مقالات مختارة
العصيّ الثابت في القضيّة الفلسطينيّة، اليوم وغداً وبعد غد
أسعد أبو خليل - صحيفة الأخبار
القضيّة الفلسطينيّة منذ نشوئها كانت حجر عثرة: حجر عثرة أمام المشروع الصهيوني المتوسّع والمتكبّر، وأمام الأنظمة العربيّة التي أرادت منذ الثلاثينيّات إخماد غضب الشعب الفلسطيني. وتلاقت مصالح الأنظمة العربيّة مع مصالح دول الغرب والصهيونيّة لتسكين الشعب الفلسطيني وإطفاء جذوة ثورته. حيل وخطط ومؤامرات تلاقت في السعي للإجهاز على العمل الفلسطيني المسلّح. في انتفاضة ١٩٣٦ - ٣٩، توسّط زعماء العرب الموالون للاستعمار البريطاني (من لبنان إلى السعوديّة) لتهدئة الشعب وإقناعه بضرورة إعطاء الفرصة للمستعمر البريطاني من أجل أن يحدّ من اندفاعة ثورة الفلاحين على أرض فلسطين (وهذا المُستعمر هو نفسه الذي استعمر فلسطين ومنح «وعد بلفور» لأقليّة صغيرة من السكان اليهود).
والقضيّة الفلسطينيّة تقف حجر عثرة أمام النظام الاحتلالي (بالواسطة) الذي أقامته أميركا وإسرائيل في مسيرة أوسلو. سلطة السرقة والنصب والتنسيق الأمني في رام الله تستطيع أن تستمرّ ما دام هناك قمع للقضيّة الفلسطينيّة وحركات المقاومة. لهذا، فإنّ سلطة الاحتلال والراعي الأميركي سمحا بخلق جهاز شرطة فلسطيني وتسليحه بما يساهم في قتل الشعب الفلسطيني لو حاول الانقلاب على أوسلو أو أن يقاوم الاحتلال - وهذه عقليّة أميركا نفسها في تسليح الجيوش العربيّة في الدول المجاورة لفلسطين: المسموح هو قمع الشعب وليس إطلاق رصاصة واحدة ضد إسرائيل. تسمح الإدارة الأميركيّة لجوزيف عون في لبنان باستعمال السلاح والتجهيز الأميركي لمطاردة شوالات البطاطا وأكياس مساحيق الغسيل «برسيل» والتنباك المُعسّل على الحدود الشرقية، على أن يمتنع عن إطلاق رمية حجر على العدو الإسرائيلي، ولو اخترق الحدود اللبنانيّة.
أولاً، وحدة الشعب الفلسطيني. استطاع الشعب الفلسطيني في يوم ١٨ أيّار، بعد ثلاثة أيّام من ذكرى النكبة، أن يعلن يوم الإضراب العام ضد وحشيّة الاحتلال. ويوم الاحتجاج هذا كان فعل توكيد على وحدة الشعب الفلسطيني بعد أكثر من قرن من محاولات التهجير والتفتيت والتقسيم وزرع الشقاق. إنّ مشاركة الشعب الفلسطيني في أراضي ١٩٤٨ في الاحتجاج في فلسطين، دحض إلى غير رجعة كلّ المؤامرات لتقسيم الشعب الفلسطيني. ووحدة الشعب الفلسطيني ليست حالة عاطفيّة، بل هل تنسف أسس كل منطق ما يُسمّى بـ»حلّ الدولتيْن». وكان جارد كوشنر قبل أشهر فقط، عندما أطلق «اتفاقيّات إبراهيم»، يعلن أنّ عهد إيلاء القضيّة الفلسطينيّة قد ولّى، وأنه يمكن حلّ الصراع العربي - الإسرائيلي من دون التطرّق إلى القضيّة الفلسطينيّة. وقد وافقه على نظرته هذه طغاة السعوديّة والإمارات والبحرين والمغرب. و»حل الدولتيْن» (والذي