إلى مبادرة الحزام والطريق من منظار إستراتيجي لا مجرّد مشروع اقتصادي، على ما يجادل يانغ بينغ رئيس تحرير مجلة «بكين كالتشرل ريفيو». فعلى الصين، بحسب دا وي، مدير «مركز الأمن الدولي والإستراتيجيا»، أن تتجنّب استراتيجية الردود التلقائية ضد الخطوات الأميركية، ما يؤدي إلى تصعيد كبير يمكن أن تستخدمه واشنطن لتشديد الضغوط عليها، بل عليها أن تركز على بناء الجسور مع الدول الأوروبية ودول الباسيفيك ودول الجنوب العالمي وإبداء التسامح معها لجذبها بعيداً عن الانخراط في الجهود الأميركية لفصل الصين عن الشبكات العالمية.

ثانياً: الجدوى الصينية من ممر المشرق العربي

تقع الدول الثلاث مجتمعة في مركز إقليمي محاط بالقوى الإقليمية الأكثر تأثيراً في الشرق الأوسط، إيران وتركيا والسعودية والكيان الإسرائيلي. تشترك هذه الدول في وجود بنى ثقافية اجتماعية وسياسية متنوّعة، والأهمّ أنها على مستوى السياسة الخارجية لديها هامش مرتفع نسبياً للتمايز عن المصالح الأميركية يتجاوز أي تكتّل إقليمي في المنطقة. فهذه الدول تضمّ كتلاً اجتماعية وازنة معادية لسياسات الهيمنة الأميركية وتجمعها علاقات إيجابية مع إيران بعنوان المصالح المشتركة العميقة و/أو الانتماء الثقافي.

يشكّل هذا الممرّ خياراً إضافياً للطريق البري من إيران باتجاه تركيا، ولا سيّما في ظل وضعية تركيا غير المحسومة. ففي ظل الانقسام الحادّ بين الخيار الأوراسي والغربي في تركيا، وإزاء ضغوط غربية متزايدة، يمكن من خلال أزمة اقتصادية حادّة أو تغيّر في نتائج الانتخابات أن يعاد ضبط تركيا بشكل أكبر داخل الناتو. وهذا الضبط يمكن أن يتحقق بتطويع حزب العدالة والتنمية حين يواجه أزمة كبرى أو من خلال عودة القوميين العلمانيين إلى الحكم. وفي حال استمرت واشنطن بمقاربتها التصعيدية ضد الصين، فإنها ستضغط على الدول المتأرجحة والحليفة لإبعادها عن الشبكات الصينية. وفي حال كان للصين ممرّ موازٍ من إيران نحو المتوسط عبر الدول الثلاث، فإن قدرة بكين التفاوضية مع أنقرة تبقى مرتفعة.

يمكن لممرّ المشرق العربي أن يمثّل دور قناة جافّة تتيح نقل البضائع الصينية الواردة من ميناء «جوادر» الباكستاني نحو ميناء «الفاو» العراقي. والصين بحاجة إلى مسار إضافي يتجاوز نقاط الاختناق البحرية في قناة السويس وباب المندب ومضيق هرمز، وهي ممرّات تقع تحت تأثير كبير لحلفاء الولايات المتحدة ويمكن لهم استخدامها للضغط على الصين أو لمجاراة الضغوط الأميركية. ولطالما فضّلت الصين الاستثمار في الممرّات البحرية، ولكن في ظل عسكرة واشنطن للباسيفيك وتسارع الخطوات الأميركية في مجال الأمن البحري في الخليج والبحر الأحمر، فإن بكين مضطرة لإيلاء أهمية كبرى للممرات البريّة.


يمثّل ممرّ المشرق العربي نقطة توازن مع الدول العربية في الخليج التي أصبح لديها، بسبب اشتداد التنافس الدولي ولا سيما الآسيوي، على مصادر الطاقة، قوة تفاوضية عالية في هذا الشأن؛ فوجود هذا الممر يضعف قدرة القادة الخليجيين على الالتزام بالمطالب الأميركية للتضييق على الصين، وهذا أمر حيوي لناحية أن الاعتماد الصيني المكثّف على مصادر الطاقة الخليجية يجعل بكين هشّة تجاه أنواع مختلفة من «حصار الطاقة الإستراتيجي». ولا يعني هذا الأمر دعوة إلى وقف تطور التشبيك الصيني مع دول الخليج بل يعني دعمه بمسار مواز نظراً إلى حجم المصالح الصينية في الشبكات الخليجية. وإذا ما استمر التصعيد الأميركي لعزل الصين عن سلاسل التوريد والشبكات العالمية، فمن غير المضمون أن لا تخضع الدول الخليجية بدرجة أو أخرى.

