معركة أولي البأس

مقالات مختارة

حليف الصمت وخازن الأسرار.. الحاج صالح: ظلّ رضوان وذو الفقار
06/03/2023

حليف الصمت وخازن الأسرار.. الحاج صالح: ظلّ رضوان وذو الفقار

صحيفة الأخبار - عباس فنيش

 

منذ نشأته، دأب حزب الله على تطوير هيكله ومأسسة وحداته وأقسامه. إلا أن طبيعة علاقة الحاج صالح بالحاج عماد مغنية وارتباطه بملفاته الحساسة المتعددة وصفاته الذاتية، جعلته استثناءً وأسكنته وسط دائرة فيها الأمين العام لحزب الله والحاج رضوان والسيّد ذو الفقار وأقسام واسعة من جسم عسكري أمني يمتدّ بامتداد محور المقاومة من طهران إلى غزة!

«الحاج صالح قلبي وعيوني، وإذا ما توفّي شهيداً فهو قائد للشهداء»، بهذه الكلمات واسى الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله زوجة القائد الجهادي أسد صغير (الحاج صالح) قبل أيام من وفاته، عندما اتّصل لمتابعة وضعه الصحي. جملة كانت كافية لتزيد من صدمة العائلة والمحيط بهوية صالح وموقعه وأدواره داخل حزب الله، بعدما طال صمته أكثر من أربعين سنة وشمل حقيقة مرضه. ولولا أن الموت جلس في حضنه في أيامه الأخيرة ما كان ليقبل بأن تأتي إليه العائلة للوداع.

عند وفاته ونعيه وخروج قريته الخرايب للتشييع، كان الهمس بين أبناء البلدة يبحث عن إجابة لسؤال واحد: «مين الحاج أسد اللي جاي كل الحزب على تشييعو؟».

مع الحاج عماد
في مسجد زين العابدين في الغبيري، في الضاحية الجنوبية، كانت بدايات أسد (مواليد 1968)، مع بروز الحالة الإسلامية بعد انتصار الثورة الإسلامية في إيران وتأثّراً بحركة الإمام موسى الصدر في لبنان. هناك كانت بداية اللقاء بعدد من الشباب، يتقدّمهم الحاج عماد مغنية (الحاج رضوان) والسيد مصطفى بدر الدين (ذو الفقار). رغم صغر سنّه، برزت لديه صفات لعل أكثرها جذباً للحاج عماد كانت دقّته والتفاته إلى التفاصيل، ما دفع الأخير الى تكليفه بمهمة عملية تحتاج الى «اختراق ونفوذ». الفتى الذي كان في الخامسة عشرة نفّذ ما طُلب منه بإتقان.

بعد التحرير، عام 2000، طلب أحد مرافقي الحاج رضوان، بشكل مفاجئ، من صالح التوجه الى دمشق لموافاة مغنية الذي لم يكن في العاصمة السورية. هناك، تلقّى صالح اتصالاً آخر يطلب منه أن يستقلّ طائرة الى طهران، حيث كان الحاج قاسم سليماني في انتظاره. من دون تمهيد أو تحضير، كان عليه أن يجيب عن أسئلة المعني بالإجابة عنها بشكل مباشر شخص واحد هو: عماد مغنية. عاد صالح الى بيروت، وقصد مغنية مباشرة، وقبل أن يسأله: لماذا فعلت بي ذلك، عاجله رضوان بضحكات عالية!

هذه الحادثة تلخّص العلاقة الخاصة بين الرجلين، والتي بدأت تُنسج في الظلّ عملياً في فترة الثمانينيات. آنذاك، بدأ صالح يكتسب صفات الرجل الأمني الرفيع الطراز، واعتمده مغنية أساسياً في فريقه، فعمل على رفع كفاءته الى جانب انصرافه لتحصيل شهادة جامعية (دراسات في الإلكترونيك ولاحقاً في الموارد البشرية).
مع تولي مغنية مسؤولية الأمن في حزب الله، مطلع التسعينيات، أخذ دور صالح بالتبلور أكثر. أصبح المعاون الأساسي للحاج رضوان، وظلّه، وثقته، وخازن أسراره. وقد أشركه مغنية في كل تفصيل، من المهمات السرية الى المتابعات والتحقيقات وإعداد الدراسات. وعندما تولّى مسؤولية المعاون الجهادي للأمين العام لحزب الله، كان صالح صلب هذه المعاونيّة، وبرع في إتمام هيكلياتها كما فعل في هيكلية المعاونيّة الأمنية، ما أكسبه معرفة ضخمة بقيت كلها في خدمة المقاومة وحبيسة عقله وصدره، ولم يخرج منها شيء على لسانه حتى الى أقرب المقربين.
بعد التحرير، حمل رضوان المقاومة الى مستويات وتحديات أكبر. بدأ العمل الفعلي على مشروع إزالة إسرائيل من الوجود، وانفجرت انتفاضة الأقصى بعد تدنيس أرييل شارون للمسجد الأقصى.
في الملفّين، كانت للحاج صالح الريادة ونال ثقة الحاج رضوان. وعندما تشكلت لجنة لمتابعة ملف «الإزالة من الوجود»، كان يتابع كل تفصيل فيها، من المراحل الى الأهداف والضوابط والسياسات، كما كان في كثير من الأحيان ينوب عن مغنية في الرأي والتقدير.

