مقالات مختارة
تجاهل لبناني للشراكة مع الصين في خضم واقع إقتصادي مأزوم
موقع الصين بعيون عربية - محمد زريق
للأسف يبدو أن المشهد الاقتصادي اللبناني يسير على خطى سيناريو الدول المنهارة وبسرعة قياسية، إنني غير متفائل فلا بصيص للأمل يلوح في الأفق ومن المرجح أن تكون سنة 2021 “عام الانتكاسة الاقتصادية اللبنانية الكبرى”. إن جائحة كورونا قد فرضت واقعا اقتصاديا جديدا على غالبية الدول، فالكثير من كبرى المؤسسات قد أعلنت إفلاسها وتحول العالم إلى نظام الرعاية الاجتماعية والمساندة الاقتصادية للاسر خصوصا في أيام الحجر والاقفال العام. إلا أن الأزمة اللبنانية قد بدأ التمهيد لها من قبل ظهور جائحة كورونا. لقد تم تجهيز الاعلام اللبناني بالاسلحة السيكولوجية لبث السموم ضد السلطة اللبنانية ومشاهد الشغب والتكسير والشتائم المدعومة خارجيا وداخليا لم تنتهِ؛ كل هذه أدوات فعّالة سلبيا وقد أدت مهمتها على أكمل وجه في تدمير الوطن وإنهاكه على كافة المستويات.
إن المشكلة الاقتصادية اللبنانية تعود إلى قرار خارجي اتخذته حكومة الولايات المتحدة الاميركية، قرار الإفقار والتجويع، هذا ما لا يقال في العلن. منعت إدارة الرئيس ترامب تحويل الأموال من الخارج إلى لبنان بالعملة الصعبة فقد بات استلام الأموال مفروضاً بالليرة اللبنانية ترافقا مع انخفاض سعر صرف الليرة اللبنانية أمام الدولار. الخطوة الثانية منع المصارف اللبنانية من تسليم الودائع للّبنانيين بالعملة الصعبة، بالتالي خسر المودع أكثر من نصف قيمة الودائع في حال وافق على سحب الاموال وفق قيمة الصرف التي يحددها المصرف. الخطوة الثالثة منع المساعدات الدولية عن لبنان، عربيا وأجنبيا، فبات البنك الدولي يربط مساعدة لبنان بحفنة من الدولارات بشرط ترسيم الحدود مع اسرائيل، مع الاصرار على الحدود البحرية التي تحتوي على النفط ولكن وفق الشروط الدولية، إضافة الى إبقاء اللاجئين السوريين وتمرير مطالب مثل التوطين، هذه الشروط التعجيزية أفشلت مساعي الوفد اللبناني إلى البنك الدولي.
صحيح أنه يتم نعت النظام اللبناني “بالديموقراطي” بيد أن النظام المصرفي في لبنان هو “ديكتاتورية مُقنّعة”، فحاكم مصرف لبنان هو حاكم بأمره وليس بأمر السلطة السياسية ولا حتى بأمر الشعب. تنص المادة 26 من قانون النقد والتسليف وإنشاء المصرف المركزي، أن الحاكم يتمتع بأوسع الصلاحيات لإدارة المصرف العامة وتسيير أعماله. الحقيقة هي أنه لا أحد قادر على إيقاف حاكم مصرف لبنان أو وضع حد له، فللمصرف المركزي سلطته الخاصة والمستقلة عن باقي السلطات اللبنانية. يمارس حاكم المصرف سلطته منفردا وفي بعض الحالات ضمن هيئات إلا أن القرار الأخير يعود له، اكتسب الحاكم الصلاحيات الواسعة ولا يزال يطمح الى توسيع صلاحياته أكثر بالرغم من الانهيار الاقتصادي الكلي في لبنان. إن دور نواب الحاكم الاربعة استشاري ولا يؤثر على قرارات الحاكم، هو يعين ويقيل موظفين، وتطبيق قانون النقد والتسليف منوط به. لقد منح القانون اللبناني حاكم المصرف صلاحيات كثيرة وواسعة، كما أنه بات الوصي على السياسات المالية والنقدية للدولة.
