معركة أولي البأس

مقالات مختارة

ما حركة التحرر؟ [2] | أبطال حروب التحرير: نصرالله في تموز
12/07/2023

ما حركة التحرر؟ [2] | أبطال حروب التحرير: نصرالله في تموز

سيف دعنا

«تَزُولُ الْجِبَالُ وَلَا تَزُلْ، عَضَّ عَلَى نَاجِذِكَ، أَعِرِ اللَّهَ جُمْجُمَتَكَ، تِدْ فِي الْأَرْضِ قَدَمَكَ، ارْمِ بِبَصَرِكَ أَقْصَى الْقَوْمِ وَغُضَّ بَصَرَكَ وَاعْلَمْ أَنَّ النَّصْرَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ»

(وصية الإمام علي بن أبي طالب لولده، وحامل رايته في الحرب، أبي القاسم محمد - سميّ النبي وصاحب كنيته)

إلى حمزة وخيري. بكيناكم كتامر.

... وهذا بعض ما رواه إبراهيم الأمين عن لقاء السيد نصرالله بإدوارد سعيد ومحمود درويش (اللذين طلبا لقاءه، كل على حِدَة) في أعقاب التحرير عام 2000: «... وظلّا يعبثان في الكلام معه كطفل يريد أن يسمع كبيراً من حوله يقول له ما يجعله ينام مطمئناً إلى غده. وكان سؤالهما الصدمة: وماذا بعد؟ لم يكن السيد حسن بخيلاً في شرح مقاصد نضاله ورفاقه... وكان يبتسم ويجيب بصوت هادئ وحاسم: سنُزيل "إسرائيل" من الوجود!» (1).

ما لم يقله إبراهيم، إنه وفيما كنا نتابع بدهشة وفرح عظيم مشاهد التحرير في أيار 2000، كان هذا السؤال بالذات على لسان كل فلسطيني وعربي وفي ذهنه وفي قلبه – لهذا كتبت أكثر من مرة، وبلا ملل، أن انتصار أيار أعاد الصراع العربي الصهيوني إلى المربع الأول، ووضع كل ما ظن العدو أنه إنجازات استراتيجية قد اكتملت وأنجِزَتْ ولا عودة عنها في موقع التشكيك، إن لم يكن قد أبطل مفاعيلها كلياً كما يفيد حال المقاومة وخطابها الجذري في حقبة ما بعد انتصار أيار. وأنه فيما كنّا نتابع صوت السيد القادم من بنت جبيل يومها («الخزي والهزيمة والذل والعار من الماضي. هذا الانتصار يؤسّس لحقبة تاريخية جديدة ويقفل الباب على حقبة تاريخية ماضية. دعوا اليأس وتسلّحوا بالأمل. دعوا الوهن جانباً واشحذوا الهمم والعزائم»)، كان كل فلسطيني يود ويتمنى، ليطمئن قلبه أكثر، لو يستطيع أن يسأل السؤال ذاته أيضاً للرجل الذي كان الجميع، ولا يزال، يؤمن أنه الوحيد الذي يمتلك الجواب، بل والوحيد أيضاً الذي يودّ الجميع أن يسمع الجواب منه بالذات، لا من غيره – ألم يكن هذا بالضبط ما فعله سعيد ودرويش؟ ما لم يقله إبراهيم أيضاً، إن الكثير من الفلسطينيين أيضاً، ليس فقط لا ولم يتوقعوا جواباً غيره (خصوصاً من السيد)، بل وأكثر من ذلك، لا ولن يستطيعوا أن يقبلوا جواباً آخر – ربما لهذا السبب لن يسألوا مثل هذه الأسئلة الكبرى إلا للسيد.

