مقالات مختارة
ذكرى اغتيال مغنية: العدوّ المثالي
صحيفة الأخبار - عامر محسن
النّاس والأجيال لا تتشابه، وكلّ جيلٍ له شخصيته المميّزة وصفاته لأنّه مرّ بتجربته الخاصّة، و«مرحلته» التي صقلته وصنعته. ومن شهد حدثاً، عايشه واختبره وحفر فيه، ليس كمن سمع به أو قرأ عنه. أحداثُ تجعلك تكبر قبل الأوان، وأحداثُ تغيّرك وأخرى تعلّمك، أو تقصم ظهرك. في بلادنا، وعي الناس والأجيال لا تكوّنه المسارات الشخصية والقرارات الفرديّة وحدها، بل يتمّ إخضاع النّاس جماعيّاً - شعوباً ودولاً كاملة - لتجارب وأحداثٍ عاصفة، تفرض عليهم غالباً من مصدرٍ «خارجيّ»، من غير اختيارٍ لهم ورغبة، ولكنّها تدمّر أجيالاً كاملة وتذرّر حياة الملايين. لم يكن للفلّاح الفلسطيني أو اللبناني أو العراقي كثير خيارٍ في الأحداث التي شكّلت حياته وحروبه وتهجيره: شاء القدر أن تضعك أميركا وإسرائيل نصب أعينهما، أو أن تستملكا أرضك أو تقرّرا - لأسبابٍ «كبرى» تخصّهما، ليس لنا تأثيرُ عليها - أن تجعلا من بلدك مستنقع دمٍ وخراب. من هذا المنطلق يجب أن نتذكّر سنّ عماد مغنيّة في الفترة الأولى التي ارتبطت ذكراه بها، ودخل اسمه فيها سجلّ التاريخ في لبنان والمنطقة
عام 1982 كان عمر عماد مغنيّة عشرين عاماً فحسب، وعام 1983 كان قد بلغ للتوّ الواحدة والعشرين، وأنتم تعرفون ما جرى في تلك السّنوات. ولكنّ القدر شاء أنّ مغنيّة، في هذه السّنّ المبكّرة، كان قد عاش عمراً بأكمله وسط «الأحداث الكبرى»: من الصراع مع إسرائيل إلى الحرب الأهليّة، والقصف اليومي والاجتياحات المتكرّرة، وصولاً إلى غزو 1982 ونزول المارينز في بيروت. المسألة هي أنّ أميركا وإسرائيل، وهما تخطّان حياة النّاس بالدم والقوّة كانتا، في الوقت نفسه، تصنعان لأنفسهما جيلاً من الأعداء. جيلٌ سيقرّر أن ينسى دنياه، ويكرّس عمره ووقته ومواهبه لكي يصبح ندّاً لعدوّه، ويتعلّم كيف يطاله ويوجعه، ويضمن أن لا تتكرّر على شعبه، مهما كان الثّمن، تجارب الاحتلال والضّعف والإذلال وصبرا وشاتيلا. هذا كان، في جانبٍ كبيرٍ منه، من فعل أميركا نفسها: من كان سيختار - طوعاً - أن يترك حياة الزّراعة والعمل، ويقرّر حمل السّلاح، ويرتبط بأيديولوجيا ثوريّة جذريّة، ويقود صراعاً يائساً ضدّ كلّ موازين القوى، إلّا لأنّه لم يُترك له من خيارٍ آخر؟ عماد مغنيّة هو رائد ذاك الجيل، فهم المسألة بـ«التجربة المباشرة»، وليس بالنظريّة، اعتنق فكراً ولم يرثه، وحين مارست أميركا وإسرائيل عنفهما على شعبه، ودخلتا أرضه وقتلتا رفاقه، ثمّ وصلتا إلى عائلته وبيته واغتالتا إخوته، فهما بذلك كانتا - عن غير درايةٍ - تصنعان لنفسهما «العدوّ المثالي».
