مقالات مختارة
الحرب السعوديّة ــ الإماراتيّة على حريّة التعبير في لبنان
أسعد أبو خليل - صحيفة الأخبار
ليست هذه أوّل حرب على حريّة التعبير في لبنان. سبقتها حملات قبل الحرب الأهليّة وبعدها. كانت أميركا تفرض حرباً قاسية وظالمة ضد الشيوعيّة واليسار. وكانت الحكومة اللبنانيّة وقتها، تُسرّ لهذه المهمّة لأنها كانت متشكّلة من رجعيّين ولأنها كانت تقبض ثمن تنفيذها لأوامر أميركا في حظر الآراء «الهدّامة»، على قول عبّاس محمود العقّاد. وفي حقبة الاحتلال الإسرائيلي، فرضت حكومة أمين الجميّل (القريشي، حسب محطة «الجزيرة»؟) رقابة مشدّدة على الإعلام كما أن النظام السوري في سنوات سيطرته فرض سياساته على إعلام لبنان واتُّهم من قبل خصومه بأنه وقف خلف تفجير مقرّات لصحف كانت موالية لنظام صدّام حسين. ودول الغرب والخليج أثّرت على إعلام لبنان ــ قبل الحرب الأهليّة وبعده ــ عبر إغداق المال، وكانوا ــ يا لوقاحتهم ــ يشكون من دعم السفارة المصريّة لصحف معيّنة فيما اقتصر عونها على مواعين الورق. لم يُثرِ صاحب صحيفة واحد من مال التمويل المصري، فيما أثرى عشرات من مال التمويل الخليجي والغربي (أو من الاثنيْن، معاً كما في حالة جريدة «النهار»). ما جرى هذا الأسبوع سلّط الضوء على عدد من الأزمات اللبنانيّة.
جورج قرداحي: ليس بطلاً قومياً، وإن كان عناده في الدفاع عن موقفه مثار إعجاب عند كثيرين. قرداحي كالَ مدائح على حكام من الخليج إلى سوريا إلى مصر. وهو في كلامه عن اليمن كان متحفّظاً. حرب اليمن ليست «حرباً عبثيّة»، لا. هي حرب وحشيّة وبمخطّط خليجي خبيث يهدف إلى وضع اليمن تحت هيمنة سعوديّة مباشرة، تماماً كما تسيطر السعوديّة على المستعمرة البحرينيّة الذي تشكّل استضافتها للأسطول الخامس مصدر اطمئنان ودعم لها. الحرب العبثية تكون عندما يفتقر طرفا الصراع إلى أهداف واضحة من استمرار الحرب. هذا ليس الواقع في اليمن. النظام السعودي يعارض حتى اتفاقاً لوقف إطلاق النار، فقط لأنه يرفض رفع الحصار عن أهل اليمن المحاصرين. جورج قرداحي اكتشف للتوّ، كما اكتشف جاد غصن من قبله، أن العمل في وسائل الإعلام السعودي هي عبوديّة مقابل المال الوفير للمشاهير منهم، وللمطيعين أكثر من غيرهم.
حريّة التعبير. إن الحرب الجارية من قبل السعوديّة والإمارات هي حرب إخضاع، أولاً وأخيراً. هذه حرب من أجل زيادة أعضاء المنظومة السعوديّة - الإماراتيّة في داخل الجامعة العربيّة. والإمارات لم تعد تابعة للنظام السعودي، بل هي أيضاً تبلور طموحات خاصّة بها، وتجلّى ذلك في مشاركتها في الحرب في أفغانستان وفي الحرب الوحشية في ليبيا بالإضافة إلى السيطرة على دكاكين المجتمع المدني في مصر تحضيراً لانقلاب عبد الفتاح السيسي. ما كشفته هذه الأزمة هو حجم التلوّث الإعلامي العربي بسبب السيطرة السعودية والإماراتيّة والقطريّة. ليس هناك من كليّة إعلام واحدة في العالم العربي تجرؤ أن تُدرّس المخاطر الكبرى على المهنة. خذ حالة الإعلامي اللبناني علي جابر. الرجل لديه منصب عميد كليّة مسمّاة على اسم حاكم مستبدّ ومُطبِّع (وخاطف لبناته كما حاول خطف زوجة من زوجاته). وهذه الكليّة تذكر في المنهج المقرّر أن شهادة المؤثّرين على مواقع التواصل يتلقّنون بما معناه كيفيّة الترويج لسياسات الحكم في الإمارات (يقول برنامج ديبلوما «مؤثري التواصل الاجتماعي» ما حرفيّته (ترجمتي عن الإنكليزيّة): «تنمية وتحسين ذهنيّة المؤثّرين بما ينسجم مع النزعات المستقبليّة ورؤية حكومة الإمارات». وعميد كليّة البروباغندا الحكومية هذه (والذي تعصى كتابة جملة عربيّة مفيدة عليه) شاركَ بشراسة قلَّ نظيرها في الحملة ضد لبنان بحماس فائق (وخبرته في الإعلام تدرّجت من خدمة بروباغندا الفاسد الأكبر رفيق الحريري، إلى خدمة بروباغندا النظاميْن السعودي والإماراتي). هذا هو نوع الإعلام الذي يريدون فرضه على لبنان باسم محاربة الاحتلال الإيراني. ووصل