فهذا الجواب كان، ولا يزال، وسيبقى، سبب قدرتنا الوحيد على العيش، وسبب قدرتنا الوحيد حتى على الاستمرار في العيش، رغم كل شيء يجري لنا ومعنا، وهذا الجواب بالذات هو المعنى الوحيد والحقيقي لأن تكون حياً حقاً بالنسبة إلى الكثير من الفلسطينيين: أن بلادنا ستتحرر فعلاً (وعسى، يا ربّ المجاهدين، أن يكون ذلك قريباً)، وأننا سنعود بكرامة إلى بيوتنا وأرضنا وأهلنا. فهذا الجواب، ولا شيء آخر غيره، هو ما يقف بيننا، كأفراد، وكجماعة، وكشعب، وبين الموت السياسي والثقافي والوطني والمعنوي النهائي. فليس صراعنا مع هذا العدو كأي صراع آخر، مهما حاول الأنذال استغلاله وتسييسه أحياناً لخدمة أهداف رخيصة وتشبيهه بصراعات أخرى لا تشبهه على الإطلاق. فما يكافح ويستشهد من أجله شبابنا الأبطال وبالعشرات كل يوم أحياناً هو، حرفياً، الوجود بحد ذاته. لهذا، لا نستطيع ولا يمكننا حتى أن نقبل مجرد التفكير بأي جواب آخر، وليس في القلب والعقل، ولا يمكن أن يكون، متسع لأي جواب آخر، لأنه يعني أن نقبل بموتنا الجماعي وأن نُسَلِّم بإبادتنا كشعب. لهذا، ندرك في أعماقنا جيداً، أن هذه حرب لا يمكننا، ولا نستطيع، أبداً أن نخسرها، لأن الهزيمة فيها تعني شيئاً واحداً فقط: أن لا نكون. ولهذا السبب بالضبط نعرف أن كل ثمن ندفعه أو سندفعه كشعب وأمة لن يكون كبيراً أو كثيراً، بل سيصغر حتماً أمام هذا الهدف النبيل.
في هذا الحوار، جلس إدوارد سعيد، أحد أهم مفكّري العالم في النصف الثاني من القرن العشرين، بين يدي سيد المقاومة (كالطفل فعلاً) ليسأله السؤال الكبير، ثم يغادر مطمئناً إلى حتمية ما ظنه قبلها «المستحيل»، وليخرج من عند السيد أيضاً وثقته بأن هذا «المستحيل»، فقط «على بعد جيل»، كما جاء في «طباق» درويش لسعيد. فسعيد، المفكر والناقد الاستثنائي، كان يعرف أن الجواب على هذا السؤال الكبير يحتاج إلى عالِمٍ في حقل معرفي لا يُدَرَّسُ في الجامعات والأكاديميات الغربية، بل إلى قائد كبير تراكمت خبرته ومعرفته لسنين بالمقاومة وقيادتها، حروب التحرير الوطنية وإدارتها، والصراع الوجودي وإدارته، وليس من أدبيات حركات التحرر فقط، بل ومن الميدان خصوصاً، ومن بين المتاريس والدشم وأزيز الرصاص وفولاذ البنادق ورائحة البارود ومرابض الصواريخ.

«سنُزيل "إسرائيل" من الوجود»، هي الروحية والعقلانية والقناعة والهدف التي خاضت المقاومة بها كل مواجهاتها مع الكيان. هكذا يصبح الانتصار العظيم في أيار 2000، وتموز 2006، وما قبلهما وما بينهما وما بعدهما، وبرغم كون كل منهما ما كان من حدث تاريخي هائل بحد ذاته حتى في سياق الصراع الكبير، مجرد محطة ومرحلة في عقل وقلب كل مقاوم على طريق الهدف الأساسي، فلسطين. وهكذا يصبح، وكان فعلاً، الانتصار في أيار وتموز مؤكداً وحتمياً حتى قبل أن تُطلق الرصاصة الأولى لمن كان هدفه فعلاً وحقاً «سنُزيل "إسرائيل" من الوجود».

ارْمِ بِبَصَرِكَ أَقْصَى الْقَوْمِ: نصرالله في تموز

... وفي الثامن والعشرين من تموز 2006، انتقلت المقاومة الإسلامية في لبنان إلى تنفيذ الوعد الذي قطعه السيد في 14 تموز، ودخلت المعركة مرحلة ما بعد حيفا بقصف مدينة العفولة (47 كلم عن لبنان) بصاروخ خيبر 1. في اليوم التالي، 29 تموز 2006، وفي تمام الساعة الخامسة بتوقيت بيروت والقدس، كانت الإطلالة المدهشة التاسعة للأمين العام لحزب الله (سيتبعها أربعة خطابات أخرى، بالإضافة لخطاب الانتصار في 22 أيلول/سبتمبر 2006). من سَمِعَ الدقائق الأخيرة من الخطاب جيداً، وفهم بعمق رسالة السيد إلى المقاومين، أدرك ليس فقط أنه يستمع لأحد أعظم قادة حركات التحرر والمقاومة في التاريخ الحديث، بل وعرف بالضبط لماذا سينتصر حزب الله حتماً. فلقد كان يستمع لأكثر النصوص في تاريخ حركات التحرر العربية عبقرية، كان يستمع لنص فذّ يجمع بين توطين جذري وغير مسبوق للمقاومة في بلادنا، واستعراض غير مسبوق للإمكانات الثورية الهائلة للعقيدة والثقافة المحلية الأصيلة.

