مقالات مختارة
ماذا يقول آلان باديو عن حزب الله؟
محمد مطر - صحيفة الأخبار
صيغة الفعل المضارع في العنوان هنا، مقصودةٌ لذاتها. فالمفكّر الفرنسي آلان باديو لا يكفّ عن القول، وعن متابعة ما قاله من قبل. هناك من لا يثبت على قول واحد، بل تراه يتقلّب ذات اليمين وذات اليسار، بحسب ما تُمليه عليه مصالحه الآنية. متعدّدو الآلهة هؤلاء، يتنقّلون بينها كالبغايا، ويعبدون كل إلهٍ منتصر منها على حرف. باديو ليس من جنس هؤلاء. عنيد، متصلّب، أيديولوجي، ومجنون حتّى. تلك نعوتٌ اعتاد أن تُلقى بوجهه كقنابل يدوية من قِبَل خصومه عندما تعوزهم الحجة معه أو تخيب ظنونهم عند مقارعتهم له بالكلام. قيل الكثير فيه وعنه، معه وضدّه، ولم يتوقّف هو بدوره عن القول الخاص به، وردّ الاعتبار لما يبدو أنّه قد أصبح اليوم بلا أي اعتبار أو قيمة: الفرضية الشيوعية! لكن قيمة كل قيمة في نظر باديو هي في كونيّتها، ما يُبقيها في الواقع نضالاً مفتوحاً من أجل التغيير الفعليّ. فليست هناك نظرية جاهزة للتطبيق المباشر. ينبغي للـ«ذوات المُخلصة» أن تُعيد اختراع السياسة، بحيث يكون لسؤال العدالة وتحرير المجتمع من علاقات الهيمنة التي تفرضها عليه سلطة الرأسمال، دور البوصلة الحقيقية في هذه الرحلة الشّاقة. وهي رحلة غير آمنة البتّة؛ لأن نتائجها المرجوّة تتوقّف على فعل دقيق هو أشبه بالتقاط التماعة عابرة في سماء حالكة أي ما يُسمّيه باديو: الحَدَث. ثمّة ضرب من نبوءة مُعلْمَنة تتمسّك بعالم أرضيّ واحد، لكن مع سعي لا ينقطع بتغييره وقلْب منطق ظهوره. الحبّ نفسه بالنسبة إلى باديو هو إشارة صريحة إلى حَدَث غير آمن، إلى لقاء بين اثنين نسجته خيوط الصدفة، ويلزم عنه انهيار منطق الواحد. الخطر أو «رمية النرد» هو ما لا يريده النظام السائد في العالم المعاصر حفاظاً على تفوّق الرأسمالية المعولمة والإمبريالية الجديدة المُتمثّلة اليوم بعمليات «إهلاك الدول». الحبُّ صار بديلاً عنه الجنس المُعمّم، والزواج المحسوب بالنقاط على مواقع التعارف المُنتشرة كفطريات على جلد العالم. عليك الابتعاد عن المخاطر- يقول لك الرأسمالي-، وتجنّب الانخراط في حركات رافضة للواقع أو مناهضة لتحوّل الحضارة الإنسانية إلى جزيرة معزولة وسط بحر هادر من شبه الدول الفقيرة والجائعة. باديو سيرفع شعاراً مُضاداً: تابع! يقول لك. إذ كل بداية هي إعادة لبداية سابقة. المهم ألا نستسلم أمام الإغراءات وأن نظل نقول ما نحن قائمون أبداً على قوله، بلا يأس أو إحساس بالهزيمة.