الأمر بجابر حد تصنيف أهل بلده في الخليج بين المطيعين وبين «اللئام» الذين يستحقّون الطرد. أي أن هذا الإعلامي يضخّ في جيل من الطلاّب العرب في الكليّة فكرة أن طاعة الحاكم المستبد تعلو على أي اعتبار أو مهنيّة. أما صحافي المؤسسة اللبنانية للإرسال بسام أبو زيد، فقد غرّد طالباً من الوزراء اللبنانيّين «صون اللسان» حرصاً على رضى طغاة الخليج. وأبو زيد يدرّس مادة الإعلام في لبنان. الإعلام اللبناني بأكثريّته شاركَ في الحملة الخليجيّة ضد حريّة التعبير ــ كأن حريّة التعبير ليست إلا حقاً لشخص جورج قرداحي. وكأنه لو أننا قبلنا بالرضوخ التام ــ على طريقة الإعلاميّين اللبنانيّين في «بيروت ــ دبي»، فإن النتيجة لن تكون على حساب حريّة كل فرد لبناني ولبنانيّة. بولا يعقوبيان (الثائرة، بالمعنى اللبناني المضحك للكلمة)، أفتت أن قرداحي مُطالب إلى الأبد بالولاء للنظام السعودي لأن انطلاقته التلفزيونية كانت من محطة سعوديّة. أي أن الوزير اللبناني يجب أن يرضخ مدى حياته لطاعة النظام السعودي لأنه عمل في محطة سعودية (هل أفصحت بولا من خلال هذا الكلام أنها تشعر بولاء أبدي نحو الحريريّة لأنها عملت لسنوات في محطة حريريّة؟). والملاحظ في هذه الأزمة أن الإعلام الجديد شارك في الحملة الخليجيّة ضد حريّة التعبير، أو هو فضّل تغيير الموضوع للحديث عن القاضي بيطار (الحديث عن القاضي بيطار أسهل عليهم لأنه لا يزعج لا الغرب ولا الخليج ــ بالعكس هو يسرّهم خصوصاً بعد تزكية القاضي بيطار رسميّاً من قبل الذراع الفكريّة للوبي الإسرائيلي). موقع «ميغا القوات اللبنانية» مثلاً وصف الهجمة العنيفة من قبل النظامَيْن السعودي والإماراتي بأنها «مبالغ بها». أي أنها مُبرَّرة ومفهومة لكن يجب أن تكون أخفض صوتاً. لم يرَ الموقع الإعلامي «الجديد» الخطر من الحملة على حريّة التعبير، وبهذا انخرط الموقع «الجديد» في حملة البروباغندا السعوديّة - الإماراتيّة.
لكن حازم صاغية في «الشرق الأوسط» (جريدة محمد بن سلمان) وجد طريقة طريفة جداً في إخراج طاعته وتسويغ معارضة حريّة التعبير لصالح النظام السعودي. صاغية، الذي كان قد دعا إلى اغتيال أنور السادات بعد زيارته إلى القدس المحتلة في «السفير»، يدعو إلى الليبراليّة في العالم العربي لكن بحدود السياسة السعوديّة التي يتطابق معها بالكامل _ لكن بالصدفة طبعاً وليس عن هوى_. أما انسجام خطه السياسي مع جريدة خالد بن سلطان (حيث كان يكتب) ومع جريدة محمد بن سلمان (حيث يكتب اليوم) فهو محض الصدفة. يقول صاغية ــ الفائق الليبراليّة ــ إن حريّة التعبير ليست مطلقة وإن هناك ما هو أعلى من حريّة التعبير وهو «المصلحة القوميّة العليا». تدركون ماذا قال حازم صاغية في كلامه؟ حازم صاغية تبنّى هنا في جريدة محمد بن سلمان الديمقراطيّة مقولة «لا صوتَ يعلو على صوت المعركة»، مع الفارق أن جمال عبد الناصر كان يخوض معركة تحرير وتحرّر فيما لا يخوض النظام السعودي الذي ينطق باسمه هنا إلا معارك وحروب وحشيّة (وليست عبثيّة لأن للحرب أجندة خبيثة متوائمة مع مصلحة إسرائيل). صاغية نفسه سخّرَ لسنوات من شعار «لا يعلو فوق صوت المعركة» (وهو شعار صائب في تلك المرحلة التي واجه فيها عبد الناصر أعداء داخليّين وخارجيّين شتّى)، وهو الآن يطلع بشعار أبشع منه بكثير. لا، يقول صاغيّة إن قمع حريّة التعبير جائز في تلك الحالة التي تكون فيها «المصلحة القوميّة العليا» على المحك. لكن هناك رئيس جمهوريّة ورئيس مجلس نواب ورئيس مجلس وزراء وكل هؤلاء أفتوا أن التصريح لا يشكل خطراً على المصلحة القوميّة العليا. وإذا كان قادة البلاد المنتخبون لا يرون في كلام قرداحي معارضة للمصلحة القومية العليا، فإن حازم صاغية يتركنا باستنتاج وحيد لا يمكن أن يكون هناك غيره:
1) إن حرية التعبير في لبنان يجب أن تخضع لـ «المصلحة القوميّة العليا» (هل استعار الفكرة والمصطلح من أدبيّات حزب البعث؟).
