مقالات مختارة
النقب تقارع أحلام بن غوريون
بيروت حمود - "الأخبار"
على رغم وجود أسباب موضعية لتسعير الحملة الإسرائيلية على النقب أخيراً، إلّا أن ما تشهده هذه المنطقة اليوم ليس خارجاً من سياق تاريخي أسّس له ديفيد بن غوريون، منذ أن أعلن أنه «إن لم نصمد في الصحراء فستسقط تل أبيب». شعارٌ لا يفتأ «الصندوق القومي اليهودي» الذي كان له دورٌ مشهود في تأسيس دولة الكيان، يعمل على إنفاذها، بمشاريع استيطانية إحلالية، تتّخذ من «تزهير الصحراء» ستاراً لتهجير الفلسطينيين وتجريف أراضيهم وتعرية حياتهم، ومن ثمّ طمس هويّتهم التي لا يُراد أن تقوم لها قائمة. في المقابل، لا يزال هؤلاء مصرّين على التشبّث بحقوقهم، مسطّرين بأظافرهم وصدورهم ملحمة نضال وصمود يومية، لا تفتأ تتجدّد فصلاً.
«تهديدٌ للدولة». ليس الحديث هُنا عن «قنبلة إيران النووية»، ولا عن «صواريخ حزب الله الدقيقة»... بل ما يمثّله باختصار أهل بادية فلسطين على وجود كيان العدو، بنظر الأخير. صريحاً كان مؤسّس الدولة العبرية بقوله إن «لم نصمد في الصحراء فستسقط تل أبيب»، وهو اقتباسٌ وضعته «الكيرن كييمت ليسرائيل» (الصندوق القومي اليهودي) كشعار لها منذ عقود لتشجير صحراء النقب، مُعنوِنةً مشاريعها بـ»تحقيق رؤية بن غوريون»، من دون أن تنسى طبعاً ربط مخطّطاتها بجملة من وعود الربّ: «هأَنَذَا صَانِعٌ أَمْرًا جَدِيدًا. الآنَ يَنْبُتُ. أَلاَ تَعْرِفُونَهُ؟ أَجْعَلُ فِي الْبَرِّيَّةِ طَرِيقًا، فِي الْقَفْرِ أَنْهَارًا» (سفر يشعياهو الـ43، الآية 19).
تُعرّف سلطات العدو فلسطينييّ النقب بمصطلح رسمي تتناقله هيئاتها، وهو «مشكلة البدو». أمّا حلّ هذه «المشكلة»، فمُلقًى منذ العام 2005 على عاتق مجلس الأمن القومي الإسرائيلي، ما يعني بلا لبس أن هؤلاء بنظر السلطات «يشكّلون خطراً ديموغرافياً ووجودياً»، و»مادّة متفجّرة تَكمن داخلها طاقة عنيفة للمواجهة»، وهي أوصاف استخدمها المجلس، بالتزامن مع إقرار «الكنيست» في العام ذاته (2005) قانون «الأراضي العامة»، الذي ينصّ صراحةً «على إخلاء الأراضي العامّة من أيّ بشر أو أملاك منقولة أو حيوانات أو كلّ مبنى قائم عليها وكلّ ما يتصل بها بشكل ثابت». وعلى مدى سنوات، استُخدم هذا القانون كذريعة لتهجير فلسطينيّي النقب، سواءً من طريق هدم بيوتهم أو رشّ مزروعاتهم ومواشيهم بالمواد الكيميائية السامة، أو تجريف محاصيلهم الزراعية وغرس الأشجار والنباتات الغريبة عن بيئة الصحراء بديلاً منها، فضلاً عن فرْض الغرامات المالية الباهظة على كلّ مَن يدخل أرضه (التي يصنفها القانون أراضي عامّة) منهم.
وفي مقابل تعرية حياة البداوة بشكل ممنهج، أخذت المستوطنات الإسرائيلية تبتلع النقب التي تشكّل مساحتها حوالي نصف مساحة فلسطين الانتدابية، طبقاً لمصطفى الدباغ، الذي يَذكر في كتابه «بلادنا فلسطين» أن مساحتها تُقدَّر بـ12,577,000 دونم، وتمتدّ من الفلوجة شمالاً وغزة غرباً والخليل شرقاً والعقبة جنوباً. وتحت شعارات «تطوير (تهويد) النقب» بزعْم الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة، و»جعْل الصحراء خضراء» كما تدّعي «ككال» من أجل جمع التبرّعات من كلّ أنحاء العالم، كانت تُقام المستوطنات وتُشجّر الصحراء. وليس غريباً أن من يقوم بكلّ ذلك هو «الصندوق القومي اليهودي» الذي تأسّس عام 1911 كـ»جمعية عثمانية»، ولعب أحد أهمّ الأدوار في إقامة الكيان الصهيوني، من طريق شراء الأراضي وإنشاء المستعمرات عليها.
