مقالات مختارة
الإقفال التام للمصارف... تداعيات كارثيّة قد تطال الودائع وأكثر
صحيفة الديار - د. جاسم عجاقة
يشهد لبنان هذا الأسبوع، إستحقاقًا أساسيًا يتمثّل بانتقال المصارف إلى المرحلة الثانية من إضرابها الجزئي الذي بدأته الأسبوع الماضي، ليُصبح إقفالًا تامًا إبتداءً من يوم الأربعاء، اللهم إلا إذا توصّلت الاتصالات الجارية إلى حلحلة، تمنع تنفيذ هذا الإقفال.
أسباب التصعيد
بيان «جمعية المصارف»الذي صدر الأسبوع الماضي، أعلن الإضراب المفتوح (في الواقع هو إضراب جزئي فقط) وذلك ردًّا على تطورّين قضائيين:
الأول: هو القرار القضائي الصادر بحق «فرنسبنك»، والذي إعتبر أن الشيك ليس وسيلة دفع لإبراء الذمّة المالية، وهو ما اعترضت عليه المصارف، بحكم أن القروض التي تستوفيها من زبائنها المقترضين بواسطة الشيكات المصرفية لم يعد قائمًا بالتالي. وهو ما يعني إستحالة سدّ بعض الزبائن لقروضهم المصرفية التي كانوا يُسدّدونها بشيكات مصرفية، لصالح تسديدها نقدًا.
ويُحمّل بيان المصارف (النقطة الثانية في البيان) مسؤولية التعامل بـ «الكاش» للسلطات السياسية والقضائية، رافعةً عن نفسها أي مسؤولية عمليات تبييض الأموال قد تنتج عن التعامل بـ «الكاش» أمام السلطات المالية الدولية، خصوصًا وزارة الخزانة الأميركية ،ولكن أيضًا أمام المصارف المراسلة التي تتعامل معها.
عمليًا، هذا القرار القضائي يُشكّل بابًا أمام المودعين الآخرين لرفع الدعاوى القضائية ضدّ المصارف وإلزامها دفع الودائع نقدًا، وهو أمرٌ لا تستطيع المصارف تنفيذه بحكم عدم وجود سيولة كافية (ولا حتى أصول كافية) لدفع كل الودائع. وهذا أمر يعني حكمًا بيع أصول المصارف وتحميل خسائر كبيرة للمودعين.
الثاني: هو الطلب القضائي من مُدّعي عام جبل لبنان إلى سبعة مصارف برفع السرّية المصرفية عن حسابات القيمين على هذه المصارف وكبار الموظفين لديهم. وهو أمرٌ ترفضه المصارف بحجّة أنها لا تستطيع رفع السرّية عن زبائن لديها (في هذه الحال الموظفين)، خوفًا من ملاحقة هؤلاء للمصارف بتهمة خرق السريّة المصرفية.
قراءة في خلفية الإعتراض
تحليل بيان المصارف والمُعطيات المُتداولة في الإعلام، تُشير إلى أن المصارف ترفض تحمّل تداعيات الأزمة وحدها، وهي بالتالي ترى في النقطة الأولى (أعلاه) تحميل المصارف العبء المالي عبر تصفية أصولها، من دون أن تتحمّل الدولة والمصرف المركزي مسؤولية في هذه الأزمة. وبما أن الأصول المصرفية لا تُغطّي الودائع الموجودة بالدولار الأميركي، لذا سيكون الحمل الأكبر على المودعين.
أيضًا تُشير التحاليل إلى أن المصارف تخشى تحميل القطاع المصرفي وحده المسؤولية الجزائية عن الأزمة من خلال ملاحقة المصرفيين من باب أحكام القانون 44/2015 ، والذي يعتبر في مادته الأولى الأموال الناتجة عن النشاطات التالية هي أموال غير مشروعة: - زراعة أو تصنيع او الاتجار غير المشروع بالمخدرات والمؤثرات العقلية.
- المشاركة في جمعيات غير مشروعة بقصد ارتكاب الجنايات والجنح.