يُشاع أن لبنان بلد مكتفٍ نقديا والدولة اللبنانية تمتلك رساميل غير متحركة تضخ أموالاً طائلة، أنا أؤيد هذا الطرح. إن المصارف اللبنانية تمتلئ بأموال المودعين المحليين والعرب والدوليين وهي مبالغ طائلة، إضافة إلى تحويلات المغتربين الدائمة التي تشكل شرياناً حيوياً للاقتصاد اللبناني بالعملة الصعبة. بالتالي إن طرح الحاكم بأن لبنان بلد منهار ومفلس اقتصاديا هو جزء هش من السيناريو الاميركي الذي يهدف إلى “إفقار وتجويع” اللبنانيين عن طريق تجفيف السوق اللبناني من العملة الصعبة بالوسائل التي تم التطرق إليها مسبقا وثم تسليع الدولار والتلاعب بسعر صرفه. إن أيّ اقتصادي ومصرفي لبناني من رأس الهرم وصولا إلى أصغر موظف وافق على تنفيذ هذه القرارات الاقتصادية المجحفة بحق لبنان هو خائن وأسوأ من العميل بحق شعبه وناسه، إن الشرف يقتضي التنحي وعدم سلوك النفق المظلم.
إن النظام الرسمي اللبناني طالما كان مواليا للغرب وتابعا للخارج بشكل مباشر أو غير مباشر، ففرنسا كانت الوصية على لبنان وهي الدولة التي منحت لبنان استقلاله ولا يزال فريق كبير من اللبنانيين مرتبطاً بهذه الدولة، ففرنسا لا تزال روحيا حاضرة دائما في لبنان، فالوضع السياسي المتدهور اضطر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون القدوم شخصيا إلى لبنان وجمع الاقطاب السياسية كافة ووضع خارطة طريق. ارتبط لبنان اقتصاديا بدول الخليج العربية، فقد كانت هذه الدول الممول الاساسي للبنان في إعادة الاعمار وتمويل المشاريع الاقتصادية وتعزيز السياحة وفي هذه الدول جزء كبير من العمالة اللبنانية التي تدر الأموال بالعملة الصعبة إلى لبنان، وقد كانت السعودية راعية للوفاق الوطني في الماضي فقد دعت إلى اتفاق الطائف لإنهاء الحرب الأهلية اللبنانية، كما أن لرئاسة الحكومة اللبنانية ارتباطاً معنوياً بالمملكة فالرضى السعودي شرط دائم لتشكيل الحكومات. الطرف الأكثر تأثيرا هو الولايات المتحدة الاميركية عن طريق الارتباطات المالية والقوانين المصرفية، للولايات المتحدة قوة معنوية اقتصادية وسياسية مؤثرة بشكل كبير على لبنان، فالأزمة الحالية التي يمر بها لبنان مرتبطة بشكل أساسي بقرارات من الادارة الاميركية تماما كما هو الحال في فنزويلا وإيران وغيرها.
للأسف بالرغم من العلاقات التاريخية للبنان مع أصدقائه الغربيين، إلا أن القرار كان رمي هذا البلد عند أول مفترق طرق والتخلي عنه واتباع سياسة إفقار وتجويع لوطن فريد ومتنوع ثقافياً وحضارياً ودينياً واجتماعياً. إن الصداقة الحقيقة تظهر أوقات المحن والصعوبات، فبات من الجلي أن لبنان لا يعدو كونه أداة بيد الغرب لتحقيق أهداف وتمرير مصالح في منطقة الشرق الاوسط. يبدو أن هذه الاداة لم تعد مجدية فتم التخلي عنها. إلا أنه في الشق الشرقي من الكرة الارضية دول وحكومات وشعوب لم تتبع يوما طريق الهيمنة وفرض القرارات على أصدقائها، وأخص بالذكر الدولة الصينية. إن سياسة الصين الخارجية تنص على مبادئ عدم التدخل بالشؤون الداخلية للغير واحترام سيادة الدول الأخرى والمنفعة المشتركة.
إن كل الدول القوية التي ذكرها التاريخ القديم والمعاصر قد استعبدت الشعوب ونهبت الثروات ووسّعت الشرخ بينها وبين الدول الفقيرة. إلا أنه من الواضح أن الصين لا تطمح لتكون قطباً أو لتتفرد بحكم العالم كما فعلت الولايات المتحدة ومن سبقها، فقد قال الرئيس الصيني شي جين بينغ إن الصين تطمح لبناء “مجتمع تشاركي وفق عقيدة المصير المشترك”. إن الدولة الصينية تفكر بال “نحن” ولا تفضل ال “أنا”.