حليف الصمت وخازن الأسرار.. الحاج صالح: ظلّ رضوان وذو الفقار

الانتفاضة وفلسطين
علاقة صالح بالمقاومة في فلسطين وفصائلها قديمة من عمر علاقة مغنية بها. في كل الجلسات التي عقدها الحاج رضوان مع كل فصائل المقاومة الفلسطينية، تكررت الجملة نفسها: «بخدمتكن. بيتابع معكن الحاج صالح... بينسّقها صالح».
تعرّف إلى كل قادة فصائل المقاومة الفلسطينية وأصبح الرابط بينهم وبين الحاج رضوان، من الدكتور فتحي الشقاقي الى الدكتور رمضان شلح، مروراً بالكادر القيادي الجهادي لحركتَي حماس والجهاد الإسلامي. كما ربطته علاقات مع بعض كوادر فتح اللصيقين بالزعيم ياسر عرفات، وهذا كان من إرث الشهيد علي خضر ديب (أبو حسن سلامة) الذي ظل صالح يذكره بحبّ وشوق حتى آخر أيام حياته.

مع اندلاع الانتفاضة واتخاذ القرار بنقل الشرارة من قبل حزب الله، حضر صالح في الميدان. شكّل الحاج رضوان فريقاً تمثّل فيه بصالح الذي أصبح التواصل المباشر في بيروت ودمشق يتمّ عبره، من دون تمييز بين فصيل وآخر، فحضر في كل الأعمال من رسم المسار الى الاستراتيجيات والجلسات القيادية الى نقل التجربة وإيصال السلاح. وهذا كله كان له أثر مباشر في تفعيل الانتفاضة.
مع تحرير غزة عام 2005، انطلقت ورشة شاملة بين حزب الله والفصائل الفلسطينية لنقل التجربة. وكان الحاج صالح حاضراً في كل النقاشات، وعمل بشكل تفصيلي على الهيكلة والبناء، وساهم في توسيع العمل الأمني لدى تلك الفصائل. وقد برزت النتائج في كثير من المحطات لاحقاً.

العراق من الغزو إلى داعش
عام 2003، مع سقوط بغداد تحت الاحتلال الأميركي، تحرّك حزب الله لمساعدة العراقيين في مقاومة الاحتلال الأميركي، ووضع كادره بتصرف الأحزاب والفصائل التي أرادت المقاومة. أوفد مغنية الحاج صالح على رأس فريق، فكان المشرف والموجّه، ونسج علاقات مع الفصائل العراقية وتمكّن من بناء الثقة معها وبدأ العمل على الهيكلة والمأسسة، وهو أمر كان في غاية الصعوبة في دولة منهارة تماماً، ولم يختبر أبناؤها التجربة العسكرية على غرار الفلسطينيين واللبنانيين.
عام 2004، بدأت النتائج في الظهور مع تصاعد العمليات وانطلاق عدّاد قتلى الجيش الأميركي. أما الإنجاز الأبرز فكان قدرته على تطوير العمل الأمني لدى فصائل حديثة البروز، وتجلّى ذلك في تحقيق اختراق داخل جيش الاحتلال الأميركي وقواعده العسكرية. وخلال فترة قياسية، باتت لدى فصائل المقاومة عشرات المصادر التي تزوّدها بالمعلومات.