لم يكن ذلك مفاجئاً، إلا بتفاصيله المذهلة فعلاً وحقاً. فمن تابع مسيرة حزب الله، وخصوصاً مسيرة قائد المقاومة العربية، وتحديداً أداءه المذهل في مرحلة حرب تموز بجدية (2)، وكان، أيضاً، يعرف قليلاً فقط عن معنى الحرب وعن تاريخ حركات التحرر والمقاومة، كان يدرك أن جانباً أساسياً من المعركة في تموز 2006، وجانباً أساسياً من الصراع الكبير مع المشروع الصهيوني منذ البداية، كان يجري، كما ينبغي وكما يجب أن يكون، خارج ميدان المواجهة المباشرة، لا فيه أو عليه فقط، وكان يجري بسلاح لا يمكن الانتصار بدونه في الميدان مهما كان الأداء بطولياً. فبرغم مركزية الميدان ومجرياته من مواجهات ورصاص وصواريخ وقذائف، وغير ذلك من أدوات الحرب التقليدية، إلا أن تكامله مع باقي مجالات الصراع الأخرى كاستراتيجية متكاملة، كان الكفيل فقط بأن يعطي له (للميدان) ولمجرياته الأهمية الفائقة المطلوبة والـتأثير المفترض، وكان الضامن الوحيد، أيضاً، أن تثمر الدماء والتضحيات والبطولات انتصارات حقيقية وإنجازات تاريخية في أهميتها ومفاعيلها – تاريخ المقاومة الفلسطينية مليء بالبطولات المدهشة والأبطال الاستثنائيين حتى مقارنة بحركات التحرر الأخرى، ولم يكن الخلل يوماً وأبداً وسبب النتيجة المأساوية بالوصول إلى أوسلو هو غياب البطولة والجاهزية العالية دائماً للتضحية القصوى. هنا بالضبط كان الدور الفائق الأهمية للقائد الذي لا يمكن إلا أن يكون، بل ويجب أن يكون، بشخصيته، ومواصفاته النفسية والاجتماعية، وأدائه ورؤيته الاستراتيجية، الخلاصة الأنقى والأطهر لتجارب مقاومة إنسانية طويلة، وتاريخ عظيم، وحضارة عريقة، وثقافة استثنائية، وعقيدة ثورية أصيلة. فمن استمع جيداً للخطابات الثلاثة عشر (وخطاب الانتصار بعد ذلك) كان يشهد على أكبر عملية تأسيس إيديولوجي/ نظري/ وفلسفي، كفاحي، سياسي، وتاريخي للمقاومة والتحرر الوطني في التاريخ العربي الحديث، وكان يتابع درساً فذاً في توطين المقاومة أجزم أن شعباً مقاوماً آخر لم يعرفه بهذه الحرفية الثورية سابقاً.