من ناحية ثانية، يمكن للدول الخليجية أن تستفيد من الاستثمار الصيني في تطوير ممرّ المشرق العربي من خلال الاندماج به عبر العراق، وهكذا تستفيد هذه الدول سياسياً من تشبيك مصالحها مع العراق وسوريا ولبنان. وقد تجد الدول الخليجية في تطوّر الدور الصيني في العراق وسوريا ضمانة لتطوير العلاقات مع إيران، أي إن الدور الصيني في هذا الممرّ يمكن أن يكون عنصر توازن بين الدول العربية في الخليج وإيران، وهذا بدوره يمكن أن يكون مقدّمة لتطوير مصالح مشتركة إيرانية خليجية أكبر وحتى تركية خليجية بشراكة ورعاية صينيتين. بالنتيجة، وجود هذا الممرّ بين الكتلة الخليجية وإيران وتركيا يمنح بكين من خلال استثماراتها فيه مزايا اقتصادية وجيوسياسية متعددة، بما فيها إيجاد أرضية لمبادرة أمنية وسياسية لتحفيز تعاون القوى الإقليمية المذكورة.

ويرى عدد من الخبراء أن الصين ستجد نفسها مدفوعة في نهاية المطاف للمشاركة في ديناميات المنطقة الأمنية والسياسية بسبب التراجع المتواصل في المصالح والهيمنة الأميركية في المنطقة. فالصين تتبع «إستراتيجية انتظار» – لحين ظهور فراغ أو أزمة في الدور الأميركي داخل المنطقة – تطوّر خلالها الصين هذه الديناميات تدريجياً بفعل تزايد الطلب بدل أن تسعى الصين إلى تحدي الهيمنة الأميركية القائمة بشكل مباشر. في هذا الشأن، يدعو الخبير الصيني ليو زهونغ مين (Liu Zhongmin)، أستاذ الدراسات الشرق أوسطية في مؤسسة «شانغهاي للدراسات الدولية في جامعة شنغهاي»، الصين، إلى أن تلعب دوراً فعّالاً في ديناميات المنطقة، لأن التحولات الدولية والأميركية تشير إلى أنه من الملحّ على الصين أن تطوّر إستراتيجية دبلوماسية متوسطة وطويلة الأمد تجاه المنطقة مع آليّات وتدابير محدّدة.

أظهرت السنوات الأخيرة أن «إسرائيل» التزمت بالمقاربة الأميركية في ما يخصّ الحد من التعاون مع الصين، كما ظهر جلياً في قضية مرفأ حيفا وفي الانخراط في التحالف الرباعي إلى جانب أميركا والهند والإمارات. تحاول واشنطن ضبط «إسرائيل» والاستفادة من قدرات الرباعي المالية والاستثمارية والتكنولوجية والبشرية لتُنشئ شبكات إقليمية تجذب إليها الدول الإقليمية بعيداً عن الصين (كما في فكرة الممرّ الهندي العربي الأوروبي). ولذا يمكن لاستثمار الصين في ممر المشرق العربي أن يخلق ضغطاً موازياً على السياسة الإسرائيلية وتفرض عليها قيوداً للمشاركة في جهود التطويق الأميركية.

إن ربط الدول الثلاث بعضها ببعض عبر شبكة من البنى التحتية سيؤدي إلى إنعاش المناطق الحدودية التي تُعتبر مصدراً للاضطرابات الأمنية (ولا سيما الحدود العراقية السورية). وبذلك، سيصبح لدى سكان هذه المناطق ما يمكن أن يخسروه كما سيتم ربطهم بكفاءة بالحكومة المركزية في بلادهم، وهذا ما سيعزز فرص الاستقرار الأمني وتجفيف الملاذات الآمنة للإرهابيين في سوريا والعراق تحديداً. مع الإشارة إلى أن الولايات المتحدة تستغل وجود هذه الجيوب لإدامة وجودها غير الشرعي في سوريا وللسعي لإقامة مناطق عازلة عند الحدود العراقية السورية من خلال قوات محلية وكيلة. وبالتالي، فإن احتواء الجماعات الإرهابية في هذه المناطق يسحب الذريعة الأميركية المعلنة لإبقاء قواتها هناك.