في تلك السنوات، توسّعت نار الإرهاب في العراق، وعاشت المنطقة تهديدات القاعدة ومشتقّاتها، فكان لوجود الحاج صالح وفريقه في العراق أثر كبير في فهم طبيعة عمل تلك الخلايا وإتمام إجراءات وقائية ساهمت في تجنيب لبنان وجواره أحداثاً إرهابية لم يحن الوقت بعد لكشف كل ملابساتها.
بعد سنوات، ومع سقوط الموصل عام 2014، أطلّ الإرهاب التكفيري برأسه متمدّداً نحو بغداد وكربلاء والنجف. في الاتصال الذي أجراه الأمين العام لحزب الله بمصطفى بدر الدين لتجهيز فريق للسفر الى العراق خلال ساعات، كان الحاج صالح هو المنسّق والمتابع لكل الإجراءات بين الضاحية ودمشق وبغداد وطهران، وكان الى جانب قاسم سليماني والفريق للوقوف على احتياجات الحشد الشعبي والفرق التي تشكلت لمواجهة خطر الإرهاب.
حليف الصمت وخازن الأسرار.. الحاج صالح: ظلّ رضوان وذو الفقار
من رضوان إلى ذو الفقار
في جلسة ربيعية في دمشق، التفت السيد ذو الفقار الى أحد الجالسين، وقال له: «بس موت بتكتب ع قبري إنو هيدا الزلمي هو أكتر واحد حبّيتو بالحزب!». كان الحاج صالح قد انصرف مغادراً الى مهامه بعد نقاش طويل وحادّ بينه وبين بدر الدين.
مع استشهاد عماد مغنية عام 2008، أُلقي بقسم كبير من مهامه ومسؤولياته على بدر الدين. صالح هو من سيضمن الاستمرارية في عمل الملفات. معرفته الواسعة، دقّته وموهبته، فضلاً عن كونه مستودع أسرار الحاج رضوان وثقته، أمّنت له هذا الدور.

كانت تلك أيام نهوض وتوسيع في ظلّ نتائج حرب تموز 2006. واحد من الملفات التي وضعت على الطاولة كان الاختراق الإسرائيلي للساحة اللبنانية. بين 2008 و2010 انهارت شبكات التجسس على يدَي ذو الفقار وفريقه، وفي مقدمه الحاج صالح. ومع أن المقاومة لا تزال إلى اليوم تتحفّظ عن عرض تفاصيل هذا الإنجاز، إلا أن حجمه برز لاحقاً من خلال إجراءات العدو بعد افتضاح هذه الشبكات.


سريعاً، اكتسب صالح ثقة ذو الفقار، فأشركه في كل تفصيل، وتحوّل قائماً بأعمال معاونيّته. كان هذا واضحاً جداً مع الحرب التي شنّت على سوريا منذ عام 2011.

الأمن في سوريا
لم تكن الحرب السورية أول عهد صالح بالعمل في سوريا، إذ كان قد خبر هذا الملف لسنوات طويلة أثناء متابعته ملفات الحاج رضوان. عام 2007، نسج علاقات تنسيق وتعاون واسعة مع الأجهزة الأمنية المتعددة في سوريا، وكان العمل بأبعاد وقائية وردعية واستباقية.
مع الهجمة الشرسة عام 2011، تفعّل التنسيق والتعاون الأمني بين حزب الله والدولة السورية. ورغم الضخّ المالي والبشري للتنظيمات الإرهابية حقّق هذا التعاون نتائج ممتازة. البداية كانت من تأمين محيط مقام السيدة زينب في دمشق. ومع توسع النار خارج الحدود، وصولاً الى التفجيرات في الضاحية الجنوبية، حضر الحاج صالح في كل تفاصيل العمل الأمني، من الاختراق الى النفوذ، وصولاً الى التفكيك، والذي كانت ثمرته معركة القلمون الأولى حيث فُكّكت مصانع التفخيخ في يبرود ورنكوس وغيرهما، ما أمّن الداخل اللبناني بشكل كبير وأنهى خطر التفجيرات.
مع الارهاب التكفيري، حضر صالح أيضاً مفاوضاً على الأسرى وأجساد الشهداء الى جانب ذو الفقار أو نيابة عنه.
أما أكثر الملفات حساسية فيبقى ملف عملاء العدو الإسرائيلي على الساحة السورية، وهو ملف «الإنجازات الصامتة»، وثمرة التعاون بين صالح وفريقه والأجهزة الأمنية السورية.