لهذا، كانت، ولا تزال، معضلة، وأحد أسباب هزيمة العدو الأساسية، أنه لم يفهم، ولا يفهم، وبالتأكيد لن يفهم (بحكم موضوعية موقعه) أبداً الجانب الأهم على الإطلاق في الصراع كله. وليس ذلك فقط لأنه كان يتابع الميدان المباشر أساساً، وكانت حساباته وإدارته للمعركة قائمة على امتلاك وفهم وتسخير الجانب التقني للمعركة للحد الأقصى، وتقدير الحسابات أساساً وفق موازين القوى الميدانية والتقنية، معتقداً أن بإمكانه الاعتماد على تفوقه التقني والمادي والدعائي الهائل، والركون أيضاً للدعم الغربي المطلق، ودعم بعض الأطراف العربية والمحلية اللامحدود لحسم المعركة. بل لأنه حتى حين كان خبراؤه وجنرالاته يتابعون أداء السيد ويُدهشون أيضاً، كانوا يقرؤون النصوص مترجمة وخالية من الروح والزخم الهائل الذي يضيفه إليها فهمها في السياق الثقافي والتاريخي والقومي والعقائدي الذي يجعل منها قوة ثورية هائلة تؤثر بشكل حاسم في قيمة ومعنى ما يحصل في الميدان، خصوصاً في ظل الاختلال في موازين القوى المادية وما هي عليه. كانوا ولا يزالون يقرؤون نصوصاً لغوية، لا يمكن فهمها على حقيقتها وبالعمق المفترض لفهمها كنصوص مترجمة، كون ذلك يفقدها كل زخمها وقوتها ومعناها الحقيقي – لا أعرف كيف ترجموا وفهموا عبارات السيد التي لم تشكل رافعة هائلة للأداء الميداني، حتى لا نقول شيئاً عن الروح المعنوية لأمة كاملة، ولكنها أعطت الأداء الميداني معنى في السياق الاستراتيجي للصراع ومكّنته أيضاً من تحقيق نجاح غير مسبوق في سياق الحرب الشاملة الأوسع، بلا تشييء ولا بتر. فيومها، لم يقل السيد فقط: «يا إخواني، أنتم أصالة تاريخ هذه الأمة، وأنتم خلاصة روحها، أنتم حضارتها وثقافتها وقيمها وعشقها وعرفانها، أنتم عنوان رجولتها»، فأدخل كل تاريخنا وحضارتنا وثقافتنا وقيمنا وعقيدتنا ورجولتنا كأسلحة في المعركة فقط (وهي أسلحة لا ولن يمتلكها الكيان بالتأكيد)، وأيضاً أعاد لها جميعاً الاعتبار حين نجحت في الامتحان بعد عقود من الذل والهزائم، بل أتبعها بعبارة أخرى فيها خلاصة كل هذا التاريخ والحضارة والثقافة والقيم والعقيدة والرجولة: «يا إخواني، يا من أعرتم الله جماجمكم، ونظرتم إلى أقصى القوم،...». هل كان العدو يعرف المقدار الهائل للتاريخ والحضارة والثقافة والعقيدة والقيم والرجولة والبطولة والتجربة العريقة الذي تختزنه هذه العبارة وكلماتها التسع؟ هل كانوا يدركون جذورها وأصولها وسياقها؟ هل كانوا يعرفون كيف فهمها وفهم تبعاتها ومفاعيلها من كان يفهم ويدرس وينظر إلى الحرب بمعناها الشامل والكلي تاريخياً، وحتى فلسفياً، ويعرف أيضاً شيئاً عن تاريخنا وحضارتنا وثقافتنا، وليس فقط بالتركيز على أبعاد الحرب التقنية، خصوصاً في سياق حرب تموز؟ والأهم من كل ذلك، ومن كل شيء، وقبل كل شيء، هل كانوا يعرفون كيف فهمها فعلاً كل مقاوم على الأرض وفي الميدان، ومدى الذخيرة المعنوية والروحية التي سلّحته بها، وأيضاً وقعها الهائل عليهم وعلى أدائهم الميداني، حتى لا نقول شيئاً عن تأثيرها الهائل على الأمّة الممتدة من المحيط إلى الخليج، وما بعد إلى كل العالم الإسلامي، التي أعادت كلمات السيد الروح لها أفراداً وجماعات؟ لم يدركوا حينها أن هناك أسلحة أساسية في المعركة لا تنتجها ولا يمكن أن تنتجها أحدث المصانع العسكرية وأكثرها إمكانات، وأن هناك أسلحة لا يمكن لكل تكنولوجيا الأرض أن تنتجها، أو حتى تفهمها وتفك رموزها؟ ولم يعرفوا أن مثل تلك الأسلحة لا يمكن لك أن

تشتريها مهما كانت إمكاناتك المادية والتقنية؟

والأهم من كل ما سبق، هل عرفوا أن هذا السلاح بالذات، وفي حروب ذات طابع وجودي وشامل وتاريخي من هذا النوع، هو ما يحسم وسيحسم المعركة حتماً معهم في النهاية؟ لم يعرفوا، ولن يعرفوا، ومن مكانهم كانوا وسيظلون كمن «خَتَمَ اللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ وَعَلَىٰ أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ». أمّا المقاومون في الميدان، وخلفهم العرب والمسلمون في كل مكان، فكانوا يستمعون للسيد، فيسمعون صوت الإمام علي بن أبي طالب، وهو من هو في التاريخ العربي والإسلامي، وليس فقط أكثر العرب والمسلمين بلاغة وورعاً وتقوى وحكمة وشجاعة وطهارة. كانوا يستمعون للسيد، فيسمعون بالذات صوت الإمام علي بن أبي طالب صاحب ذي الفقار وداحي باب خيبر، ولم تكن أمتنا في أي يوم في حاجة إلى صوت الإمام علي أكثر من أيام تموز. هكذا، تعلّمنا يومها وتعلّم العالم من السيد، كيف تُقاد حروب التحرير الوطنية.