تنظر واشنطن إلى المنطقة بمنظار صيني، ولذا لا يبقى أمام الصين إلا أن تنظر إلى المشرق العربي بمنظار أميركي أكثر جرأة

ثالثاً: التحدّيات والمتطلّبات

إن الاستفادة الصينية من ممرّ المشرق العربي لا تُبنى فقط انطلاقاً من تقدير العوائد ولكن من التكلفة أيضاً، ولذا نورد في ما يلي أبرز التحديات التي قد تواجه الصين في انخراطها في مشروع هذا الممرّ.

الوضع الأمني الهشّ في هذه الدول الذي يشهد تقلّبات مستمرة بسبب العدوانية الإسرائيلية ووجود المجموعات الإرهابية وسياسة التدخل الأميركية وحدّة الانقسامات الداخلية. لذلك، يلاحظ الباحثون أن الصين تجنّبت الانخراط في المشرق، بالرغم من إدراكها لأهميته وذلك بالاتّساق مع مقاربتها البراغماتية التي تركّز على المكاسب الاقتصادية، وتقلّل من الاستثمار السياسي وأخذ المخاطرة. لكن بعد عام 2013، تبيّن لبكين أن موقع المشرق يجعله حيوياً لمبادرة الحزام بشكل لا يمكن تجنّبه. إن اكتساب الصين لدور أمني في المشرق العربي من مدخل الاستثمارات قد يمثل مساحة تعاون مع واشنطن نفسها في حال استمرت في تخفيض التزاماتها الأمنية تجاه المنطقة أو يشكّل ضمانة لعدم حصول فراغ أمني كبير في حال قلّصت أميركا دورها الأمني في المنطقة بسبب الانقسامات الحادة في واشنطن.

في الواقع، استعادت الدول الثلاث في الأعوام الأخيرة جزءاً أساسياً من استقرارها الأمني بعد هزيمة تنظيمَي «داعش» و«القاعدة» بمساندة أمنية إيرانية وروسية والمجموعات الحليفة لهما، كما نجح لبنان في حماية استقراره الأمني وأنجز ترسيم الحدود البحرية الجنوبية، فيما بدأت شركة «توتال» في نهاية آب 2023 التنقيب عن الغاز داخل البلوك الرقم 9 مع مؤشرات إلى وجود كميات واعدة يمكن أن تكون رافعة للاقتصاد الوطني. وتطمح هذه الدول إلى جذب الاستثمارات لإعادة تنشيط دورتها الاقتصادية، والتي ترى كتل اجتماعية وازنة فيها أن الصين شريك موثوق في هذا المجال. إن قيام مشاريع للبنى التحتية بين هذه الدول سيمثل رافعة كبيرة لزيادة الأمن في المناطق الحدودية، وهو ما من شأنه أن يجعل الجهود الاقتصادية الصينية تتكامل مع الجهود الروسية والإيرانية وحتى الخليجية. وبينما تبدي كل من السعودية والإمارات اهتماماً بسوريا ولبنان والعراق، يمكن للانخراط الصيني فيها اقتصادياً أن يقدّم فرصاً لمشروعات كبرى يمكن أن تتقاطع فيها مصالح خليجية وروسية وإيرانية.

تدرك واشنطن أهمية هذه الدول، ولذا تمارس عليها الضغوط الاقتصادية والسياسية وتحاول تطوير روافع نفوذ محلية وتضع عوائق لتكاملها بما ذلك التواجد العسكري غير الشرعي في سوريا عند الحدود مع العراق. ومن المتوقّع أن تسعى واشنطن لفرض عراقيل أمام تطوّر العلاقات الصينية مع هذه الدول، ولا سيّما أمام مشاريع للربط الشبكي بينها. هذا التصوّر ساهم في تجنّب الصين الاستثمار في كل من لبنان وسوريا تحديداً وفضّلت حصر اهتمامها بالدول المستقرة، إذ قدّرت أن المخاطر السياسية أقلّ كما الحال في الأردن و«إسرائيل»، وهي استثمارات متمركزة حول الدولة (تتعامل مع كل دولة بحسب ظروفها)، وفق النمط البراغماتي لسياسة بكين الشرق أوسطية.

