مقالات مختارة
هرطقات محكمة التمييز في قضية المرفأ: قضاء غب طلب... الجمهور والسلطة
رضوان مرتضى - الاخبار
أن يتواطأ القضاء ليُقرر باسم بعض الشعب أحكاماً وقرارات معلّبة سلفاً لتُرضي جمهوراً يتظاهر على أعتاب قصر العدل المتداعي، فذلك ما حصل أمس تماماً في قرار محكمة التمييز الذي أصدرته القاضية رندة كفوري. وبالتزامن معها، أصدرت، الهيئة العامة لمحكمة التمييز، وهي الهيئة القضائية الأعلى، سلسلة قرارات بالجملة لتواكب رغبات المحتجين. بقيت «عربوسة» القاضيين نسيب إيليا وحبيب مزهر التي فتح قرار «التمييز» الباب لطيّها.
«قدرة قادر»، في تزامن مريب، شاءت أن يصدر قرارا الهيئة العامة لمحكمة التمييز ومحكمة التمييز في وقت واحد، على وقع أصوات متظاهرين أمام قصر العدل للمطالبة بإبقاء طارق البيطار محققاً عدلياً في انفجار مرفأ بيروت. «المايسترو» واحد، وهو رئيس مجلس القضاء الأعلى سهيل عبود الذي يُقال، همساً وجهراً، في أروقة قصر العدل إنّ «مَوْنته كبيرة» على رئيسة محكمة التمييز رندة كفوري التي انتدبها لرئاسة الغرفة السادسة في «التمييز» التي تنظر في طلبات النقل للارتياب المشروع. وقد وقّتت كفوري قرارها في طلب قُدِّم لها منذ أكثر من 3 أشهر على توقيت «الهيئة العامة»، ملبياً ما يصبو إليه عبّود رغم المخالفات الكثيرة التي ارتكبها البيطار. جرى ذلك كله على وقع تصفيق المتظاهرين في ساحة قصر العدل التي تحوّلت مسرحاً يخشاه القضاة ويتسابقون لخطب ودّ المتفرجين بقرارات معلّبة بناء على «ما يطلبه الجمهور»، كما على «ما يطلبه» الفريق السياسي الداخلي والخارجي المصرّ على استخدام التحقيق في انفجار المرفأ لتحقيق أهداف سياسية.
هكذا، ردّت محكمة التمييز برئاسة كفوري دعوى الوزير السابق يوسف فنيانوس ضد البيطار بسبب الارتياب المشروع. وقبلت دعوى نقابة المحامين ضد القاضي غسان خوري بكف يده عن النظر في دعوى المرفأ بسبب الارتياب المشروع. كالت كفوري بمكيالين، ففيما ردّت الطلبات ضد البيطار، قبلت دعوى نقابة المحامين لرد النيابة العامة متمثلة بخوري عن الملف، وهو «موقف فريد عجيب»، وفق مصادر عدلية. إذ إنّ قبولها ردّ خوري وقرارها إبقاء البيطار يطرحان «ألف علامة سؤال ويخلقان التباساً كبيراً». فهي اعتبرت أنّ المحقق العدلي التزم بالقانون، لكنها ارتابت في أداء خوري لقوله في الدفوع إنّ صلاحية ملاحقة الوزراء والرؤساء منعقدة لمجلس النواب والمجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء، معتبرة أنّه بذلك كمن يُساعد المتقدمين بالطلب، مع أنّ القانون يبيح للنيابة العامة أن تبدي رأيها بحرية في الموقف الذي تراه مناسباً، ولها أن تبدّله. كما يحق للنيابة العامة أن تحفظ وتدّعي متى تشاء.