يوم كسر السيد قيد الزند الأسمر

حتى الساعة التاسعة صباحاً، كان يوم الأربعاء، 12 تموز 2006، يبدو مجرد يوم آخر في تاريخ لبنان والمقاومة والمنطقة. لكن بعدها بخمس دقائق سيتحول 12 تموز إلى يوم تاريخي لم يغير مسار المنطقة وتاريخها فقط، ولكن مفاعيله لا تزال، وستبقى، تؤثر في مسارات المنطقة المستقبلية وتشكّلها ربما أكثر من أي حدث آخر منذ عام 2006. فبعد التاسعة بدقائق، وقعت القوة الصهيونية التي تحركت بعربتي هامر مدرعتين بالقرب من منطقة خلة وردة على أطراف بلدة عيتا الشعب في مرمى نيران المقاومة. كانت بصمات الشهيد عماد مغنية وأسلوبه الفريد، كما سيعرف العالم لاحقاً، واضحة جداً – «أطلق مدفع غير مرتد قذيفة مباشرة باتجاه الهامر الخلفي من الدورية. وفي الموازاة، أُطلقت نيران الرشاشات والوسائل القتالية المتوسطة باتجاه الآليتين». ورغم أنه «لم يكن للجنود الثلاثة في "الهامر" الخلفي أي أمل» فلقد «قُتل اثنان في الآلية نفسها، فيما قُتل الثالث بنيران الرشاشات لدى محاولته الفرار من الموقع». لكن يبدو أن الحاج رضوان كان معنياً أكثر في الخيارات الأصعب التي وجد من في العربة الأولى نفسه فيها – لا تستطيع العودة إلى الخلف حيث العربة الخلفية مشتعلة، وتعرف أن هناك من ينتظرها في الأمام. هذا يذكّر بمشهد آخر تكرّر في وادي الحجير في مجزرة الدبابات بعدها بأيام حين حوصر رتل الدبابات بين بناء مهدم في الأمام وطريق خلفي نسفته عبوة ناسفة بعد مرور الدبابات قبلها بقليل، فلم يكن بوسع من وقع في الفخ ممن كانوا في «عربات الرب» سوى الصلاة لربهم. في النهاية، «أُطلقت على "الهامر" الأمامية قذيفتان صاروخيتان من مسافة أربعين متراً، فتدهورت قرابة عشرين متراً إلى أن توقفت بجانب الطريق» (3).

وحين أرسل الجيش الصهيوني قوة للرد السريع بقيادة واحدة من الدبابات الأكثر تطوراً في العالم، وقعت «الميركافا» في كمين محكم نصبه مقاتلو حزب الله، حيث قاموا بتفجير الدبابة الأولى للقوة بعبوة ناسفة تزن مئات الأرطال. طاقم الدبابة المكوّن من أربعة أشخاص قُتل كله على الفور بالإضافة إلى أحد المشاة الذي قُتل من قبل أحد قناصة المقاومة (ليرتفع عدد القتلى إلى ثمانية، وهذا لا يشمل الأسيرين). أمّا الدبابة الأكثر تطوراً في العالم، فلقد طارت في الهواء بفعل الانفجار مرتفعة أكثر من عشر أقدام في الهواء. عبقرية من خطّط لهذا المشهد، لسحق روح من بقي حياً منهم وهو يشاهد الدبابة الأكثر وزناً في العالم، ذات الستين طناً من الفولاذ والنيكل والسيراميك، تطير في الهواء، لم يكن لها نِدٌّ في الطرف الآخر (4).

رغم كل ذلك، ورغم كون هذا الحدث المدهش جداً بحد ذاته مجرد مقدّمة لحرب كبيرة أعادت تشكيل ذاتيتنا ووعينا بأنفسنا وبالعدو وأعادت لنا الاعتبار بأنفسنا وبحضارتنا وثقافتنا وعقيدتنا وقيمنا وإسلامنا ومسيحيتنا، كما أعادت تشكيل ذاتية العدو ووعيه بذاته وبنا. ورغم أن مفاعيلها لا تزال حتى اليوم وستظل طويلاً تتصاعد وتتفاعل وتعيد إنتاج معنى تلك الحرب وأحداثها، من خندقنا ومن خندقهم، ومن مكاننا ومن مكانهم مع كل مرور للزمن، وتتكشّف عن عبقرية استراتيجية وعسكرية وأمنية وسياسية (قادت، حرفياً، وباعتراف البنتاغون، لتغيير خطط عسكرية أميركية استراتيجية وإعادة النظر فيها، وحتى التشكيك في عقيدة عسكرية تمّ تبنيها في أعقاب حرب العراق. كان اسمها حرفياً «العقيدة العسكرية الجديدة» فأصبحت تسمى «العقيدة العسكرية الجديدة القديمة»). رغم كل ذلك، وأكثر، إلا أن إطلالة السيد بعد الحدث مباشرة وتوجيه الرسائل إلى حكومتهم المجتمعة لتأخذ قرار الحرب، أشارت إلى طريقة تفكير جديدة تحتاج إليها حركات التحرر والمقاومة للانتصار – كان عليهم أن يستمعوا له جيداً، لكنهم، وبغرور المستعمِر المعتاد، لم يفهموا وأصروا على عدم الفهم، فكان عليهم أن يدفعوا الثمن الذي لا يزال يتراكم حتى اليوم. فالحرب يجب أن تُفهم وتُدرس ويُنظر إليها بشكل شامل ومتكامل يكشف عن تكامل وترابط وتناغم أداء كل أفرع وأدوات وجبهات المقاومة، والإمساك بها عند القائد المايسترو ورؤيته الاستراتيجية والبعيدة المدى. مع الحدث الأول، وبعده مباشرة، بدأ العالم يتابع أداء غير مسبوق لقائد عربي غير مسبوق. أطل السيد في المؤتمر الصحافي ليعلن شروط المقاومة: «تفاوض غير مباشر وتبادل». وفي الدقيقة الأولى من مداخلته، شكر السيد المقاومين، ثم وضع معنى العملية (والحرب كلها لاحقاً) في سياق لم نعتد عليه ولم يعتد عليه العدو وبلغة ومفردات توقف عندها كل دارس ومهتم بتاريخ حركات التحرر: «ببركة هذه الجباه المرفوعة وهذه الزنود السمراء، سوف تبقى جباهنا جميعاً مرفوعة ولن يبقى قيد في زند أسمر» (5).