«التجربة المباشرة»
أنا، كالكثيرين من أبناء جيلي، لم أعرف حقّاً عن عماد مغنيّة إلى ما بعد استشهاده. كنت أعتبر أنّ التقارير الغربيّة عنه وعن أدواره (والدّسّ الذي يمارسه سياسيّون لبنانيّون حوله) ليست صحيحة، والهدف منها المبالغة أو الاستدراج. كنت أظنّ أنّ الرّجل، على الأرجح، يسكن في إيران منذ سنواتٍ طويلة ولم يعد له دورٌ عمليّ، أو أنّه قد يكون توفّي حتّى ولم يتمّ الإعلان عن ذلك. ولكنّ عماد لم يكن بيننا فحسب طوال هذه السّنوات، بل تبيّن أنّه كان قد انتقل من «الأمن» إلى «العسكر»، وأصبح قائداً للرجال الذين قاتلوا إسرائيل وأخرجوها من لبنان، ثمّ أذلّوا جيشها بعد سنوات - وكانت له أدوارٌ أخرى كثيرة. تقول صديقةٌ إن تقييمها للنّاس الفاعلين يرتكز على ثلاثة معايير، لا يمكن لأحدها أن يعوّض غياب الآخر ويندر أن تلتقي في شخص: التدريب، الموهبة، والأيديولوجيا. و«التدريب»، هنا، لا يقتصر على التعليم الأكاديمي؛ عماد مغنيّة، مثلاً، لم يتلقّ تعليماً رسميّاً عالياً، ولكنّه علّم نفسه الفارسيّة بإتقانٍ من مجرّد الاحتكاك، وكان خبيراً في تقنيات عسكرية متخصّصة (زاملت أميركيين أنفقت عليهم حكوماتهم مئات آلاف الدّولارات لكي يتعلّموا العربيّة، وقضوا سنواتٍ في الجامعات والصّفوف، وهم لا يزالون يتكلّمون اللغة بمستوى أطفالٍ في سنّ الرابعة).
ولكنّ النّقاش هنا هو ليس عن شخص عماد مغنيّة، بل عن المعنى الفعلي للمقاومة. «المقاومة» هي مجرّد كلمة، تعبير، رمز؛ من الممكن أسطرتها أو تشويهها أو استغلالها، ومن الممكن أن تعني أشياء مختلفة لمن ينطقها. المعنى الفعلي للمقاومة، الذي اختبره عماد مغنيّة وجيله، هو أنّ المقاومة ليست خياراً، وأنّها تضحية وإيثار، وأنّها ليست نزهة و«لايفستايل»، وأن حياةً من المقاومة - وإن كانت عظيمة - فهي ليست شيئاً «جميلاً». سأشرح: من أخطر الأوهام التي تسرّبت إلى بعض الوعي والدّعاية اليوم فكرةٌ «احتفاليّة» عن مفهوم المقاومة. الكثيرون لم يعاصروا بالتجربة مرحلة الاحتلال والحرب ضدّه، وما كانت تعنيه على المستوى اليومي، الحياتي، لمن عاش عمراً في الحرب ضدّ إسرائيل وتحت عنفها. البعض يعرف المقاومة كذكرى نضالٍ وانتصار؛ ولكنّ ذكرى «النّصر» والاحتفاليّة التي تقام حوله، والفخر والإنجاز والأغاني، هي شيء، بينما العمليّة التي توصل إليه شيءٌ مختلف تماماً.
المعنى الفعلي للمقاومة، الذي اختبره عماد مغنيّة وجيله، أنّ المقاومة ليست خياراً و«لايفستايل» وأن حياةً من المقاومة ليست شيئاً «جميلاً»
كما يعرف كلّ من خاض مقاومةً شعبيّة ضدّ قوى كبرى، فإن «المقاومة» لا تعني نصراً وأمجاداً وحكايا رومانسيّة، بل تعني قبل كلّ شيءٍ حياةً صعبةً وخطرة، لك ولكلّ من حولك، وأنّك على الأرجح ستموت قتلاً ومعك أكثر رفاقك، وستسلّط عليك قدرات عسكرية وماليّة أكبر منك بكثير، وستحرمون - جماعياً ولسنوات - من مجرّد احتمال «الحياة الطبيعيّة». ولكنّ، في حالاتٍ كثيرة، يكون هذا هو الخيار الوحيد أمامك إن أردت أن تحافظ على أرضك أو هويّتك أو حدّ أدنى من الإرادة والكرامة.