بات ركناً في مؤامرة السلام العربي) يفترض أنّ الوضع في إسرائيل حسنٌ وأنّ هناك ديمقراطيّة إسرائيليّة يتمتّع فيها المواطنون بالحقوق والواجبات، ويحق لعربي (صهيوني صفيق) حتى أن يصل إلى المحكمة العليا، وأنه لم يتبقَّ من حلّ للقضيّة إلا إقامة دويلة بسلطات بلديّة في الضفة والقطاع (الطريف أنه قبل أيّام فقط من اندلاع المواجهات في اللد وفي غيرها من مدن فلسطين ١٩٤٨ أنّ الكاتب اللبناني في صحيفة الأمير محمد بن سلمان، «الشرق الأوسط»، حازم صاغية، كتب أنه من حق بنيامين نتنياهو أن يزهو بوضع الفلسطينيين في أراضي ١٩٤٨). كانت كلّ إيديولوجيّة «الدولتيْن» تحتاج إلى فرضيّة تبنّي الشعب الفلسطيني في أراضي ١٩٤٨ العقيدة الصهيونيّة والمواطنة الإسرائيليّة. لكن المشروع الصهيوني نفسه لا يعترف بذلك ولا بالمواطنة، ولا يستطيع. إنّ قانون القوميّة في عام ٢٠١٨ اعترف بكثير من الصراحة بأنّ حق تقرير المصير هو حق حصري باليهود - هذا كان في أساس وعد بلفور طبعاً، والذي لم يمنح الفلسطينيّين إلا حقوقاً بلديّة في جمع القمامة وحراسة الشوارع. لم تكن الدولة الليبراليّة ذات الملامح التكافليّة (المزيّفة) في عام ١٩٤٨، تقلّ عنصريّة وعدوانيّة عن دولة نتنياهو. لكن الدولة الصهيونيّة الحديثة لم تعد تكترث لمخاطبة الغرب بلغة تلطّف من عنفيّة وعنصريّة المشروع الصهيوني. إنّ مروحة الأحزاب السياسيّة الصهيونيّة مالت كثيراً نحو اليمين ومتوجّبات المنافسة الانتخابية تقتضي منافسة في العنصرية والعدوانيّة. «حزب العمل»، الذي كانت «منظمّة التحرير» تعوّل على فوزه في الانتخابات لم يعد يحصل على مقاعد تفوق عدد أصابع اليد الواحدة. «حزب العمل» كان أفضل جهاز دعاية لتقديم المشروع الصهيوني في الغرب، والترويج له بحجاب ليبرالي. و»حزب العمل» ليس إلا حزب نتنياهو لكن بخطاب موجّه إلى الغرب.
ووحدة الشعب الفلسطيني في الاحتجاجات الدائرة ستفرض على أجندة أيّ نقاش في الحلول المقترحة للقضيّة الفلسطينيّة مواجهة حقيقة نفور الشعب العربي (بعد كل هذه العقود) من الدولة اليهوديّة. ليس في مؤامرة «مشروع السلام العربي» أي نقطة تخاطب وضع الشعب العربي في داخل الخط الأخضر. النظام السعودي قدّم للدولة الصهيونيّة خدمة في إسباغ الشرعيّة على ديمقراطيّتها وعلى مزاعم الدولة الباطلة عن المساواة تحت الصهيونيّة. مشروع الدولتيْن اتضح زيفه أمام أنظار العالم: للمرّة الأولى باتت أصوات صهيونيّة في الغرب تلفت النظر إلى عدم رضى العرب عن وضعهم في داخل فلسطين ١٩٤٨. والمشاركة العربيّة في الانتخابات عبر السنوات كانت خير معين للدعاية الصهيونيّة لأنّها صوّرت النظام السياسي على غير حقيقته، تماماً كما أنّ المجالس التشريعيّة كانت تضمّ سوداً في جنوب أفريقيا تحت حكم الأبرثايد.