لم يجرؤ أحدٌ في فرنسا على مواجهة مشاعر الحقد ضد الإسلام والمسلمين والدعوات المُحرِّضة على الانتقام، بمثل ما فعل باديو عقب مقتلة 13 تشرين الثاني/نوفمبر 2015. قال للفرنسيين حينها إنّ «شرّنا يأتي ممّا هو أبعد»، محذراً إيّاهم من إحالة الصدمة المروّعة تلقائياً إلى هوية ما؛ كأنّ الفرنسي هو الضحية والمسلم هو الإرهابي، متسائلاً عن موقع فرنسا بالضبط في هذه الحادثة الرهيبة؟ يلزمنا برأيه على عكس ما يزعم به المنزع الهويّاتي، بذل الجهد لكي نتبيّن ماذا تعني كلمة فرنسا وفرنسي اليوم بدل أن نُسيّج الواقعة المأساوية بنوع من التماثلات المزيّفة عن هوية واضحة بذاتها. فلا شيء واضحاً بذاته عندما يتعلّق الأمر بالهويّات، لأنّ السردية التي تؤسّسها هي دائمة مُخاتلة. للهويات دائماً أنيابٌ بارزة في وجه الآخرين. إنّ كل مُصاب جلل أو حزن عارم، لا يتم التعامل معه، برأي باديو، على مستوى يشمل الإنسانية جمعاء، بل حصره في بلاغات هوويّة ضيّقة، هو فهم خطرٌ للحدث التراجيدي، سيحوّل، لا مناص، العدالة إلى انتقام بشع. هذا ما فعله الأميركيون في أفغانستان بعد هجمات 11 أيلول/سبتمبر ومن بعده في العراق. على الغرب استئصال عادة راسخة في لاوعيه، يقول باديو، تجعله يعتقد بأنّ ميتاً مُنتمياً إليه أمرٌ جلل، بينما موت ألف في أفريقيا وفي آسيا أو الشرق الأوسط ليس بالحَدَث الكبير. كأنّ هذا الغرب يُريد في لحظة سانحة أمام مصالحه، أن يُغلق باب العقل نهائياً، وأن يتمسّك بحبال الانفعال وثعابينه بالقول: «أنا مصدوم»؛ تمهيداً لإطلاق عقلية الانتقام من عقالها. لا يريد الغرب المسكون بهاجس التفوّق الدائم، أن يعترف بأنّ ليس هناك من شيء يفعله البشر غير قابل للتعقّل، خصوصاً إذا ما أتى هذا الفعل أو بالأحرى ردّ الفعل من سكان العالم الثالث. يدعو باديو لمكافحة هذا السلوك المتطرّف الذي يُصرّ على التعامل مع حوادث الإرهاب التي تضرب مدنه بمنطق: «أنا لا أفهم، ولن أفهم أبداً». ينبغي أن نقف في وجه كل ما يُعلَن أنّه غير قابل للتفكير، وذلك من خلال التفكير فيه وحسب. كل شيء هو موضوع أمام العقل، وليس هناك من شيء يقدر أن يرمي به في التيه أو العجز عن الحكم الصائب على الأمور. يرفض باديو مقولة الشر المحض أو المُطلق الذي يُحلّق عالياً فوق الوضعيات التاريخية. علينا أن نفهم الشر من خلال علاقته بالخير وليس العكس. فحين نفكّر بالشر انطلاقاً من الحقائق، يُصبح بمُكنتنا أن نعقل وقائع كثيرة، بدت عصيّة على الفهم مثل النازية مثلاً أو الإبادة اليهودية في أوروبا. هذه الأخيرة قابلة للتعقّل بردِّها إلى ظروفها السياسية والتاريخية في حقبة النازية الهتلريّة عشيّة الحرب العالمية الثانية. ليس فيها شيء تُمليه القداسة أو الأسطورة. في هذا الإطار يؤكّد باديو على ترافق واقعتين اثنتين: الأولى، سياسة الإبادة النازية ليهود أوروبا؛ والثانية، الصهيونية كحركة ساعية إلى خلق دولة لليهود خارج القارة العجوز. ينبغي التفكير في الإبادة انطلاقاً من هذا التأسيس لـ«دولة» إسرائيل التي باتت تُشكّل برأي الفيلسوف الفرنسي التهديد الأول لحمولة المعنى القديم في كلمة «اليهود» بعدما جرت عملية علمَنَتِها من قِبَل الإمبريالية الرأسمالية.
لا علاقة للأديان بالعصابات المسلّحة التي تجتاح مناطق منكوبة وتسعى لانتزاعها من براثن الرأسمالية المعولمة
صار المعنى المقلوب لها هو إبادة الفلسطينيين وتهجيرهم من أرضهم والاستيلاء على ممتلكاتهم. صار الفلسطينيون هم «اليهودَ الجددَ الحقيقيين»! إنّ الهولوكوست، في نظر باديو، يظل سؤالاً ينبغي أن يُطرح على الألمان وعلى الأوروبيين عموماً وليس للفلسطينيين أو العرب أي دور أو مسؤولية فيه. وعليه، يرى أن حلّ النزاع المستمر في الشرق الأوسط، لن يُكتب له النجاح إلا إذا تمّ التخلّي عن ذريعة الهولوكوست أو طرحها في النسيان؛ وذلك من أجل إعادة إيجاد أساس جديد لدولة مدنيّة واحدة، تجمع فوق أراضيها الفلسطينيين واليهود معاً. هذه الدعوة كانت سبباً كافياً لاتّهام باديو في الأوساط الثقافية الفرنسية بـ«معاداة الساميّة» السّمجة.