- الإرهاب، تمويل الإرهاب أو الأعمال الإرهابية والأعمال المرتبطة بها.
- الاتجار غير المشروع بالأسلحة.
- الخطف بقوة السلاح أو بأي وسيلة أخرى.
- استغلال المعلومات المميزة وإفشاء الأسرار وعرقلة حرية البيوع بالمزايدة والمضاربات غير المشروعة.
- الحض على الفجور والتعرض للأخلاق والآداب العامة عن طريق عصابات منظمة.
- الفساد بما في ذلك الرشوة وصرف النفوذ والاختلاس واستثمار الوظيفة وإساءة استعمال السلطة والإثراء غير المشروع.
- السرقة وإساءة الائتمان والاختلاس.
- الاحتيال بما فيها جرائم الافلاس الاحتيالي.
- تزوير المستندات والأسناد العامة والخاصة بما فيها الشيكات وبطاقات الائتمان على أنواعها وتزييف العملة والطوابع وأوراق التمغة.
- التهريب وفقاً لأحكام قانون الجمارك.
- تقليد السلع والغش في الاتجار بها.
- القرصنة الواقعة على الملاحة الجوية والبحرية.
- الاتجار بالبشر وتهريب المهاجرين.
- الاستغلال الجنسي بما في ذلك الاستغلال الجنسي للأطفال.
- جرائم البيئة، الابتزاز، القتل، والتهرب الضريبي.
وبالتالي، يخشى القيمون على المصارف أن تتمّ ملاحقتهم من هذا الباب وتحميلهم مسؤولية الأزمة.
من هذا المنطلق تأتي النقطة السادسة في بيان «جمعية المصارف» لتطلب رفع السرية المصرفية بمفعول رجعي عن جميع الحسابات ،وهو ما يضع كل السياسيين والقضاة والأمنيين والتجار تحت أحكام القانون 44/2015 ، ويجعلهم عرضة أيضًا لملاحقة محتملة. وبالتالي، يُمكن قراءة هذه النقطة على أنها تهديد مبطّن للمعنيين فيما يخصّ حساباتهم المصرفية ، خصوصًا مع وجود الوفود القضائية الأوروبية التي تُحقّق في الملفات والإرتكابات المالية في لبنان.
تداعيات الإقفال التام
في حال نفّذت المصارف تهديدها بالإقفال التام يوم الأربعاء القادم في ظل عدم الوصول إلى حلّ، وهو أمر مُحتمل في ظل المُعطيات المتوافرة، فإن التداعيات للإقفال ستكون كارثية. فالمواطن هو الخاسر الأول في هذا الكباش بين السلطة والمصارف ، وسيكون من أول المتضررين مع عدم قدرته على إستخدام الصراف الآلي وكل الخدمات المصرفية الأخرى، بما فيها تحاويل الأجور. كما أن وقف الخدمات للشركات ، خصوصًا خدمات الإستيراد سيؤدّي حكمًا إلى فقدان العديد من السلع والبضائع ،التي لن يتوانى التجار عن إحتكارها ورفع أسعارها عند أول فرصة. وبالتالي سيؤدّي هذا الأمر إلى زلزال معيشي قد يُلهب الشارع من جديد.
ولا يتوقّف الأمر عند هذا الحد، إذ من الممكن أن نشهد ارتفاعات مُطردة بسعر صرف الدولار الأميركي مقابل الليرة اللبنانية في السوق السوداء، بحكم وقف خدمات التعاميم 158 و161، اللهم إلا إذا قرّر المصرف المركزي التدخّل من خلال الصرافين من الفئة الأولى وضخ دولارات في السوق. إلا أن هذا السيناريو يبقى ضعيفًا، في ظل نتائج التجارب الماضية، والتي أظهرت إختفاء الدولارات بشكلٍ سريع من السوق.