حتّى «انتصارات» المقاومة تكون انتصارات «صغيرة»، تدريجية، مرحلية، تكلّف كثيراً وقد تلحقها نكسات. إن كنت تريد «انتصاراتٍ» وأمجاداً وحروباً «جميلة» فإنّ عليك أن تنضمّ إلى ركب الامبراطوريّة، أو تسكن في إحدى الدّول التي ازدهرت تحت لوائها. هم، تاريخياً واليوم، من يخوض الحرب من أجل المجد والتوسّع، ويعود جيشه بانتصاراتٍ وغنائم من أماكن بعيدة لتقابله مواكب النّصر. هناك مكان «الحروب الاختيارية» والحملات الخارجيّة؛ الحروب من أجل المصالح، أو لتصريف رأس المال، أو من أجل «القيم» (وهي المقابل المعاصر للحروب الدينية في عصورٍ سابقة، ونشر الدّين و«الحضارة» عبر الغزو). والطّريف هو أنّ البعض يزايد في الخلط ويعامل المقاومة بمقاييس قوى الهيمنة والإمبريالية: لماذا لا تهاجم هنا؟ لماذا لم تزل إسرائيل بعد؟ كيف تسكت لأميركا ولا تضرب أسطولها؟
هوليوود لهم وليست لنا. ومن العبث أن تحاول منافسة العدوّ في ميدانه، أو تتوهّم أنّ في وسع المقاوٍم أن يباري السّلطة والهيمنة في مجال «القوة الناعمة» ولعبة الإعلام والإغواء. الإعلام والثقافة السائدة المنشورة هي، تعريفاً، أدوات سلطة، والمقاومة ليست سلطة ولا توزّع العطايا بل كلّ عملها، حتّى في الإعلام والثقافة، هو حربٌ ومواجهة. الفكرة هي أنّ النّاس لا تعتنق المقاومة لأنّها الخيار «الأجمل» أو الأكثر ربحيّة وجاذبيّة، بل لأنّهم تُركوا وحيدين تحت الهجوم، بلا خيارٍ آخر يطيقه الحرّ. يجد الملايين من النّاس، ناسك، أنفسهم في هذه الوضعيّة، ضحايا لقوىً تفوقهم جبروتاً وتمتدّ في العالم، وأكثرهم لن يجد هجرةً لائقة ودراسة في الغرب، ولا وظيفةً مجزية في الخليج، والمنظّمات الدوليّة في بلادنا - وإعلام الهيمنة والمخابرات - وإن اشترت كلّ النّخب، فهي لن توظّف كلّ النّاس. السّؤال الحقيقي، بالنّسبة إلى عماد مغنيّة ومن سبقه ومن تبعه، يتعلّق بكلّ هؤلاء المتروكين؛ هل تتماهى معهم أم تقف ضدّهم؟ وهذا السّؤال ليس مطروحاً لمن «أمّن نفسه» ونجا، أو وجد إمكانيّةً لمعيشٍ مترفٍ وآمن، فهذه الفرص والامتيازات تمثّل، بالقطع ومن غير شكّ، حياة «أجمل» وأكثر جاذبيّة من خيار المقاومة والصّراع، ولا داعي لأن تذكّرنا بذلك في كلّ مناسبة. دور المقاومة هو ليس أن تُقنع مع «أمّن نفسه» بأن يتعاطف معها ويفهمها، فهذا غير منطقيّ، بل دورها هو أن تقود من لن تتاح له مثل هذه الفرص في حربه ضدّ عدوّه؛ ومن لا يفهم ذلك لا يدرك المعنى الجوهري لكلمة «المستضعفين».