علاقة باديو بالعالم العربي لا هي جديدة ولا عابرة. فقد ولد في الرباط- المغرب سنة 1937 حيث كان يعمل والده ريمون باديو أستاذاً للرياضيات، وقد كان من بين تلامذته آنذاك المناضل «المهدي بن بركة». فلطالما كان العالم العربي «يمثل لي أهمية بالغة، بل إنني أعتبره سبباً رئيساً لما أصبحت عليه الآن: مُناضلاً أممياً، ومقاوماً عنيداً لكل أشكال الإمبريالية الغربية» يقول باديو في إحدى مقابلاته. وقد اتّخذ في الثامنة عشرة من عمره موقفاً مناهضاً من الحرب الفرنسية الاستعمارية على الجزائر. كما أنّ أربع مسرحيات فلسفية كتبها، كان بطلها الرمزي عاملاً فرنسياً من أصل جزائري اسمه أحمد؛ شكل بالنسبة إليه نموذجاً لـ«البروليتاري البدوي». وعقب اندلاع ما سُمّي بـ«الربيع العربي» كانت لباديو مداخلات عدّة حول معنى الحَدَث والثورة خصوصاً في الحالة المصرية. كذلك وقوفه ضد الاحتلال الأميركي للعراق وأيضاً ضد الحرب على سوريا وليبيا بات معروفاً وراسخاً في الكتب والمقالات وفي الحوارات التلفزيونية التي صار وجهاً بارزاً فيها سواء في فرنسا أم حول العالم. وفي مواجهة جنون «الإسلاموفوبيا» الذي أصاب العديد من المثقفين في فرنسا وخارجها، تصدّى باديو لهذه الموجة الخطرة، بالدوام على رفع صوته وإطلاق التحذيرات المستمرّة من انتصار السلوكَات الانفعالية واللاعقلانية وهزيمة الفكر، عبر تحميل الإسلام كدين المسؤولية عن الأعمال الإرهابية والإجرامية. لا بدّ أن ننظر إلى ظاهرة الإرهاب المُتنامية بعيداً عن الإسلام يقول باديو. فالإرهاب هو «فاشية معاصرة» متولّدة ومستثارة من طرف الرأسمالية نفسها بوصفها ذات ارتكاسية تتخللها كالسوس من الداخل. ذات ظلامية انقلبت على الغرب وصارت على عداء مستحكم معه، لكنّها تظل مع ذلك على «علاقة رغبة حميمة وسلبية به في آن». هذه الفاشية تختزن في جوفها، بحسب ما يراه باديو، غريزة الموت المُعبَّر عنها في لغة هووية، قد يمثّل الدين عرَضاً قِواماً مُمكناً لها. فالإسلام في هذا السياق، يُستخدم مثل أي دين آخر كتعلّةٍ وكغطاء بلاغيّ له قابلية الاستعمال والتوجيه من قبل عصابات الفاشية المتحالفة أساساً مع الشركات الرأسمالية المسلّحة والمتوحشة التي تعمل على احتلال مساحات خالية داخل أراضي الدول التي لم يعد لها من وجود فعليّ جراء الحروب الإمبريالية التي تُشنّ عليها. لا ينسى باديو التصويب على ظاهرة «داعش»، صنيعة الاستخبارات الأميركية، مُتسائلاً بسخرية كيف أمكن لهذه العصابات أن تبيع قوافل من الشاحنات المُحمّلة بالبنزين عبر الأراضي التركية؟ يُذكّر المفكرين الذين يتلبّسهم الخوف من الإسلام بأنّ الديانة الكاثوليكية التصقت أيضاً بفاشية فرانكو وعصاباته في إسبانيا. فلا علاقة للأديان بكل هذا الذي يجري فوق مسرح الجغرافيا الملتهب، حيث تعمل العصابات المسلّحة برأيه على اجتياح مناطق منكوبة وانتزاعها من براثن الرأسمالية المعولمة، طمعاً بنظام مادي أكثر ربحاً ومردوديّة لها، يتم إلباسه لبوس الدين وصبغه بملامح روحانية في سبيل غواية الثوار الشباب وتشجيعهم على الانضمام إليها، إما خوفاً من العقاب أو طمعاً بالمال والنفوذ. إنّ هؤلاء الشباب الذين ينجرّون إلى هذا النوع من العمل الفاشي و«المافيوزوي» إنّما يحتشدون برأي باديو حول «خليط من الرشوة والبطولية القربانية