ما يحصل منذ أيام في النقب ليس إلّا حلقة من مسلسل الخراب الذي يعيشه الفلسطينيون هناك يومياً؛ حيث يقتحم عناصر الصندوق، القرى «غير المعترَف بها»، بحماية من شرطة العدو وبمرافقة الجرافات، ويبدأون بتجريف الأراضي وتحريشها من دون أيّ سابق إنذار، تمهيداً لتسييجها ومن ثمّ مصادرتها لصالح المشروع الاستيطاني اليهودي. ومع مرور الوقت، أدرك الفلسطينيون أنه ما من خيار أمامهم سوى أخذ حقّهم بيدهم، لأن «القانون» في هذه «الغابة» لم يكن في صفّهم يوماً؛ حيث يدّعي القانون أن هناك مشكلة في «مُلكية الأرض»، وهي حُجّة تستند إليها سلطات العدو لتنفيذ مخطّطاتها الاستيطانية، التي شهدت في السنوات الأخيرة تصاعداً ملحوظاً، سواءً كانت حكومية كـ»مخطّط برافر» الذي جُمّد بفعل الضغط الشعبي، أو مندرجة في إطار قوانين التخطيط والبناء التي تقوم على هدم بيوت الفلسطينيين، أو في سياق محاولات تمرير قوانين للاعتراف ببعض القرى بشروط تُفقِد الاعتراف معناه، من بينها تهجير السكّان الأصليين إلى أماكن جديدة، على مساحات أقلّ من الأراضي التي يمتلكونها.
توضح دراسة لمعهد «مدى الكرمل»- المركز العربي للدراسات الاجتماعية التطبيقية - أن أساس مشكلة مُلكية الأرض في النقب، عائد إلى القانون العثماني الذي سُنّ عام 1858، وهدف إلى تنظيم مرافق الدولة. قَسّم هذا القانون الأراضي إلى خمسة أنواع: «الملك، الأميرية، الوقف، المتروكة، الموات»، فيما لم يأْلُ الحُكم العثماني جهداً لتطبيقه في المناطق التي كانت مأهولة في النقب. وقد سجّل كثير من البدو أراضيهم في الطابو العثماني، ولا يزالون إلى اليوم يملكون صكوكاً تثبت ذلك، ولكن المحاكم الإسرائيلية لا تعترف بها. كما تُبيّن وثائق من الأرشيف البريطاني أن البدو دفعوا ضريبة العشر على مواشيهم وأراضيهم، وأنهم حصلوا على اعتراف بمُلكيّتهم للأرض من الحاكم العثماني، من دون تسجيلها. وعلى خُطى العثمانيين، اعترف الإنجليز، إبّان الانتداب، بمُلكية البدو لأراضيهم، من دون تسجيلها، ومن دون أن يفتحوا أساساً مكاتب لهذا الغرض، فيما لم يكن منتظَراً من الاحتلال بعد عام 1948، أن يعترف بحقوق البدو، أو أن يفرّق بين مَن امتلكوا منهم صكوكاً، ومن هُجّروا بالقوّة. ولذا، ومِن أصل 90 ألف فلسطيني، بقي في النقب 13 ألفاً، تعمّدت السلطات الإسرائيلية حشْرهم في منطقة السياج التي تشكّل فقط ما نسبته 3% من مساحة النقب. أمّا الأراضي التي صودرت منهم، فأُعلن عنها مناطق عسكرية مغلقة، وسرعان ما انتقلت إلى «أملاك الغائبين».
