مقالات مختارة
هذا الإمام الاستثنائي حيث لا يجرؤ الآخرون
صحيفة "البناء" - ناصر قنديل
– الحديث عن ذكرى تغييب الإمام السيد موسى الصدر هو في كثير منه حديث مجاملة لبنانية محبّب، لأنه ينطلق من حرص أبناء الطائفة الشيعية على تكريم رمز بارز وتاريخيّ في حياة الطائفة، باعتباره صانع نهضتها وحضورها بعد تغييب طالها لعقود طويلة عن الشراكة في شؤون الحياة العامة أسوة بسائر اللبنانيين، ولكونه أيضاً مؤسس مقاومتهم التي يتباهون بقوتها وبإنجازيها العظيميين، تحرير الأرض وردع العدوان، يوازيه حرص من أبناء سائر الطوائف وقياداتها الروحية والسياسية على مجاملة طائفة لبنانية كبرى. وهذا حرص طيب يستحق التشجيع بما يدل عليه من تمسّك بالعلاقات القائمة على الاحترام وتبادل الود بين الطوائف وقياداتها، لكن ما يستحق التوقف أمامه في شخصية هذا الإمام وسيرته مختلف كلياً، بعيداً عن ضرورات العمل السياسي ومقتضيات المجاملة واحدة منها.
– يعرف اللبنانيون في نماذج القادة السياسيين والروحيين، حرصاً شديداً على مراعاة مزاج طوائفهم وشوارعها، وليس ثمّة حاجة لجلب الأمثلة على ذلك، لأن تاريخ لبنان خلال نصف قرن مضى يُقدّم لنا العشرات بل المئات من الأمثلة، وسوف يكون صعباً أو شبه مستحيل أن نقع على مواقف مفصلية حساسة خرج بها قائد سياسي أو ديني وخاض معركة إثباتها وتثبيتها، وهو يدرك أنها تعاكس مزاج الشارع الحاكم في طائفته، وتكون نتيجتها بصورة لا تقبل الشك خسارة هذا القائد لانضباط طائفته وشارعها بقيادته، ومخاطرة بتبعيتها لقيادات أخرى، وربما من طوائف أخرى، وتفكك ظاهرة الشارع الطائفي الذي كان قد خرج بكله وكلكله وراء هذه القيادة، لكن الإمام فعل ذلك بلا تردّد، عندما أعلن قراره بعدم المشاركة بالحرب الأهليّة. وهو للعلم مؤسس أول حركة مسلحة في لبنان خرجت للعلن، عبر تدريبه لمئات وآلاف من الشبان تحت عنوان أفواج المقاومة اللبنانية (أمل)، تحت عنوان التصدّي للاعتداءات الإسرائيلية على جنوب لبنان، قبل اندلاع الحرب الأهلية بسنة على الأقل، ووصل به الأمر بعد تحريم مشاركة أمل في الحرب الأهلية، أن دعا للاعتصام في مسجد العامليّة طلباً لوقف الحرب الأهلية، وهو يعلم محدودية الاستجابة لدعوته، وسلوك الشارع الوازن في طائفته اتجاهاً معاكساً، لكنه لم يبدل تبديلاً، مقدماً مثالاً لمفهوم القيادة، حيث صدقية القيادة لجهة الإيمان بالسلم الأهلي لا تختبر إلا في لحظة معاكسة المزاج الحربي للطائفة.
– عرف اللبنانيون صيغة مكررة لعلاقة القيادات الروحية والدينية بالقيادات السياسية، فهي علاقة تطويع وتقاسم، ومعلوم أن الإمام القادم من خارج قواعد اللعبة التقليدية في الطائفة المهمّشة، خاض معركة إعادتها الى الواجهة ونجح نجاحاً باهراً، وفي الطريق الى النجاح كان قد فرض على القيادات التقليدية للطائفة الانزواء أو الخضوع والاستعداد للانضواء تحت عباءته، لكن الخطاب الوطني الذي كان يحمله لكل الطوائف كان يجد ترجمته في ميثاق تأسيس حركة المحرومين، وكان يحلم بجعل الشارع الهادر وراء دعوته، والملتصق به في مشهدي القسم في بعلبك وصور، الى نقطة تحوّل في إطلاق وصناعة نخبة سياسية وطنية عابرة للطوائف، مؤمناً بأن تجديد النخبة السياسية هو الطريق للتغيير، حتى أنه لم يقبل الاستثمار على تناقضات حقيقية بين القيادات التقليدية في الطائفة بأن يتبنى بعضها بوجه البعض الآخر رغم كثرة العروض والوساطات، بل خاصمها جميعها، وارتضى تمثيلاً سياسياً ونيابياً للخط التغييري الذي يبشّر به، لا يتناسب مع حجم الشارع الذي يدين له بالولاء، فاكتفى عام 1972 بنيابة الراحل رفيق شاهين، لتقديم نموذج جديد من التمثيل السياسي البعيد عن البكوات والبيوت الإقطاعيّة التي كانت تتقاسم زعامة الجنوب والبقاع لعقود طويلة.
– في كل محطة من محطات الخطاب الإصلاحي كان اللبنانيون يختبرون صدقية قياداتهم، بمدى استعدادهم في التجرؤ على رفع الغطاء عن الذين يتمّ اتهامهم بالفساد من أبناء الطائفة، وغالباً كانوا يصابون بالخيبة، تحت شعار عدم جواز تقديم موظفي الطائفة كبش فداء لمعارك الإصلاح فيما يقوم الآخرون بتقديم الحماية لكبار الفاسدين من أبناء طوائفهم، لكن ما فعله الإمام الصدر كان استثنائياً ومفاجئاً فهو خطّط ونظّم لمعركة مواجهة مع الفساد بوجه موظف كبير من أبناء طائفته، وكانت معركة إطاحة رئيس مجلس الجنوب آنذاك، وقد خاضها الإمام بكل ثقله، وحشد شارعه وراءه، حتى تحقق الهدف وفرض تعيين بديل مشهود له بالعصامية ونظافة الكف والكفاءة، ليقدم المثال عن النهج الإصلاحيّ الذي أراد تعميمه في الدولة، دون الوقوع في شباك التوترات الطائفيّة، فيقذف بتهمة الفساد الى خارج طائفته، كما فعل ويفعل الكثيرون.
– اليوم ينعم لبنان واللبنانيون ببركة المقاومة في الحماية من العدوان، وقد كان لها من هذا العنوان عائد مباشر هو تحرير ثروات النفط والغاز، لكن قلة منهم تنتبه أن فلسفة المقاومة التي تحمي وتدافع، وليس التي تحرّر، قد وضعت من الإمام الصدر، الذي أسس هذه المقاومة للحماية والدفاع ولم تكن هناك بعد أرض محتلة، وللذين لم ينتبهوا أن ينتبهوا لأن في ذلك الردّ على مبرر سلاح المقاومة بعد التحرير، وهو أن التحرير مهمة أضيفت إلى جدول أعمال المقاومة عند وقوع الاحتلال، وتبقى المهمة التأسيسية والأساسية، الدفاع والحماية.
– بعض التأمل في هذا الإمام الإستثنائي مدرسة.