المقاومة والمحميّة
هنا المعنى الحقيقي لـ«الصراع الطّبقي»، وهو ليس تركيبة نظريّة أو معادلة ميكانيكيّة كما يراها الكثير من الماركسيّين، بل هي هذه القسمة البنيويّة، التي تتكرّر عبر التّاريخ، بين المحظيّين وضحاياهم - والفئات الكثيرة التي تقيم بين الطّرفين. هذا الهامش، بين أن تقف مع المستضعفين أو ضدّهم، يضيق في بلادنا، وهو قد اختفى وانعدم في طبقة النّخب والمثقّفين الوظيفيّين (الفوارق الوحيدة بينهم هي في اختلاف الدّور الذي يلعبه كلٌّ في الحرب على المقاومة. والهيمنة لن تأتيك بوجهٍ واحدٍ وزيٍّ موحّد، بل ستعطيك خيارات وأجنحة وتيّارات، تستوعبك في كنفها بالصّورة التي تحبّ، من اليسار التروتسكي إلى اليمين المتديّن، ومن النشاط السياسي إلى العمل الفنّي. المهمّ هو أن تلعب في نهاية الطّريق دورك ووظيفتك في الأمر الذي يهمّ). المسألة بنيويّة وليست أخلاقيّة لأنّ أكثر ضحايا الهيمنة، لو أتيحت لهم حياةٌ مختلفة، أو أن يولدوا في بلدٍ ثريٍّ آمن، ويكونوا من بين الـ10 أو الـ15 في المئة من المحظيين في هذا الكوكب، لأخذ أغلبهم ذاك الخيار. ولكنها حربٌ وصراع لأنّ ثراء البعض يكون دوماً على حساب أكثريّة، ولأنّ السّلم والدّعة التي ينعمون بهما ثمنها الحروب التي تطحن الضعفاء في الجنوب العالمي؛ وأنت، كفردٍ من هؤلاء، قد يتاح لك أن تنجو و«تؤمّن نفسك» عبر التماهي مع الأقوياء، ولكن ما حصلت لن يكون متاحاً لغالبية شعبك ومن حولك.
هنا المشكلة في «نموذج دبي» (ونموذج «ألمانيا واليابان»، وكوريا الجنوبية، وإسرائيل) وهي أنّه لا يمكن، بنيويّاً، أن يكون هناك أكثر من «دبي» في المنطقة، ولهذا فهي ليست نموذجاً. فكرة «دبي» - وباقي محميّات الخليج - ليست متاحة، أصلاً، لولا التوزيع غير المتوازن للثروة في المنطقة؛ ولا يمكن لدبي أن تصبح قبلةً للتجارة والنقل لولا أن عدن خربت ولا تلعب دورها التاريخي؛ ولا يمكن للسعودية أن تصبح قوّة مسيطرة لولا أن اليمن والعراق في ضعفٍ وتبعيّة؛ ولا يمكن لكلّ هذه الأمور أن تحصل لولا الهيمنة الأميركية ونظامها وقواعدها العسكرية. المحميّة، أصلاً، اسمها «محميّة» لأنّها تحرس ما حولها ولا تشبهه، وتُقام بينها وبينه الأسوار.
السجلّ التاريخي واضح إن أردنا تعداد أهم الشخصيات في ماضي هذا البلد وعظمائه، وإن لم يذكرهم التاريخ الرّسمي. عماد مغنيّة هو على رأس هؤلاء
لا يلزم النّظام العالمي غير «دبي» واحدة، و«كوريا جنوبية» واحدة، و«إسرائيل» واحدة، في مواجهة مئات الملايينٍ من المحرومين. والسّياسة، عند أتباع الهيمنة وخدّامها والمستفيدين منها، تنحصر تماماً في هذا الهامش: التسابق على أن تكون أنت «دبي» وليس «عدن»، هونغ كونغ وليس هانوي (بحسب المقاربة المفضّلة لجيلٍ من المثقفين الليبراليين العرب، الذين ليس عندهم مفهومٌ عن اقتصاد أو أرقام أو آليات باستثناء هذه الثنائيّة: هانوي أو هونغ كونغ. كأنّ كلّ ما يلزم، في عالمهم، هو أن تأخذ خياراً أيديولوجياً فتصبح هذه أو تلك - والمقاومة، بالطبع، هي ما يمنعنا من أن نصير «هونغ كونغ»).