إنّ الفصل بين أفراد الشعب الفلسطيني وبين أهل فلسطين والعرب كان من عمل ياسر عرفات. والتقدّم في تحرير فلسطين يستدعي مراجعة للتاريخ الفلسطيني المعاصر ودور عرفات في نكبة أوسلو التي - بالنيابة عن الاحتلال - قضت على الثورة الفلسطينيّة المسلّحة التي انطلقت في الستينيّات من القرن الماضي. وتسوية أوسلو تطلّبت ليس فصل وضع فلسطين ١٩٤٨ عن الضفة والقطاع فقط، لكن هي تضمّنت أيضاً فصل الضفة عن القطاع (لا تلحظ أوسلو ربطاً سياسياً وكيانيّاً بين القطاعيْن) وفصل الشعب الفلسطيني عن الشعب العربي. يروي الياس الشوفاني في مذكّراته كيف أنّ العمل الطالبي العربي في العالم كان هو قائد النشاطات الفلسطينية. لكنّ أوامر أتت من ياسر عرفات (وبتنفيذ من السيّئ الذكر نفسه، محمود عبّاس) لقطع الصلة بين اتحادات طلبة فلسطين وبين اتحاد الطلبة العرب. كان هذا ضروريّاً في السبعينيّات كي يستطيع ياسر عرفات تمرير سياساته التنازليّة والتسوويّة. إنّ المحنة الحاليّة هي من صنع ياسر عرفات: لم يترك في داخل فلسطين مؤسّسة فلسطينيّة واحدة باستثناء جهاز الشرطة والاستخبارات الذي أعدّه ودرّبه الجنرال الأميركي، دايتون، من أجل أن يتخصّص في التجسّس على الشعب الفلسطيني ورصد حركات المقاومة لوأدها. وينسى البعض أنه في زمن عرفات كان يتمّ التنكيل بالمقاومين كي تكسب القيادة السياسيّة رضى الراعي الأميركي والشريك الإسرائيلي. لم يعد الشعب الفلسطيني يتحمّل ثمن التغطية على ياسر عرفات. إنّ تقويض تلك الأسطورة ضروري للتقدّم نحو الأمام وابتكار وسائل مقاومة جديدة - تماماً كما أنّ تقويض النظام اللبناني يتطلّب تقويض أسطورة رفيق الحريري.
إنّ وضع الشعب الفلسطيني في داخل فلسطين ١٩٤٨، لم يعد شأناً إسرائيليّاً كما أرادته مسيرة أوسلو. من فضائح ياسر عرفات أنه كان أول زعيم فلسطيني يقبل بتشتيت الشعب الفلسطيني في القانون الدولي، والتخلّي عنه لمصلحة دولة العدو. إنّ تتبّع مسيرة ياسر عرفات في كتاب الشجاع، محمد دلبح، «ستون عاماً من الخداع»، يفصّل مراحل دفن الثورة الفلسطينيّة بقرار من عرفات بالتشارك مع أنظمة الخليج التي تقود التطبيع اليوم. حتى في ما يُسمّى بمسيرة «السلام»، لم يعد ممكناً اليوم تجاهل وضع الشعب الفلسطيني في داخل الخط الأخضر. استفزّ الصعود الصهيوني العنصري المُجاهِر حساسيات الشعب الفلسطيني المكبوت وأطلق هبّة لم تشهدها تلك المناطق منذ سنوات. قد ينظّر أحدهم أنّ ديمقراطيّة وصهيونيّة الدولة وقعتا في تناقض متزايد، لكن هذا التناقض كان في فلسفة التأسيس. إنّ الوثائق الجديدة من أوراق بن غوريون تكشف أنّ الزعماء الصهاينة المؤسّسين كانوا على علم بطبيعة النظام المُنشأ وأنه يحتاج إلى العنف المؤسّسي لفرضه على العرب - السكّان الأصليّين. لا يمكن على أجندة العمل الوطني الفلسطيني بعد اليوم أن تفصل بين مواقع تواجد الشعب الفلسطيني. لا ياسر عرفات ولا غيره يستطيعون أن يبيعوا حقوق الشعب الفلسطيني بعد اليوم، خصوصاً أنّ ثمار البيع لم تكن إلا المزيد من القتل والضم والقمع.