وطبقاً لتقرير أصدره مراقب الدولة الإسرائيلي، متنياهو أنغلمان، بتاريخ 04/08/2021، فإن السلطات الإسرائيلية «لا تعلم عدد السكّان البدو في النقب، ولا علم لها بعددهم في كلّ واحدة من البلدات البدوية»؛ حيث تشير معطيات سلطة السكان إلى أنه يوجد «151 ألف مواطن في البلدات البدوية السبع، و80 ألفاً في القرى المسلوبة الاعتراف»، بينما تشير «سلطة تسوية البلدات» إلى أنه يوجد «105 آلاف مواطن في البلدات البدوية السبع، و103 آلاف في القرى المسلوبة الاعتراف». وسبب هذه الفجوات هو أن «سكّان القرى غير المعترَف بها لا يوجد لهم عنوان رسمي». وثمّة في النقب 35 قرية غير معترَف بها حتى اليوم، من أصل 46 قرية لم يكن معترَفاً فيها حتى العام 2000. وتعيش هذه القرى في «فكّ الجرّافة» التي تهدّد بيوتها بالهدم، وأراضيها بالمصادرة، فضلاً عن حرمانها من الكهرباء والماء وكافة شبكات البنى التحتية، والمرافق الخدماتية الصحّية والتعليمية. أمّا بالنسبة لوتيرة هدم البيوت في النقب، فهي، بحسب جمعية «سيكوي» الإسرائيلية، «الأعلى» في فلسطين، بمعدّل ألفي عمليّة هدم سنوياً.
وبالعودة إلى عمليات التشجير التي فجّرت المواجهات الأخيرة، فهي ليست، كما تُصوّرها وسائل الإعلام العبرية وفي مقدّمتها «يديعوت أحرونوت»، محصورة بشخص رئيس لجنة العاملين «كاكال»، يسرائيل غولدشتاين، وهو أحد أعضاء «الليكود»، الذي «يزرع أشجار السرو لحصْد أصوات من أجل المعركة الانتخابية المقبلة». فـ»تزهير الصحراء» هو «مشروع الأمّة»، الذي قال عنه بن غوريون في خطابه الافتتاحي لـ»الكنيست» الثاني عام 1951: «علينا غرس مئات الآلاف من الأشجار على مساحة 5 ملايين دونم. لنُغطِّ بالغابات كلّ جبال البلاد ومنحدراتها وكلّ الهضاب والأراضي الصخرية غير المناسبة للزراعة وكثبان الساحل والأراضي الجرداء بالنقب... ليس هذا إلّا بداية إصلاح للمَهانة التي تعرّضت لها الأجيال، والمهانة التي تعرّض لها الوطن، والمهانة التي تعرّضت لها الأرض. علينا أن نجنّد لذلك كلّ القوة المهنية للبلاد». فالمشروع إذاً هو خلق الارتباط بين الضيوف الجدد وبين الأرض المسروقة من أهلها؛ إذ إن «زرع الأشجار هو الطريقة الوحيدة لمساعدة اليهود على تنمية علاقة وجدانية قوية مع الأرض»، كما قال «المؤسّس». ولأن التشجير هنا يمثّل هوية قومية، فهو يستوجب قلْع جذور «الشجرة الأخرى»، وهي هوية الفلسطينيين الذين لا يزالون يصارعون بأجسادهم العارية، للاحتفاظ بحقهم.
قمع التظاهرات المناهضة للتجريف
شارك آلاف الفلسطينيين، أمس، في التظاهرة المركزية التي نُظّمت عند مفترق قرية سعوة – الأطرش، في منطقة النقع في النقب، تلبية لدعوة وجّهتها «لجنة التوجيه العليا لعرب النقب»، ومجموعة من الأحزاب والحركات الوطنية الشبابية في الداخل. وأتت التظاهرة احتجاجاً على عمليات تجريف أراضي النقع، التي يتعرّض أهلها منذ أيام لهجمة شرسة، اندلعت على إثرها مواجهات في أماكن متفرّقة من النقب، تخلّلها إطلاق نار على مقارّ للشرطة، وحرق مركبات للإسرائيليين. وقبيل انطلاق الفعالية، وإغلاق الشارع الرئيسي (31) الحيوي الرابط بين بئر السبع وعراد، أغلقت شرطة العدو الطرق المؤدية إلى مكان التظاهرة، ونشرت قواتها المُعزَّزة التي قمعت الفلسطينيين بإطلاق وابل من قنابل الغاز المسيل للدموع والرصاص المطاطي عليهم، ما أدى إلى إصابة العشرات منهم. وأفادت الناشطة الفلسطينية، هند هاجر – سلمان، «الأخبار»، بأن «التظاهرة تحوّلت إلى عملية من الكرّ والفرّ، بعدما قُمعت بشكل همجي من قِبَل جيش الاحتلال الذي أطلق قنابل الصوت والغاز والرصاص المطاطي بكثافة»، فضلاً عن «رشّه المتظاهرين بالمياه العادمة»، مشيرةً إلى «استحالة وصف المشهد.. العظيم بكلّ ما للكلمة من معنى، خصوصاً أن صغار السن من فتية وفتيات هبّوا للدفاع عن أرضهم من دون خوف أو كلل».