للبنان تجربة مريرة وفاشلة مع الغرب، إن التحالفات الراسخة مع أهم العواصم الغربية أدت إلى انهيار اقتصادي وفشل ذريع على المستويات كافة. بالمقابل إن اليد الصينية كانت ولا تزال ممدودة دوما باتجاه لبنان، هذا ما عبّر عنه السفير الصيني وانغ كيه جيان، ولكن بشرط التعاون الحكومي اللبناني الرسمي مع الجانب الصيني. إن أهم العواصم الغربية والعربية تتجه شرقا وتوسع من علاقاتها الاقتصادية والسياسية مع الصينيين، لكن يبدو أن ما هو مسموح لهم مُحرم علينا. إن القرار الاميركي متخذ منذ سنوات بعدم دخول لبنان بحلف مع الصينيين أو شراكة استراتيجية لأن ذلك يتناقض مع المصالح الاميركية، مع الاخذ بعين الاعتبار الجغرافيا السياسية للبنان على الحدود مع سوريا وإسرائيل والبحر المتوسط. فقد رفضت الحكومة اللبنانية سابقا عرض شراكة متكامل مع الصينيين، أو بالأحرى طلبت تأجيل هذه الشراكة، بالوقت الذي تتهافت الدول المجاورة من كل حدبٍ وصوب على الشراكة مع الصين، على سبيل المثال لا الحصر: مصر وإسرائيل والامارات العربية المتحدة وغيرها.
إن عادة الفرنجة وتفضيل كل ما هو غربي لدى مجموعة من اللبنانيين قد أدخلت الوطن بالنفق المظلم وشريحة من اللبنانيين لا تزال مصرة على الشراكة مع الغرب وترى أنه لا جدوى من الشراكة مع دول شرقية. إن لبنان في هذه المرحلة قابع في الهاوية فهو ليس في حلف مع الشرق ومرتهن الى الغرب، هذا الواقع لا يجب أن يستمر، بالتالي يجب اتخاذ القرار الجريء إما الارتهان الكلي للغرب والرضوخ الكامل أو الحلف مع الشرق بالتالي استبدال الحلفاء الغربيين بحلفاء شرقيين مع الابقاء على بعض الصداقات والعلاقات الجيدة مع الدول الغربية التي تحترم سيادة لبنان ولا تتدخل بقراره الداخلي.
إن قراري وقناعاتي هي أن المخرج الوحيد للبنان جديد هي بتحالفات جديدة ونظام جديد يسلم زمام المبادرة لشباب مختص بعيدا عن المداخل السياسية والرسمية، هذا ما طرحه الوفد الصيني في ما يتعلق بشراكته مع لبنان.
من غير المفروض الانتظار أكثر وتضييع الوقت، فعامل الوقت بات سلبياً على لبنان، فهو يفاقم من تدهور الوضع الاقتصادي. أنا أتوجه إلى فخامة رئيس الجمهورية لأخذ هذه الرسالة الصريحة بعين الاعتبار “إن خلاص لبنان هو بالتوجه شرقا ومد اليد للصينيين”. عند انتخاب رئيس الجمهورية العماد ميشال عون توجه الرئيس الصيني شي جين بينغ إليه برسالة في 4 تشرين الثاني 2016 تنص “إنني أعلق أهمية كبيرة على تطوير العلاقات الصينية اللبنانية من أجل بذل جهود مشتركة معكم لمواصلة تطوير العلاقات الودية والتعاون المتبادل بين الصين ولبنان، مما يعود بالفائدة على البلدين والشعبين بشكل أفضل”. إن نية التعاون والشراكة موجودة لدى الصينيين، إلا أن هذه الشراكة لن تتحول إلى واقع إلا بمد اليد اللبنانية رسمياً إلى الجانب الصيني كما أشار السفير وانغ كيه جيان. إن قضية الشراكة اللبنانية-الصينية ستبقى حاضرة ولن نتوقف عن المناداة بتحقيق هذه الشراكة إلى أن تصبح واقعاً وشراكة كاملة وأن ترتقي العلاقات اللبنانية الصينية إلى مستوى العلاقة فوق العادة.