ثانياً، دفن «اتفاقيّات إبراهيم». إنّ «اتفاقيّات إبراهيم» كانت طموحة للغاية. هي افترضت أنّ الوظائف والرفاهية هي كلّ ما يشغل الهم الفلسطيني والعربي الشبابي العام. الافتراض أوكل إلى دولة الإمارات - التي تشكّل عند كثيرين في الجيل العربي الجديد - مكان عمل مفضّلاً بسبب رفاهية نمط العيش فقط للميسورين، وليس للعمّال الأجانب. يعلم الذي يعمل في دبيّ أنّه بتواجده هناك يدخل في صكّ اجتماعي - سياسي مع الدولة، ومفاد هذا الصكّ: أنّ العربي يسلّم للدولة كرامته وحريّته ولسانه مقابل وظيفة عمل - وهي تختلف من حيث المرتّب بين شخص وآخر. لكن حتى الذي يدير شركة في دبي: له من انعدام الحقوق السياسيّة وحريّة التعبير والكرامة ما لدى العامل الآسيوي هناك. والدولة الإماراتيّة نموذج متطوّر وحديث للدولة البوليسيّة الجديدة التي ستكون محتذاة في كل الدول العربيّة عندما تكون لها قدرات ماليّة تسمح لها بإنشاء أجهزة المراقبة والتجسّس الإلكتروني التي تمدّه إسرائيل وأميركا لبعض الدول العربيّة. وفلسفة جاريد كوشنر اعتمدت مبدأ دفن القضيّة الفلسطينية: إنه يمكن تجاهل القضيّة الفلسطينيّة وهي تزول، لوحدها، عبر تقادم الزمن. والإفراط في الحديث عن مليارات في المعونات المالية لدول الطوق العربيّة لم يكن إلا محاولة لتخدير وشراء الجيل العربي الجديد.
الأنظمة العربيّة، المتمثّلة بجيل محمد بن سلمان ومحمد بن زايد ومحمد بن راشد، فاوضت دولة العدوّ وإدارة دونالد ترامب بالنيابة عن الجيل العربي الجديد. هؤلاء، لا يعرفون من الجيل العربي الجديد إلا هؤلاء اللبنانيّين المتذلّلين على أعتابهم والذين يعملون في الإعلام والأعمال والطاعة في دبي والرياض. اقتنع هؤلاء بأنّ القضيّة الفلسطينيّة قد ماتت. وردّد هذه المقولة صهاينة الغرب، بمن فيهم الكاتب في صحيفة «نيويورك تايمز»، توماس فريدمان. فريدمان نفسه كان قد طبّل لـ»اتفاقات إبراهيم» واعتبرها إنجازاً لاستقرار المنطقة. لكنّ الرجل معروف بأنه يستطيع أن يأخذ الموقف ونقيضه: هو أيّد الحرب الأميركيّة ضدّ العراق، وعندما ثبتَ فشلها وتحوّل الرأي العالم الأميركي ضدّها، عاد وانتقدها وكتب في ضرورة إنهائها (مع ضرورة الحفاظ على قوّات احتلال أميركيّة لتدريب القوات العراقيّة - لا يسأل أحد عن فائدة التدريب الأميركي للجيوش العربيّة: الجيش اللبناني لم يقوَ على مواجهة «داعش» و»النصرة» في عرسال، والجيش العراقي تراجع أمام تقدّم عصابات «داعش» فيما الجيش الأفغاني الذي أنفقت عليه أميركا المليارات ينهار أمام تقدّم «طالبان»). وفريدمان بعد أحداث الأيام الماضية عاد وكتب - متناسياً أننا نذكر ما كتبه من قبل - أن الذين افترضوا أنّ القضيّة الفلسطينيّة قد ماتت هم مخطئون. ستعود القضيّة الفلسطينيّة إلى