2) إن المصلحة القومية العليا للبنان لا يحدّدها زعماء لبنان بل يحدّدها أمراء وشيوخ الإمارات والسعوديّة. هذا هو الاستنتاج الوحيد الممكن من كلام صاغية. وعليه فإن صاغية أفتى بقمع حريّة إعلامي لأن كلامه تعارض مع مصلحة النظام السعودي ــ وهذا ما عناه بالضبط لأن كلامه لا يحمل تأويلاً آخر.
وتقييد حريّة التعبير بطلب من النظام السعودي هو بلا مقابل. قرأتُ أن جورج قرداحي سأل المسؤولين إذا كانت الاستقالة ستؤدّي إلى موقف سعودي مختلف وإذ بالجواب بالنفي. أي أن النظام السعودي يطالب لبنان بحظر حريّة التعبير إذا أضرّت بمصالحه كنظام، لكن من دون مقابل للبنان. النظام الذي تعوّد على المقايضة والتأثير بالمال على سياسات الدول يريد خدمات مجانيّة من البلد الفقير لبنان. لكن الأزمة كشفت عن الوجه الحقيقي لكل الصف «المدني» بألوانه كافة، من اليمين إلى اليسار (هل من يسار بينها؟).
صمتت كل هذه التشكيلات إلا تلك التي كالت التنديد على حريّة التعبير. لم يصدر بيان لا عن الحزب الشيوعي اللبناني ولا عن حركة «مواطنون ومواطنات في دولة» (التي نشرت بياناً تفصيلياً عن اغتيال لقمان سليم). سطوة النظام السعودي كانت لا تصيب إلا فريقاً معيّناً في لبنان. كان كمال جنبلاط ــ بالرغم من علاقته الوطيدة مع النظام السعودي ــ يرمي صائب سلام بتهم العمالة للسعودية. وهذه التهمة رماها وليد جنبلاط ضد سلام نفسه وضد رفيق الحريري ــ كان ذلك قبل أن يكتشف جنبلاط دفء الحضن السعودي. سطوة النظام السعودي والإماراتي امتدّت لتصيب ــ لا بل تلوّث ــ كل الثقافة السياسية والإعلاميّة في لبنان. كيف تصمت تنظيمات تدّعي المدنيّة عن الحملة السعوديّة ــ الإماراتيّة؟ لكن جريدة «الشرق الأوسط» على حق عندما كتبت أن القوى المدنية شاركت السياسيّين في إدانة نقد النظام السعودي. إن الصمت عن حرب النظامَيْن المتحالفَيْن مع إسرائيل هو مشاركة في الحملة.