قرار القاضية كفوري هرطقة قانونية، إذ يأتي رغم الاجتهاد القائل إن النيابة العامة لا تُرد. والاجتهاد هذا تجاهلته القاضية عمداً. وكان هذا جلياً إذا ما قورنت بالتعامل مع القاضية غادة عون التي لم يستطع أي من القضاة وقفها أو كفّ يدها باعتبارها ممثلة للنيابة العامة. أعابت كفوري على خوري جهله بقرار محكمة التمييز، من دون أن تلتفت إلى الاجتهاد المعمول به. «تخبيصات» رئيسة محكمة تمييز، التي يُفترض بها أن تكون قدوة في القانون وبوصلة تستدلّ بها المحاكم والقضاة الأدنى درجة، لم تقف عند هذا الحدّ. فقد ذكرت في أحد قرارتها أن النص أعطى صلاحية استثنائية للمحقق العدلي لأن يدّعي على من يشتبه به من دون الرجوع إلى النيابة العامة، لكنها لم «تكتشف البارود» بذلك، باعتبار أنّ النصوص القانونية أصلاً تُبيح لأي قاضي تحقيق أن يستدعي أي مشتبهٍ فيه بصفة مدعى عليه من دون ادّعاء النيابة العامة، كونه يضع يده على الدعوى بصورة موضوعية.
أما الهيئة العامة لمحكمة التمييز المؤلفة من القضاة سهيل عبود رئيساً، وسهير الحركة وجمال الحجار وعفيف الحكيم وروكس رزق أعضاءً، فقد أصدرت قرارها بالإجماع. بتت في طلبات الخطأ الجسيم المقدمة من النائب نهاد المشنوق ورئيس الحكومة السابق حسان دياب. واتخذت القرار بتحديد المرجع الصالح للنظر في طلبات رد المحقق العدلي وما إذا كان المحقق العدلي يُرَدّ في ضوء إصدار محكمتي الاستئناف والتمييز طلبات تفيد بأنّه لا يقبل الرد. كُرِّس أمس أنّ المحقق العدلي يُرد بعدما كانت محكمتا الاستئناف والتمييز قد وضعتاه سابقاً فوق القانون، وحُدِّد المرجع الصالح الذي بإمكانه رده، وهو محكمة التمييز.
بالتالي، بات اليوم بإمكان المتهمين الذين يستشعرون الارتياب من أداء المحقق العدلي تقديم طلبات رده أمام محكمة التمييز من دون أن يجتهد رؤساؤها بأنّ لا صلاحية لهم. في المحصلة، ردت الهيئة العامة لمحكمة التمييز برئاسة عبود طلبات مخاصمة الدولة بسبب «أخطاء جسيمة ارتكبها قاضٍ»، المقدمة من دياب والمشنوق ضد البيطار، على خلفية اتهامهما له بمخالفة الدستور من خلال الادعاء على رؤساء ووزراء، وهي الصلاحية التي يريان أنها للمجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء. كما ردت دعاوى مخاصمة الدولة المقدمة من النائبين علي حسن خليل وغازي زعيتر ضد القاضيين جانيت حنا وناجي عيد، كون القاضيين الأخيرين خالفا نصوصاً قانونية تُلزمهما بتبليغ أطراف الدعوى قبل النظر في طلب رد القاضي بيطار. وألزمت المحكمة المتقدّمين بالدعاوى دفع مبلغ مليون ليرة كغرامة عن كل دعوى تقدم بها كلّ منهم.
بين محكمة التمييز والهيئة العامة لمحاكم التمييز، ضاعت «عربوسة» القاضيين نسيب إيليا وحبيب مزهر، اللذين يترأسان غرفاً في محكمة الاستئناف في بيروت، واللذين يواجهان سيلاً من طلبات الرد التي تقدّم بها فنيانوس. لم يصدر عنهما قرار يقطع الشكّ باليقين، إلا أنّ المسار المرتقب يُبين أنّ تحديد محكمة التمييز مرجعاً للنظر بطلبات رد المحقق العدلي، يُتيح لإيليا بأن يقول إنّه ليس المرجع الصالح للنظر بصفته رئيس غرفة في محكمة الاستئناف.
أمام كل ما سبق، يُفتح مسار جديد في ملف الدعاوى. إذ إنّ تحديد المرجع الصالح للنظر بردّ المحقق العدلي يُشرّع الباب لتقديم طلبات الرد لدى محكمة التمييز عملاً بقرار الهيئة العامة. بالتالي، فإنّ الدعاوى المرتقب تقديمها سيتسلّمها رئيس مجلس القضاء الأعلى ليُحدد الغرفة التي ستنظر فيها، علماً أن كثراً يستشعرون الارتياب في أداء عبود نفسه. فهل سيكون القضاة الذي سيُحيل إليهم الملفات على شاكلة كفوري واجتهاداتها؟
إقرأ المزيد في: مقالات مختارة
07/11/2024