الواجهة، عن جديد. وليس هناك ما يرفض القضيّة الفلسطينيّة على الأجندة الدوليّة إلّا العنف السياسي: كانت انطلاقة الثورة الفلسطينيّة في الستينيّات العنصر الأساس في ترسيخ كلمة فلسطيني في الذهن الغربي والعالمي. ومع كل المراجعات والإدانات للسلاح الفلسطيني، فإنه هو - وليست الخطابة أو الشعر أو قرع الطناجر، وقرع الطناجر وسيلة تغيير ثوري مُحبّذة في لبنان - الذي أوصل عرفات إلى الأمم المتحدة. تستطيع أنظمة التطبيع أن تطبّع، لكن نتائج التطبيع باتت واضحة. مضى النظام الإماراتي بعيداً (أكثر من أي نظام تطبيعي عربي آخر) لكنه لم يحصد، عربيّاً، إلّا نتائج سياسيّة سلبيّة، كما أن دول الغرب باتت تدرك أنه لا يمكن لهذا النظام - خصوصاً بعد التطبيع - أن يبيع القضيّة الفلسطينيّة للغرب. أما محمد بن سلمان، فقد أدّت أحداث الأيام الماضية إلى تأجيل مشروعه للتطبيع مع إسرائيل. ومع حاجة محمد بن سلمان إلى رعاية من جو بايدن كي يصل إلى العرش، فإن قدرته على التطبيع باتت محفوفة بمخاطر داخليّة. وقد أظهرت صفحات مواقع التواصل في السعوديّة والإمارات، خصوصاً في تراتبيات الهاشتاغات في الأيام الأولى، أنّ القضيّة الفلسطينيّة ما زالت أولويّة في الشعوب الخاضعة لحكم الطغاة التطبيعيّين. لكنّ النظاميْن استدركا الأمر بسرعة وأوكلا مهمّة تغيير تراتبيات الهاشتاغات كي تصبح «فلسطين ليست قضيّتنا» في المرتبة الأولى في البلديْن (لكنّ خبيراً بريطانياً أكّد لي أنّ ذلك كان من عمل حسابات الـ»بوت» وليس من صنع حسابات بشريّة).
ثالثاً، إطاعة محمود عباس. كيف يمكن للشعب الذي صدّر كلمة فدائي إلى كلّ لغات العالم أن يقبل برئيس عصابة أوسلو، محمود عبّاس، رئيساً (غير منتخب) عليه. إنّ الطريق إلى تحرير فلسطين، قبل المرور في العواصم العربيّة، بحسب ما دعا عن حق، جورج حبش، يجب أن تمرّ أولاً في رام الله. إنّ سلطة أوسلو عقبة رئيسة أمام تنظيم عمل فلسطيني مقاوم. وكلّ التنظيمات الفلسطينيّة، بما فيها الجبهة الشعبيّة لتحرير فلسطين، متواطئة مع نظام أوسلو. ويعتمد نظام أوسلو على إخضاع وتسكين المعارضة الفلسطينيّة الداخليّة عبر منح كلّ التنظيمات فتات التمويل المشبوه لمنظمة التحرير. وبناءً عليه، ترى قادة للجبهة الشعبيّة يجتمعون تحت إمرة محمود عبّاس (الذي يمثّل في شخصه ومسيرته ودوره، النقيض الأبرز لكل نضالات جورج حبش) وهم يخاطبونه بلقبه المفضّل: «الأخ سيادة الرئيس أبو مازن»). لم يقتل محمود عبّاس جذوة النضال والثورة في الشعب الفلسطيني الذي تستمرّ ثورته على مدى أكثر من قرن، لكن إمكانيّة إطلاق ثورة فلسطينيّة جديدة مستحيلة بوجود سلطة أوسلو. إطاحة سلطة أوسلو تكون كلمة السرّ لإطلاق مقاومة فلسطينيّة جديدة ومتجدّدة تتعلّم من أخطاء الماضي المرّ.