لم يرغب السيد فقط، كما يبدو، أن يقول لهم وللعالم إننا عرب، وإننا مسلمون ومسيحيون فقط، وننتمي إلى هذا الخندق العريق جداً بحضارته الضاربة عميقاً في التاريخ، وثقافته العظيمة التي ترفض الخضوع والذل (بل وتفضّل الموت على الذل)، كما ترفض الإخضاع والإذلال للآخرين، وقيمه الإنسانية النبيلة التي تساوي بين كل البشر وتراهم إخوة وأخوات لنا، وعقيدته الثورية المحلية الأصيلة التي لا مكان فيها ولا قابلية للاستعمار الثقافي والدونية، برغم الثقل الكفاحي والمعنوي الهائل لكل ذلك. بل تسمع السيد ينحاز في خطابه وبوضوح إلى معسكر كل المضطهَدين والمستضعَفين في العالم، ليضيف إلى زخم المقاومة تقليداً ثورياً عريقاً آخر عمره أكثر من قرن من الزمان، فأضحى صوت السيد عالياً وقوياً ومقتدراً في عام 2006 وما بعد. ففي هذه العبارة لا نسمع فقط صوت وخطاب كل أقطاب وأبطال «موجة الملوّنين» الذين تنبأ مالكولم إكس بأنها «ستهز العالم». بل، تسمع السيد فيتراءى لك مباشرة صوت المناضل العظيم باتريس لومومبا يقرأ خطاب استقلال الكونغو وإعلان الانتصار على الاستعمار البلجيكي ويدعو لوحدة أفريقيا (6). تسمع السيد فتستعيد كلمات الشاعر والمناضل الفذ ليون جونتران داماس، الملهم الأساسي لكل أعمال الثائر العبقري فرانز فانون، فتعرف ما قصده حقاً للمرة الأولى بأن «الجمال أسود/والتحمل أسود/ والشجاعة سوداء/ والصبر أسود/والحديد أسود» (7). تسمع السيد، فلا تسمع فقط صوت وخطاب أحد أوائل فلاسفة وملهمي حركات التحرر في الجنوب، ايميه سيزير، ولا تتذكّر سؤاله الكبير: «من نحن في هذا العالم الأبيض؟» فقط، بل وتسمع بالفعل وفي الميدان، لا كتابة فقط، جواباً حاسماً من السيد على سؤال عمره قرن من الزمان (من نحن في هذا العالم الأبيض؟) لا يزال يؤرّق عقل وقلب كل ملوّن وأسمر في هذا العالم الأبيض.