أنكرَ الكثير في لبنان ــ في اليسار وفي الوسط واليمين ــ أن هناك مؤامرةً أو حصاراً على لبنان. الحكومة الأميركيّة ما انفكّت تصدر فرمانات عقوبات ضدّ لبنان وضدّ أكبر حزب في لبنان. لكن الإعلام والطاقم السياسي (التقليدي منه والـ «مودرن» جداً) يعتبر أن تلك العقوبات لا تؤثّر لا على كرامة لبنان ولا على اقتصاد لبنان ولا على سيادة لبنان لأن المُستهدفين هم إرهابيّون (ليس هناك من يفنّد أو يُشكِّك بصحّة المزاعم الأميركيّة في فرمانات عقوباتها. عند بيانات وزارة الخزانة الأميركيّة الخبر اليقين. وهناك من يصدّق أن أميركا في وارد معاقبة فاسدين وهي متحالفة مع طغاة فاسدين في طول العالم العربي وعرضه؟) والأنظمة الخليجيّة سارت في المشيئة السعوديّة لمعاقبة لبنان على تصدّيه لإسرائيل (حتى قطر التي عانت من حصار سعودي خانق شاركت في الحملة ضد لبنان ــ سنتذكّر ذلك). مشكلة السعوديّة مع لبنان ــ أولاً وأخيراً ــ هي مشكلة إسرائيليّة. عندما أصدر النظام السعودي بيانه الشهير عشية حرب تمّوز، كان يعلن للعالم تدشين تحالفه الوثيق مع العدوّ الإسرائيلي. والتحالف مع العدوّ كان خطة لآل سعود للالتفاف على حركة الكونغرس والإعلام هنا ضد النظام السعودي بعد تفجيرات 11 أيلول. إسرائيل هي طريق العبور إلى الكونغرس الأميركي. لو لم تكن الطغمة العسكريّة الحاكمة في السودان متحالفة مع إسرائيل لما تجرّأت على إجراء الانقلاب ــ وسرّبت الصحافة الإسرائيليّة أخباراً عن زيارة وفد من الـ«موساد» للطغمة فور إعلان الانقلاب. النظام السعودي يعلنها صراحة أن مشكلته تكمن مع أعداء إسرائيل في لبنان. كل فريق 14 آذار الذي كان مرعياً من قبل النظام السعودي ساندَ العدوّ في حرب تمّوز. واليوم هناك إجماع من القوى المدنيّة على اعتبار مقاومة إسرائيل هي مشكلة المشكلات، أكثر من مشكلة إسرائيل نفسها.
لننظر في الأمر لبرهة: هناك في لبنان فريق سياسي ومدني يرى أن مقاومة إسرائيل مشكلة أكبر من مشكلة إسرائيل والصهيونيّة العالميّة. وهناك من لا يرى في إسرائيل مشكلة على الإطلاق. أما كل قول عن عداء وجودي وعقائدي ومدني ضد إسرائيل (يُقال من قبل بعض الأصوات المدنيّة) فهذا كلام لا معنى له على الإطلاق أمام التحدّي الإسرائيلي الراهن. وقد اعتنقت حركة «منتشرين» (هل هي فعلاً واجهة للنظام الإماراتي فقط؟) الخطاب نفسه: برنامجها السياسي يتضمّن تنديداً بإسرائيل وبعنصريّتها ويعلن العداء لها ثم يخلص إلى القول «نظراً لما تقدم، فإننا نعتبر أن أي حل للصراع مع الكيان الإسرائيلي لا يمكن أن يقوم إلا على أساس المبادرة العربية للسلام». أي أن إعلان مواقف العداء لإسرائيل لا معنى حقيقيّاً لها إذا لم تكن تُتَرجم بمساندة حركة المقاومة الحاليّة ــ وهي وحدها وليس هناك غيرها، إلا إذا اعتبر بعضهم أن جوزيف عون يشكّل حالة مقاومة (تتعدّى رصد شوالات البطاطا وأكياس مسحوق الغسيل «برسيل» على الحدود الشرقيّة حيث تشكّل الشوالات والأكياس أكبر خطر على أمن لبنان منذ الاجتياح الإسرائيلي في عام 1982).
لبنان يواجه حرباً على حريّاته وعلى سيادته وعلى معيشة أبنائه. الطبقة الحاكمة مسؤولة أولاً عن الانهيار الاقتصادي الذي رسم معالمه رفيق الحريري وأعوانه. لكن هناك أيضاً البعد الخارجي الهائل في الأزمة اللبنانيّة. أميركا وأنظمة الخليج المتحالفة مع إسرائيل تريد تركيع لبنان. وليس هناك من مقاومة لهذه الحرب باستثناء الفريق المعني مع حلفاء قليلين (مثل الحزب السوري القومي الاجتماعي و«حركة الشعب»). حالة الاستكانة الفظيعة التي وسمت سلوك تنظيمات المجتمع المدني واليسار (حتى أسامة سعد اعتبر أن الواجب هو الإذعان لأوامر النظام السعودي «أياً تكن أحوال العرب» ــ أي هو يفتي بضرورة التحالف مع هذه الأنظمة ولو كانت متحالفة مع إسرائيل، كما هي الآن. هذا النسق من العروبة يتناقض مع مسار عروبة جمال عبد الناصر). إن الكل معني بمجابهة الحرب السعودية ــ الإماراتيّة ــ الإسرائيليّ وليس طرفاً سياسياً واحداً. هذه معركة حرية وسيادة لبنان، بالفعل لا بالشعارات. لكن لماذا إن أكثر من يناصر الحرب ضد سيادة وحريّة لبنان هم الذين يصدحون أكثر من غيرهم عبر السنوات في رفع شعارات حرية وسيادة لبنان؟