لكن في حال استمرت واشنطن في مسار محاولة عزل الصين عالمياً، فلا يبقى أمام الأخيرة إلا خيار المنافسة غير المباشرة مع واشنطن في دول مثل المشرق العربي والرهان على المزايا الجيوسياسية للمشاريع الاقتصادية فيها. فهذه الدول تعاني بدرجة أو أخرى من عقوبات أو ضغوط اقتصادية أميركية، ولكن يمكن تجاوز ذلك من خلال ما طرحه يانغ بينغ من بناء شبكات لمواجهة العقوبات الاقتصادية تضمّ الشركات الصينية والعالمية التي فُرضت عليها عقوبات أميركية، والتي يمكنها بدعم حكومي في البداية أن تعمل معاً في مجالات أو دول تعاني من تلك العقوبات. وكلما تزايدت العقوبات الأحادية الأميركية، زاد عدد الشركات والدول الراغبة بالانضمام إلى هذه الشبكة، بما يضع واشنطن أمام معضلة. وفي الوقت نفسه، فإن هذا الخيار سيحمي الشركات الصينية الأخرى التي يمكنها الاستمرار في العمل بعيداً عن البلدان والمجالات ذات الخطر المرتفع في ما يخصّ التعرّض للعقوبات الأميركية. وهكذا ستتمكّن الصين من الدخول إلى مجالات وبلدان يخشى الآخرون العمل فيها، بما يعزّز من تأثيرها العالمي السياسي والاقتصادي ويمنحها ورقة مساومة كبيرة بوجه العقوبات الأميركية. وفي المشرق العربي يمكن للشركات الإيرانية والروسية المشمولة بالعقوبات أن تنضمّ إلى هذه الشبكة وتعمل في سوريا بشكل أساسي.

التعاون مع هذه الدول قد يثير حفيظة الشركاء الخليجيين للصين أو «إسرائيل» حيث يمكن أن يُفسر الاستثمار الصيني في هذه الدول عل أنه يعزّز المصالح الإيرانية. لكن من ناحية مقابلة يمكن لهذه الدول نتيجة علاقتها المتميزة مع الصين أن تجد في دور الأخيرة موازناً للحضور الإيراني، إضافة إلى أن دول الخليج تبدي أخيراً رغبة بتطوير العلاقات مع إيران، ولذلك يمكن لهذا الممرّ أن يمثّل فرصة استثنائية لتشبيك المصالح الإيرانية الخليجية تحت رعاية صينية.

الانقسامات الداخلية في بلدان ممرّ المشرق العربي والهشاشة السياسية التي تعاني منها. في كل من هذه الدول كتل اجتماعية موالية للمشروع الأميركي ومصالحه، إلا أن الكتل المؤيّدة للاتجاه شرقاً أثبتت أنها الأقوى ولكنها تواجه مطالب متزايدة من مؤيديها بإثبات جدوى هذا المشروع بينما يروّج الأميركيون أن الصين شريك غير موثوق وأن هذه الدول لا ملاذ لها إلا اللحاق بواشنطن. وقد تمكّن مؤيدو الاتجاه شرقاً في هذه الدول من تجاوز تحديات السنوات الأخيرة وحفظ مقدار مرتفع من التأثير في البنى السياسية والأمنية، ويحتاجون إلى استكمال ذلك بتنويع علاقات بلادهم الاقتصادية بين الغرب والشرق. يمكن للاستثمارات الصينية في هذه الدول أن تؤكد جدوى خيار الاتجاه شرقاً بما يعزّز من نفوذ القوى الحاملة لهذا الخيار، كما أن قيام بكين بذلك سيكون بمثابة رسالة قوية لشركاء آخرين محتملين. وقد تحاول واشنطن تعطيل هذه المبادرة الصينية بأدوات مختلفة، إلا أنها مضطرة للقيام بذلك بسقف منضبط وبتحفّظ كون المبادرة لها روافع محلية قوية ولأن واشنطن حريصة جداً خلال هذه الحقبة على تجنّب حصول أزمات كبيرة قد تخرج عن السيطرة ولا سيّما في حال كان لها جانب أمني عسكري.

