مقالات مختارة
السعودية ليست نموذجاً "استقلالياً"
صحيفة الأخبار - عباس بوصفوان
على خلاف تركيا - كما يراها «الإخوان المسلمون» على الأقلّ -، ومصر يوم كانت قوميّة، لا تقدّم السعودية نموذجاً «استقلالياً» للعرب للانعتاق من التبعية لأميركا، ولا مثالاً «تحرّرياً» لشعوب الجنوب في الوقوف وقفة الندّ بالند إزاء الغرب.. والكلام الملقى على عواهنه في جلّ الصحف العربية عن ذلك ليس له أساس، إذ إن معضلة محمد بن سلمان مع المؤسسة الأميركية تتمثّل في مطالبته إيّاها بإدامة هيمنتها في المنطقة، وتقوية أُطرها فيها، وترقية العلاقات الأمنية إلى اتفاقيات دفاع مشترك، في وقت ترى فيه واشنطن نفسها مشغولة بالصين الصاعدة، وروسيا المتمرّدة على نظام القطب الواحد. ويفيدنا التاريخ بأنه عادة ما يتمّ إنتاج علاقات التبعية السعودية مع أميركا بعد كلّ محطّة تنفجر فيها التوترات بين بلدين مختلفين جدّاً في كل ّشيء تقريباً: البُنى والقيم والمؤسسات... وتجمعهما، غالباً، المصالح البائسة المضادّة للجنوب وشعوبه.
المجمّعات الأميركية
أميركياً، يمكن التنويه إلى ثلاثة مجمّعات رئيسة تربطها علاقات وطيدة مع الرياض: الاستخبارات، السلاح والنفط. وعلينا التمييز بين جو بايدن، الذي ربطته صلات باردة ومشوّشة بابن سلمان، لأسباب انتخابية، وبين أميركا المُركّبة: الكونغرس، والمجمّعات الكبرى، واللوبيات الفاعلة، التي ما زالت ترى السعودية صديقاً موثوقاً ليس له بديل في غرب آسيا، يقدّم خدمات «جليلة» للسياسات الإمبريالية في الشرق الأوسط المضطرب. المثير في هذا الصدد، طغيان صورة سلبية للسعودية في الخطاب الغربي، يصوّرها مملكة مستبدّة، لا تحتكم إلى نظام دستوري عصري يفصل بين السلطات، ولا تحوز برلماناً منتخباً، ويقودها رجال قساة، قد يقتلون معارضيهم، أو يزجّون بهم في السجون، ولا يحترمون حقوق الإنسان، ويهمّشون النساء، وهي مصدر للإرهابيين الذين فجّروا في العراق وسوريا، ومركز للفكر الوهابي الذي يتغذّى عليه «الدواعش». إنها مملكة بائسة وأحادية، «لا تقاسمنا القيم»، إعلامها غير مستقلّ، قضاؤها يسيّره القَصر، كما يقول الغرب، لكنها تنام على بحور من النفط، غنية، موقعها استراتيجي، وتضمّ أقدس مدن المسلمين: مكّة والمدينة، تقود تيار «الاعتدال العربي» المناوئ لعبد الناصر سابقاً وإيران وحلفائها راهناً، والساعي لدمج إسرائيل في الإطار الإقليمي، والحريص على مساندة السياسات الأميركية كما شاهدناها في سوريا وليبيا واليمن وباكستان ومصر والبحرين والسودان، ومجمل دول الشرق وأفريقيا. إنه تراث معتّق من التباينات القيمية، والدعم المتبادل.
خمسون سنة مقبلة
الرئيس، أيّاً يكن، ليس أميركا قطعاً. في المقابل قد يعْسُر التمييز بين السعودية وابن سلمان، لكن حتى في هذه الحالة، فإن ولي العهد يحكم في ضوء تاريخ ووقائع وسياق وملابسات بُنيت على مدى طويل، ولا يكتبُ «تاريخَه» على صفحة بيضاء، وقد أظهر حبّاً جامحاً نحو أميركا ودونالد ترمب، ثمّ عامله بايدن بشيء من الامتهان، غير الممزوج بالدلال والغنج، كما كان يفعل سلفه. ابن سلمان باقٍ في القصر لخمسين سنة مقبلة، كما يتوقَّع الأميركيون. في المقابل، ليس مضموناً حصول مفاجأة بانتخاب ترامب، المحاصَر قضائياً، والمُحبّب إلى الرياض، مرة أخرى رئيساً للولايات المتحدة، وقد تتمّ إعادة التصويت لبايدن لولاية ثانية، تمتدّ حتى 2028. ويفرض ذلك على الطرفين: البيت الأبيض وابن سلمان، أن يديرا العلاقات بينهما، وهما المتّفقان على أمور كثيرة، بيد أن السعودية تطالب بعلاقة حميمية أكثر.