أليس هذا، بالمعنى العميق والمضمر، جلّ النقاش الذي يدور اليوم في لبنان، حول «مستقبل البلد»، بين أهل المقاومة وأعدائهم؟ الأيديولوجيا «البديلة» تقول لك بطرقٍ شتّى إنّنا، بعد أن أوصلتنا وصاية النظام الدولي إلى الانهيار، فإنّ علينا أن نراهن على الخانة نفسها بشكلٍ مضاعف؛ وأنّ عودة الازدهار لن تكون إلا عبر استرضاء الأقوياء ليجعلوك هونغ كونغ وليس هانوي. أن تكون أنت «الفهلوي» وليس الضحيّة، وهم يعدونك بأنّك ستتمكّن، عبر المناورة والتذاكي وتأدية الوظائف للغرب، من أن تصبح واحدةً من المحميّات المحظيّة - أن تجعل من نفسك واحةً من الرخاء في وسط محيطٍ يحترق. والمقاومة هنا واليوم هي، بالطبع، «السلعة» الأثمن في هذا البلد والهدف الذي يريد الجميع رأسه.
صانعو الذّاكرة
السجلّ التاريخي واضح اليوم إن أردنا تعداد أهم الشخصيات في ماضي هذا البلد وعظمائه، وإن لم يذكرهم التاريخ الرّسمي، فهذه الأمور لها مقاييس موضوعيّة ولا تخضع لتفضيلاتك. عماد مغنيّة هو على رأس هؤلاء. العلاقة بين الأوطان وأبطالها ليست كما يتصوّر البعض، فليس البلد ومؤسساته ومناسباته ما يعطي للبطل قيمة، بل هو من أعطى الوطن. وأنت حين تنكره أو تتجاهله أو تغيّبه لست تنتقص منه، فهناك دوماً من سيتعلّم عن فعله ويقتفي أثره، بل أنت هنا من يخسر وطنيّته، ويرتضي لنفسه هويّةً مبتورةً مشوّهة جبانة لا يمكن أن تصير وطناً.
هزيمة 1982، والوضع اليائس الذي تلاها، لم تكن نقطة انكسارٍ أو انقلابٍ عند عماد مغنيّة، كما حصل للكثيرين وقتها، بل كانت نقطة انطلاقه وبداية العمل «الحقيقي». مفهوم «الانتصار» عند عماد مغنيّة وجيله لم يكن هوليووديّاً، ولا يتمثّل في أن تنتصر على عدوّك في معركةٍ بطولية فاصلة، ثمّ تعيش حياةً طويلةً سعيدة وتموت في فراشك شيخاً. هم كانوا يفهمون سياقهم جيّداً، والنّصر عندهم والإنجاز كان يتمثّل في أن تتمّ ما تعتبره واجبك و«عملك»، وأن تقدّم ما عندك من رؤية، يبني عليها من سيأتي بعدك، قبل أن يصلوا إليك. يُقال إنّ عماد، قبيل استشهاده، قد عبّر عن هذه الفكرة بالضّبط: أنّه أنجز ما جاء إلى هذه الدّنيا لأجله وأصبحت الأيّام الزائدة فائضاً.
أفضل التّاريخ لم يُكتب بعد. لم يكن عمر عماد مغنيّة يتجاوز الستة والأربعين حين استشهد في دمشق، ولكن لك أن تقدّر معنى أن يجول إنسانٌ، لسنواتٍ، في بلدٍ شارك في صنع تاريخه وله أثرٌ تركه شخصيّاً في كلّ مكانٍ يمرّ فيه: القرى المحرّرة في الجنوب التي عادت إلى الحياة، مقرّ «الحاكم العسكري» في صور؛ وتحصيناتٌ وسلاح، خلفها عقيدةٌ حربيّة إبداعيّة صاغها أهلها، تزنّر البلد من أقصاه لأقصاه. حصيلة المقاومة والإنجاز ليست في أن تمدحك أوساط المترفين، أو أن تذكرك السرديّة الرّسميّة وتحظى باعتراف الغرب. «الانتصار الصّغير»، ببساطة، هو أن إنساناً من هذا «الجنوب العالمي» كان يقدر، حين يريد الترويح عن نفسه ولديه وقت فراغٍ، أن يدير دراجته الناريّة ويقطع شوارع عاصمته صوب مطار بيروت الدّولي، ثمّ يتوقّف أمام موقعٍ هناك يشير إليه بيده ويقول لمن معه: «هنا كان المارينز».
إقرأ المزيد في: مقالات مختارة
20/11/2024
في بيتنا من يتبنّى فهم العدو للقرار 1701!
19/11/2024
محمد عفيف القامة الشامخة في الساحة الإعلامية
19/11/2024
شهادة رجل شجاع
13/11/2024