لكنّ الإطاحة بنظام أوسلو لوحده لا ينفع. على المقاومة الفلسطينية الجديدة أن تعود إلى الصفر. هناك حركات مقاومة حاليّة لكنّها تعاني إما من الترهّل أو من الفساد أو من ترسّبات الحكم في السلطة في غزة أو من كل هذه العوامل مجتمعةً. شرطة القمع الفلسطينيّة لا يمكن أن تستمرّ في مهامها إذا ما تصاعدت انتفاضة الشعب الفلسطيني. ونظام أوسلو قائم على الفساد والمحاصصة (بين الشخصيّات والتنظيمات الفلسطينيّة) والقمع المباشر لمنع الشعب الفلسطيني من الثورة على الاحتلال وعلى أدوات الاحتلال. طبعاً، هناك أيضاً نظام من التطويع غير القسري القائم عن انتشار الـ»إن.جي.أوز» التي تستقطب النخب المثقفة والمتعلّمة. هؤلاء عماد أساسي في تسكين وتخدير الشعب الفلسطيني، وتغيير خطابه جذريّاً. تقرأ كلمات أياد السرّاج في مقالة لنيكولاس كريستوف، في الـ»نيويورك تايمز»، فتظنّ أنك تقرأ لمسؤول في وزارة الخارجيّة الأميركيّة وليس لشخص يعيش آلام شعبه في غزة. يقول السرّاج للصحيفة إنّ الصراع يعزّز المتطرّفين في الطرفيْن، وإنّ أحدهما يحتاج إلى الآخر. هذه الفكرة عن التوازي في المعاناة، وحتى في التطرّف، تخدم الدعاية الصهيونيّة في الغرب لأنها في المحصّلة تخفّف في تصوير معاناة شعب فلسطين وتعظّم من المعاناة المفترضة للمحتلّ.
القضيّة الفلسطينية لم تمت، لكنّها تمرّ بمراحل مختلفة. الشعب الفلسطيني أشعل ثورة مسلّحة، في عام ١٩٣٦، وهي استمرت على مدى ثلاثة أعوام وكان الفلاحون عمادها. لكنها تعرّضت للتآمر من قبل الهاشميّين والأنظمة العربيّة الخاضعة للاحتلال، ومن قبل العائلات الفلسطينيّة المتعاونة مع الاحتلال البريطاني، مثل النشاشيبي. لكن الشعب الفلسطيني مرّ في استكانة فظيعة بعد النكبة بالرغم من محاولة النظام الناصري مدّ يد العون لحركة مسلّحة في غزة. ومع كل فصل من تاريخ القضية الفلسطينيّة الطويل، يوهم العدوّ نفسه أنّ هذه الاستكانة التي يمرّ بها شعب فلسطين ستكون الأخيرة، أو الضربة القاضية، لكنّ الشعب الفلسطيني يفاجئ عدوّه مرّة تلو أخرى.
والصراع الأخير مهم استراتيجيّاً في المنظور التاريخي. قدرة المقاومة في غزة على إطلاق الصواريخ، بالرغم من صعوبة الحركة والحصار في غزة، متقدّمة جداً عن وضع المقاومة الفلسطينية والحركة الوطنيّة في لبنان قبل عام ١٩٨٢. لم تكن قدرة المقاومة في لبنان على إزعاج العدوّ تتعدّى إطلاق صواريخ الـ»كاتيوشا» التي هي ألعاب ناريّة مقارنةً بالصواريخ التي في حوزة مقاومة غزة، حتى لا نتحدّث عن القدرات الهائلة للمقاومة في لبنان. يعلم العدوّ أنّ تقدّمه العسكري وتفوّقه الجوّي يصبحان أقلّ قوّة إذا ما قيسا بتطوّر قدرات المقاومة الفلسطينيّة واللبنانيّة، وبتطوّر المقاتل الشجاع في لبنان وغزة. شبح الخوف من الجيش الإسرائيلي الذي ترسّخ في عام ١٩٤٨ وتعزّز في حرب ١٩٦٧ راحَ إلى غير رجعة. الخوف هو عامل في مصلحة المقاومة العربية، لأنّ الجندي الإسرائيلي الجديد لا يقيس الحرب المقبلة بانتصارات ١٩٦٧ أو ١٩٤٨، وإنّما بهزيمة حرب تمّوز وبفشل الحربيْن الأخيرتيْن في غزة. هذه الحقائق ليست عصيّة على الاستيعاب عند جيش العدوّ، وهي - لا أبراج مراقبة شوالات البطاطا وأكياس «برسيل» على الحدود الشرقيّة - التي تمنع العدوّ من الاعتداء على لبنان، مع أن الاعتداء على لبنان كان ركناً ثابتاً في سياسته نحو لبنان منذ ١٩٤٨. المقاومة التي هزمت إسرائيل هي التي تردع إسرائيل، وليس - بحسب ما قال الخبير اللبناني، محمد رمّال، لصحيفة الصهيونيّة العربيّة، «الشرق الأوسط» - انتشار الجيش اللبناني في الجنوب.