وكأنّ ذلك، أيضاً، مدهشاً بحد ذاته كما كان، لم يكن كافياً، أطل السيد مرة ثانية في 14 تموز، فأُخِذْنا ودُهِشْنا كما أُخِذ العالم ودُهش بعبارة «انظروا إليها تحترق». لكن السيد لم يترك لمفعول الصاروخ الذي أحرق بارجتهم أن يظل محصوراً في تلك البقعة من البحر، بل وظّفه بشكل مدهش كما يمكن فقط لقائد مثله أن يفعل. أعادنا مرة أخرى إلى معنى الحرب للعرب والمسلمين، لا ليطلب الدعم والإسناد منهم، بل ليَدعمهم ويُسندهم هو ومن يخوض الحرب معه بإعادة الاعتبار للعرب بأنفسهم وثقافتهم وحضارتهم وقيمهم، وأيضاً ليوحّد الأمة بطريقة لم نكن حتى لنحلم أنها ممكنة حينها – كان العرب المقهورون لقرون، وللمرة الأولى، يشاهدون بفخر ودهشة بعض أبنائهم، رجالاً من لحمهم ودمهم، يسحقون ألوية نخبة العدو وحتى إنهم يهينونها في الميدان، يدمرون دباباتهم الأكثر تصفيحاً في العالم بالعشرات في وادي الحجير، يحرقون بوارجهم في عرض البحر، يعلنون متى ستقصف حيفا، ولاحقاً تل أبيب، بتوقيت المقاومة وشروطها. هكذا بدأنا نسمع كل كلمة من معجمنا وكأننا فعلاً نسمعها للمرة الأولى، وبدت لنا كل كلمة نسمعها على لسان السيد وكأنها تعني شيئاً آخر غير الذي اعتدنا عليه: «أنتم لا تعرفون اليوم من تقاتلون. أنتم تقاتلون أبناء محمد وعلي والحسن والحسين وأهل بيت رسول الله وصحابة رسول الله. أنتم تقاتلون قوماً يملكون إيماناً لا يملكه أحد على وجه الكرة الأرضية، وأنتم اخترتم الحرب المفتوحة مع قوم يعتزون بتاريخهم وحضارتهم وثقافتهم، وأيضاً يملكون القدرة المادية والإمكانات، والخبرة، والعقل، والهدوء، والحلم، والعزم، والثبات، والشجاعة، والأيام المقبلة بيننا وبينكم إن شاء اللَّه». هكذا أصبح للصاروخ الذي دمّر البارجة مفعول استراتيجي هائل، أبعد من البارجة بكثير، وحتى انتقل بتأثيره أبعد كثيراً من تلك البقعة في البحر المتوسط مقابل بيروت ليعيد وصل المحيط بالخليج.

هكذا أدرك الكثير من العرب حينها (وسيدرك الباقي لا محالة مستقبلاً) القيمة الكبرى لما كان يحصل في ميادين بنت جبيل وعيتا الشعب ووادي الحجير، والقيمة الهائلة للصواريخ المتواضعة مقارنة بمخزون العدو من السلاح الغربي، حين تتسلّح بعوامل القوة الكبرى الأخرى التي لا يمتلكها ولا يمكن أن يمتلكها العدو. فلقد بدأنا نتعلم وندرك ونحن نتابع إدارة السيد للحرب أن من يتواجه في الميدان حينها ليس مجرد «جنود» الكيان المسلحين حتى الأسنان بأحدث الأسلحة وأكثرها كلفة في مقابل مقاومين متواضعي التسليح. بل إن الذي يواجه في الميدان حقاً هو حضارتنا العريقة وثقافتنا الأصيلة وقيمنا العظيمة وعقيدتنا الثورية وتاريخنا الطويل متمثلاً بهؤلاء المقاومين الشجعان وقائدهم الفذّ وبيئتهم العظيمة التي حملت على أكتافها عبء الشروع في مسار جديد لتحرير الأمّة وقدّمت ثمن ذلك من دماء أبنائها وبناتها، مع من لا تاريخ ولا ثقافة ولا قيم له، حتى لا نقول شيئاً عن انحطاط الحضارة التي ينتسب إليها. هذا هو منطق المقاومة وعقلانيتها التاريخية وقانونها وسبب انتصارها – عليك فقط أن تعيد مشاهدة البطل عدي التميمي، أحد أفضل الفلسطينيين على الإطلاق، لترى النسخة الفلسطينية من دروس السيد. فعدي ترجّل بكل ثقة من السيارة على حاجز مخيم شعفاط وواجه وحده وبمسدس يتيم عشرات الجنود المسلحين حتى الأسنان بالعتاد والآليات. هكذا بدأنا نعرف أن هؤلاء الشباب لا تلدهم النساء فقط. كان عدي حينها استمراراً لهذا المسار والتعبير الأصدق عنه، كما كان خلاصة تاريخ وثقافة وحضارة وقِيم وتجربة لا يمكن لها إلا أن تنتصر، خصوصاً مع عدو من هذا النوع.