مكمن الخلاف
لنلاحظ أين يكمن الخلاف، إذاً: السعودية تريد مزيداً من الاهتمام والرعاية والسلاح والحضور والحماية الأميركية، وهي متضايقة وعاتبة لأن واشنطن تروم فطمها في بعض المساحات. ذاك عتب بين «خليلين» مختلفين جداً، وخلاف بين طرفين غير متكافئين، يمرّان بلحظة تغيّر «فيزيولوجي» و«سيكولوجي»، أو يقتربان من لحظة حرجة. عاشا علاقة مديدة قبل أن يجد «الأخ الأكبر» أن مفهوم «الاعتمادية التبادلية» و«الشراكة» بحاجة إلى إعادة تعريف، بسبب تغيّر حاجاته، وعقده، والمحيط الجيوسياسي.
العصيان المفترض
ليس هناك من ثورة سعودية على الشريك الأهم. وتصوير ولي العهد الشاب وكأنه يريد خطّ مسار مستقلّ عن الولايات المتحدة، لا نعرف له من أسس، ولا مظاهر. فالعلاقات السعودية مع روسيا متمركزة حول النفط، والصلات مع الصين ذات طابع تجاري، محكومة بالعرض والطلب. وحتى استعادة السعودية علاقتها مع إيران، لا يمكن أن تتمّ إلّا بتنسيق مع الشريك الأكبر، فالأصل أن السعودية تنسّق حثيثاً مع واشنطن، وهذه قاعدة من المستحسن حفظها، وتعليقها على الجدران. أمّا تصوير السعودية وكأنها تنتفض على واشنطن، وكأنها جزء من محور المقاومة، فهو أكبر بكثير حتى من الرغبوية. هذا غلوّ يصعُب تفسيره.
الأمن والعسكر
العلاقات الأمنية وطيدة بين الطرفين، وقد زار مدير وكالة الاستخبارات «سي آي إيه»، وليام بيرنز، الرياض أكثر من أيّ عاصمة أخرى في المنطقة. وهكذا فعل جاك سوليفان، مستشار الأمن القومي، للتنسيق بشأن الاحتياجات الأمنية للسعودية، وملفات: الصين، أوكرانيا، إيران، اليمن، التطبيع، الأمن الإقليمي، وما يقال عن محاربة «داعش». السعودية أكبر مشترٍ للأسلحة الأميركية، وهذه تقارير رسمية، و72% من الترسانة التسليحية السعودية مستوردة من الشركات الأميركية، وليس من روسيا أو الصين، في ظلّ رعاية البنتاغون وأجندته النافذة أميركياً تجاه الخليج: قاعدته العائمة. وأخيراً، اشترت الرياض 121 طائرة «بوينغ» بقيمة 37 مليار دولار.
النفط وأسعاره
نفطياً، على الرغم من حاجة اقتصاد أميركا إلى نحو 20 مليون برميل يومياً، تسعى الشركات الأميركية المنتجة للوقود الأحفوري للحفاظ على حجم إنتاج «متوازن»، في حدود 13 مليون برميل يومياً، وذلك بهدف إدامة الأسعار بالمستوى الذي يحقّق ربحية للمستثمرين، وكثير منهم يوظّف أمواله في غير النفط، وهذا لوبي رابع تهمّه العلاقة مع الرياض. لذا، نجد شركات النفط تُحجم عن ضخّ مزيد من الاستثمارات، ولا تعمل على إنتاج مزيد من النفط الصخري، خشية انهيار أسعاره، وبالتالي انخفاض أرباح ملاكها، أو حتى إجبارهم على غلق الآبار، وتسريح العمال.
في التحليل السياسي، يمكن أن نقول إنه لا يوجد إجماع أميركي على زيادة الإنتاج وتخفيض أسعار النفط. وحين حُدّد سعر أقصى للنفط الروسي، كجزء من عقوبات «الناتو» ضدّ الدب الأوراسي، وُضع له 60 دولاراً للبرميل - ليس بعيداً عن الحدّ الأدنى -، ربّما لتجنيب الشركات الأميركية الإفلاس، فضلاً عن أن أسعار نفط رخيصة قد تمثّل هدية للصين، المنافس الأكبر لواشنطن. تصوير الرياض وكأنها تحارب أميركا في سعيها للحفاظ على سعر «عادل» للمنتج والمستهلك، محض لعبة سياسية، تستثمرها السعودية لادّعاء الاستقلال، في منطقة تحلم بالتمرّد على أميركا.
وعلى الرغم من أن بايدن يتضرّر كلّما ارتفعت الأسعار، وخصوصاً في حال تعدّت 100دولار مثلاً، بيد أن السعودية ستغرق إذا انهارت الأسعار، مع الأحلام المليارية لابن سلمان، القلِق من غضب المؤسسة الأميركية القادرة على الإضرار بالسعودية، وتحطيمها كما حطّمت دولاً أخرى في الإقليم، ما يقنع السعودية بأن تخضع. يمكن القول إن علاقات السعودية بأميركا مبنيّة على «الخوف والطمع»، ما دامت أميركا في نظرها «إله الكون».