القدرات الاقتصادية المحدودة لهذه الدول، وبالتالي قدرتها محدودة على استيعاب الاستثمارات الصينية أو التعهّد بدفع تكلفتها. هذا التحدّي يمكن مواجهته وفق جملة مقترحات: أولاً، لدى هذه الدول الكثير من الفرص الاقتصادية الكامنة التي يمكن للاستثمار الصيني فيها أن يعود عليها بمكاسب مالية مثل الاستثمار في التنقيب عن النفط والغاز في سوريا ولبنان أو الاستثمار في مجالات الطاقة العراقية أو الاستثمار في الموانئ السورية واللبنانية. ثانياً، يمكن للاستثمارات الصينية أن تستردّ جزءاً من كلفتها من خلال أن تقوم الشركات الصينية نفسها بتشغيل هذه المنشآت الجديدة والحصول على حصص من الأرباح لسنوات محددة. ثالثاً، جزء من الأزمة الاقتصادية في هذه البلاد مرتبط بسوء الإدارة أو الضغوط الأميركية ولا تعكس نقصاً في الموارد والفرص. وبالتالي، فإن الشراكة الصينية في الاستثمار والتشغيل يمكن أن تحل بعضاً من هذه العقبات، كما أن نجاح التجربة الصينية في عدد محدود من هذه المشروعات سيفتح المجال لظهور فرص إضافية. رابعاً، إن الاستثمار الصيني في المشرق العربي لا يمكن أن يُنظر إليه من منظار الربح الاقتصادي المباشر فقط بل من منظار عوائده الجيوسياسية أيضاً.

خُلاصة

تنبني الخلاصة على ترجيح أن تشهد نهاية العقد الحالي تشكّل وضع دولي يقوم على ثنائية قطبية رخوة ومتنوعة. تشمل هذه الثنائية كلاً من الصين والولايات المتحدة، أما كونها رخوة فيعود ذلك إلى التأثير الكبير للقوى المتوسطة في المناورة والصعود والاشتراط، ومتنوعة تعني أنه سيكون هناك مجالات تجمع الصين وأميركا والقوى الناشئة للتعاون بشأنها (فالعولمة تبقى مصلحة لها لكن بوزن أكبر للشرق وروابط أكبر بين دول الجنوب) بينما ستظهر في مجالات أخرى عدة نُظم بمركزية أميركية أو صينية أو روسية أو غيرها حيث أشكال مختلفة من الحداثة والمؤسسات والمعايير.

تتمركز في دول ممرّ المشرق العربي المقترح أبرز الكتل الاجتماعية المعادية للهيمنة الأميركية، وفيها روافع محلية وازنة تؤيّد الاتجاه شرقاً لتنويع الخيارات في ظل تحوّلات النظام الدولي. يمكن للدور الصيني في تطوير هذا الممرّ أن يُلهم ويحفّز كتلاً أخرى في دول حليفة أو خاضعة للولايات المتحدة في الجنوب العالمي بأن ترى الإمكانات المتاحة للشراكة مع الصين، وأن يطرح مزيداً من الأسئلة بوجه الولايات المتحدة حول دورها العالمي. إن هذه المبادرة المقترحة للصين تنسجم مع رغبة بكين بتجنّب سياسات تصعيدية مباشرة بوجه واشنطن رداً على التصعيد الأميركي المتواصل. بالإضافة إلى أن واشنطن تبرز حرصاً كبيراً على تجنب اندلاع توترات كبيرة في المنطقة، ولذا ستتعامل بحذر مع المبادرات الصينية وستحاول احتواءها لكن شريطة عدم حصول تدهور كبير. وبحسب الوثائق والتصريحات الأميركية، فإن منطقة غرب آسيا والعالم العربي، أو منطقة القيادة الأميركية الوسطى بحسب الجيش الأميركي، هي منطقة مفتاحية لاحتواء الصعود الصيني. إن واشنطن تنظر إلى المنطقة بمنظار صيني، ولذا لا يبقى أمام الصين إلا أن تنظر إلى المشرق العربي بمنظار أميركي أكثر جرأة دون مغادرة السعي لتجنّب التصعيد مع التركيز على اجتذاب مصالح القوى الإقليمية لتتقاطع مع المصالح الصينية في المبادرة المقترحة لممرّ المشرق العربي.

ملخّص ورقة قُدّمت ضمن «المنتدى الدولي الثامن حول آسيا والشرق الأوسط» في جامعة شنغهاي للدراسات الدولية (أيلول 2023)

الشرق الأوسط

إقرأ المزيد في: مقالات مختارة