خاتمة: لماذا انتصر حزب الله؟

كان سعيد، ومن التقى السيد من الأكاديميين العرب، يعرفون أنهم لن يجدوا جواباً شافياً في كل الأدبيات العسكرية، ولا في كل نظريات الحروب وعلومها على هذا السؤال. فهذا سؤال لا تذهب من أجل الإجابة عليه إلى مكتبة الجامعة. فبحسب مقاييس كل تلك الأدبيات وكل تلك النظريات، والتي هي غربيّة وحديثة بالإجمال، كان السيد ورفاقه أمام مهمة مستحيلة، وحتى غير مسبوقة أو مجرّبة على الإطلاق. فبعكس القائد العظيم للمقاومة الفييتنامية هوشي منه وجيشه الشعبي، لم يكن على حزب الله، الحزب الصغير والوليد في عام 1982، ولا قائده العشريني حينها، طرد الأميركيين، أو الفرنسيين، أو «الإسرائيليين» فرادى، كما حصل في فييتنام. كان عليهم هزيمتهم جميعاً، ومجتمعين، وفي وقت واحد. لم يكن سبب الانتصار، إذاً، تقنياً أو فنياً أو مادياً، ولا يمكن أن يكون. فلقد كان لدى الكيان وقادته كل أسباب الانتصار الفنية والتقنية والمادية. لكنهم هُزموا مرتين، وسيُهزمون حتماً في المستقبل، برغم كل ذلك.
لماذا انتصر حزب الله إذاً؟ في «روضة الشهيدين»، في الضاحية الجنوبية لبيروت، وفي مساحة أقل من مترين مربعين يقبع أحد أسرار الانتصار. فما بين ضريح الشهيد مصطفى بدر الدين («ذو الفقار»، وهذا بطل كبير آخر يصعب إيفاؤه حقه أيضاً بالكتابة)، والشهيد هادي حسن نصرالله، يقبع في قبر واحد جسدا الشهيدين عماد مغنية وولده جهاد. ولو عرفت قليلاً جداً فقط عن الطريق من حزيران 1982 إلى أيار 2000، ثم تموز 2006، فستقف مشدوهاً أمام كل ضريح في الروضة. فهناك سترى، وستسمع، وستتنفّس الكرامة الحقيقية، وهناك ستزداد معرفة وإدراكاً بالمعنى الحقيقي للسعادة، المعنى الحقيقي للعيش، والمعنى الحقيقي للحياة، المعنى الحقيقي للوطن، والمعنى الحقيقي للعشق، وستعرف أنها أبعد بكثير وأكبر بكثير من مجرد ثمن مادي بخس وتافه كما يعتقد من يحصّله مقابل بيع روحه وأهله وبلده للسفارات والأجنبي والمستعرب. هذه حقاً أشياء لا تُشترى. فهؤلاء الأبطال عرفوا بالتجربة والمعرفة اللتين راكموهما في الخنادق، أن السعادة الحقيقية هي في المقاومة، وأن الحياة الحقيقية هي في المقاومة، وأن الحب الحقيقي هو في المقاومة – ستدهشك، من ضمن أشياء كثيرة مدهشة هناك، رسالة طفل إلى والده الشهيد تركها على قبره يخبره فيها عن أدائه في المدرسة. ستجد أيضاً قصة ودرساً وعبرة في وعلى كل ضريح، من ضريح ابن الأمين العام إلى ضريح الشهيد سمير قنطار في القسم الآخر من الروضة. ولو أغلقت عينيك قليلاً هناك، في الروضة، وأطلقت العنان لحواسك وكنت راغباً فعلاً في فهم معاني وعبر ودروس هذا المكان ومن يقبع فيه، فأعدك أنك ستسمع صوت شهداء المقاومة، يردّدون خلف سيد المقاومة، يردّد خلف الإمام علي:
ad

«اللهم إنك تعلم أنه لم يكن الذي كان منا منافسةً في سلطان، ولا ابتغاءً لشيء من الحطام، وإنما كان إحياءً للحق وإماتةً للباطل ودفاعاً عن مظلومي عبادك وإقامةً للعدل في أرضك وطلباً لرضاك والقرب منك، على هذا قضى شهداؤنا، وعلى هذا نمضي ونواصل العمل والجهاد، وقد وعدتنا يا ربّ إحدى الحسنيين: إما النصر أو التشرف بلقائك مخضّبين بدمائنا» (8).

** يتبع... حرب التحرير الوطنية: أفضل الفلسطينيين [3]

* كاتب عربي

هوامش:
(1) al-akhbar.com/Politics/307897
(2) أحمد حسن. «أربعون حزب الله: الأفضل لم يأت بعد». «الميادين نت». 27 أيلول 2022
(3) al-akhbar.com/Politics/254006
(4) moqawama.org/essaydetails.php?eid=28358&cid=324
(5) video.moqawama.org/details.php?cid=1&linkid=1724
المصدر: صحيفة الأخبار ـ الأربعاء 12 تموز 2023

إقرأ المزيد في: مقالات مختارة