حليف الصمت وخازن الأسرار.. الحاج صالح: ظلّ رضوان وذو الفقار
علاقة خاصة مع الأمين العام
لم تكن ثقة رضوان بصالح السبب الوحيد للعلاقة بين الأخير والأمين العام لحزب الله. حظي صالح أيضاً بثقة السيد نصر الله بشكل منفصل. وحتى خلال عمله مع مغنية وبدر الدين، كان الأمين العام يضع بين يديه عدداً من الملفات والمهام. وعلى امتداد سنوات عمله، كان الخط مفتوحاً بينه وبين الأمين العام، وكانت الجلسات تطول بينهما حتى آخر أيام مرضه، إذ التقاه السيد مرات عدة. صالح، بنظر السيد نصر الله، كان استراتيجياً ورؤيوياً وولّاداً للأفكار و«سابقاً للعدوّ بخطوة»، وليس مجرد امتداد يضمن عدم الانقطاع بين مسارات تنظيمية.
هذا الرابط كان أيضاً موضع اهتمام سليماني. في إحدى المرات، طلب الأخير من الحاج صالح مرافقته الى طهران، وأخبره أنهما في طريقهما للقاء المرشد الأعلى السيد علي الخامنئي. ظن بأنّ ذلك سيكون لقاءً لنيل البركة من المرشد، لكنّه وجد نفسه في جلسة خاصة نوقشت فيها مواضيع استراتيجية عالية المستوى!

الإعلام والإعلام الحربي
أوكل ذو الفقار الى صالح متابعة شؤون الإعلام الحربي في المقاومة، فكان يوجّه ويشرف ويدقّق، وكان من الأجهزة الأساسية التي طلبها الى سوريا منذ البداية، وعمل على تطوير البنية التحتية وتأمين ما يلزم لمواكبة المعركة في ظل هجمة إعلامية شرسة. وكانت لصالح أيضاً ميزة الإشراف على المضامين العسكرية والأمنية لعدد من المسلسلات والأعمال. رغم مهامه وانشغالاته، كان يقرأ النصوص ويتابع دقة المعلومات الواردة فيها، كما كان دائم الحرص على حضور افتتاح أفلام سينمائية أو محافل أدبية وفنية وتراثية للمقاومة كالتي تقيمها جمعية رسالات أو غيرها!


صمت وسرّ وصبر
أمران يؤكدهما من عرفوه: لا يمكن أن تخرج من فمه جملة تطول أكثر من ثوان قليلة، ولا إمكانية لسماع صوته خلال مكالمة هاتفية. شديد الكتمان الذي لازمه حتى في زواجه وحياته الشخصية. فهو تقدّم لخطبة زوجته على أساس أنه أستاذ في جمعية التعليم الديني الإسلامي. ومع كثرة انشغالاته، اضطرّ إلى إبلاغها أنه «في حزب الله»... هكذا فقط، من دون الخوض في تفاصيل عمله. فيما كبر أولاده وهم يعتقدون بأن والدهم يعمل «خلف الشاشة» في قناة «المنار»! مع بداية الحرب في سوريا وحماوة المعارك، سأله ابنه باستغراب: «لماذا تبقى في العمل الإعلامي والديني ولا تذهب للعمل في سوريا؟».

مع تولّي مغنية مسؤولية الأمن في حزب الله أشركه في كلّ تفصيل من المهمّات السريّة

توفّي والده في ذروة انشغاله في الأحداث في سوريا. حضر ذو الفقار لتعزيته على رأس وفد كبير من الشخصيات القيادية والوزراء والنواب. أصابه ذلك بإرباك شديد، فضلاً عن دهشة العائلة والمحيط، ولدى سؤاله عن سرّ هذا الاهتمام، أجاب أن «الحزب يحب أن يكرّم العاملين لديه».
منذ بداية عمله حتى وفاته، لم يحضر أيّاً من الأعياد مع عائلته. في كل المناسبات، كان يجول على فريقه في جغرافيا مترامية بين دمشق وتدمر والبادية وحلب والساحل السوري وغيرها، ويتابع تفاصيلهم الى جانب تفاصيل عوائل الشهداء والجرحى الذين سقطوا معه، واستمرّ في ذلك حتى آخر أيامه. قبيل وفاته، تفقّد أحوالهم جميعاً!
لم تنل عائلته أي حظوة مالية أو اجتماعية رغم المقدّرات الواسعة التي وضعت بين يديه طوال 30 عاماً. في أيامه الأخيرة، وقبل أن يفقد قدرته على الكلام، طلب منه أحد العاملين المقرّبين منه أن يوصي لينفذوا وصيته. فكّر قليلاً، وأجاب: «عم حاول أتذكّر، أنا ما عندي شي ملك حتى وصّي فيه»!

قاسم سليمانيأسد صغير (الحاج صالح)

إقرأ المزيد في: مقالات مختارة

التغطية الإخبارية
مقالات مرتبطة

خبر عاجل