في الواقع، ما ذكرناه أعلاه، قد يتطور أكثر. فمع وقف خدمات الإستيراد من قبل المصارف، قد يعمد المصرف المركزي إلى القيام بفتح الإعتمادات بهدف تلبية حاجة السوق. إلا أن قانون النقد والتسليف يمنع على المصرف المركزي التعامل مع الشركات، فكيف سيتمّكن من التعامل معها؟ الوسيلة الممكنة لتخطّي هذا الأمر هو عبر وزارة الاقتصاد والتجارة، حيث من الممكن أن تتولى عملية التنسيق والتعامل مع المصرف المركزي، مع تعقيدات لوجستية ضخّمة لن تتأخر بالظهور.
حلول رهينة القرار السياسي
كل ما ذكر حول هذا السيناريو، يبقى في ظل سيناريو تشاؤمي كارثي، وهو شئنا أم أبينا سيؤدّي حكمًا إلى مزيد من الضغط على كل الأصعدة، وعلى رأسها مصير القوانين الإصلاحية، من إعادة هيكلة القطاع المصرفي وقانون «الكابيتال كونترول» إلى خطة التعافي المالي.
فالدعوة إلى اجتماع للهيئة العامة لمجلس النواب تحتاج إلى ميثاقية عبر تأمين نواب مسيحيين النصاب في الجلسة. وهو أمر غير مضمون حتى الساعة، في ظل الإشتباك السياسي القائم، والمطالب والمطالب المضادة، ورهن بعض القوى مشاركتهم بالجلسة بإنتخاب رئيس للجمهورية.
أيضًا ومع رفع مشاريع القوانين المالية إلى المجلس النيابي، أصبحت قرارات الحكومة فيما خص موضوع المصارف محدودة، اللهم إلا إذا كان هناك مساع حكومية للتدخّل لدى السلطة القضائية لإعادة النظر في القرارات القضائية بحجّة الصالح العام. هذا التدخّل يعني وضع المدعي العام التمييزي يده على الملفات المالية.
عمليًا، نتوقع أن يكون مشهد الإقفال التام للمصارف على الشكل التالي، يعني دخلنا مرحلة خطرة جدًا تتمثّل بـ:
-أولًا: إزدياد إحتمال إفلاس المصارف أو الإستحواذ عليها من قبل المصرف المركزي. وفي الحالة الأولى قد يعني الأمر بكل بساطة تطيير كل الودائع مقابل 75 مليون ليرة لبنانية لكل حساب (1.6 مليون حساب ضرب 75 مليون ليرة أي ما يوازي 120 تريليون ليرة بأقصى أو 1.8 مليار دولار أميركي على سعر السوق السوداء). أما الحالة الثانية فهي تعني إبقاء الحسابات على حالها بإنتظار القوانين لمعالجتها.
- ثانيًا: إضطراب كبير في عمل الماكينة الاقتصادية وعلى الصعيد المعيشي، وهو ما يعني تلقائيًا إحتمال نشوب إضطرابات وإحتجاجات شعبية سيكون من الصعب السيطرة عليها ، خصوصًا إذا أخذت طابعا عنيفا (على مثال الاشتباكات المسلّحة العنيفة التي حصلت في عائشة بكار في بيروت) ،وبالتزامن في عدّة مناطق لبنانية، مما يُصعّب عمل القوى العسكرية والأمنية.
- ثالثًا: تسريع وتسهيل عملية التدخل الخارجي في عمل القضاء لدرجة وضع اليدّ على العديد من الملفات القضائية المالية وغير المالية، بالإضافة إلى تسهيل أخذ قرارات عقابية بحق مسؤولين في لبنان.
- رابعًا: الدفع بإتجاه إعادة النظر بالنظام السياسي اللبناني القائم من باب عدم القدرة على التوافق بين مُختلف المكونات اللبنانية.
وهنا نطرح الأسئلة التالية: هل خرجت الأمور عن سيطرة أصحاب القرار؟ أو هل يُناسب بعض هؤلاء تصعيد من نوع التصعيد الحالي؟ التاريخ وحده كفيل بالردّ،إلا أنه من الضروري على المسؤولين القيام بكل ما يلزم لعدم دفع الأمور نحو الأسوأ بالنسبة للمواطن.