والإجرامية»، ولا يجوز من ثمّ النظر إلى دوافعهم المريضة تلك وكأنّها بفعل قناعاتهم الإسلامية. كل تحليل آخر إنّما يُنحّي العقل جانباً ويُعمي الفكر الحرّ والشريف عن الحقيقة. والخلاصة التي يُصرّح بها باديو بحزم في وجه آلة حرب دعائية كبرى بوجه الإسلام، أنّ «الفاشية هي ما تجري أسلمتها، وليس الإسلام هو ما يُضفي الطابع الفاشي». وإذا كانت البربرية هي عملية قتل الناس من دون ذنب، فإنّ الغربيين المتغطرسين الذين يظنّون أنّهم يُمثلون الحضارة في قبالة شعوب متوحّشة ومجرمة، هم في نظره «برابرة كل يوم». ويسأل باديو أولئك الذين تهتز ضمائرهم عند رؤية منظر الدم في شوارعهم الأنيقة: هل في قتل ألف فلسطيني في غزة المحاصرة، ومن ضمنهم أربعمئة وخمسون طفلاً، شيء من التحضّر؟ هل الطائرات بلا طيّار التي تمزّق الأجساد وتطحن العظام وتحرق الناس والبيوت، هي أكثر تحضّراً من شبابٍ مفتون بالجريمة، يطلقون النار عشوائياً على المارة قبل أن ينتحروا؟
يصف باديو موقفه تجاه ظاهرة الإرهاب أو «الفاشية المعاصرة» بالمنهجي. فلو جعلنا الإسلام كدين نقطة انطلاق تحليلنا، فإننا سنقع حتماً في خطاطة «صراعات الحضارات» الفارغة والرجعية في آن. ينبغي لذلك أن نُشدّد على براءة الإسلام. فالدين من حيث هو كذلك لا يخلق تلك السلوكَات التي تتّسم بالعنف العدمي وبالتعظيم العبثي للجريمة. صحيح أنّ الخطاب الإرهابي يُصاغ حالياً في إطار الإسلام، لكن يبقى هذا برأي باديو حالة شاذّة ونادرة، على الأقل ضمن الإسلام الفرنسي المحافظ في أغلبيته. بيد أنّ الحديث عن «فاشية إسلاموية» أراد لها الغرب الإمبريالي أن تبصر النور برعاية دائمة من الشركات الرأسالمية الكبرى العابرة للقارات، لا يعني أنّ باديو ينظر إلى الإسلام السياسي المعاصر بالعين نفسها. الحديث عن «القاعدة» مثلاً أو «داعش» اللذين هما في اعتباره مُنتجان غربيان، ليس هو نفسه الحديث عن تنظيمات شعبية ووطنية، كحزب الله في جنوب لبنان أو حماس في قطاع غزة. يرفض باديو بقوّة أي خلط بين الحديثين، ويحْذَر دائماً من النوايا السيّئة التي تُطالعه للإيقاع به خلال المقابلات التي يُجريها. وهو لا يتردّد أبداً في الإعلان عن «سعادته الغامرة بأنّ المقاومة الشعبية المنظّمة لحزب الله قد نجحت في صدّ العدوان الإسرائيلي على لبنان في حرب تموز 2006». فما يُميّز «ظاهرة حزب الله» برأيه هو قدرته على استخدام العنف المحسوب بدقة من أجل تحقيق هدف مشروع مثل صدّ عدوان خارجي. العنف في هذه الحالة يظهر كـ«قوة حماية» تستطيع الدفاع عن حركة سياسية جديدة، تظلّ في تماسف مع حالة الدولة التقليدية التي تُملي على المجتمع شروطها. هذا التماسف يعني أن السياسة لم تعد واقعة بالضرورة تحت استقطاب الأجندة التي تضعها السلطة للتحكّم بالخيارات السياسية. فمن الطبيعيّ إذن، اعتماداً على هذا التصور الجديد للسياسة عند باديو، أن يُشكّل وجود حزب الله عقبة كأداء في وجه انجرار السلطة اللبنانية إلى التطبيع مع العدو على غرار دول عربية هرولت نحو هذا المصير الرسمي المشؤوم. كما من الطبيعي أيضاً أن تكون المقاومة في مقدمة الذين يتصدون للمشاريع الغربية الإمبريالية في لبنان والمنطقة. والدولة المقصودة هنا يفهمها باديو بالمعنى الأوسع للكلمة أي بوصفها الحكومة وأجهزة الإعلام التابعة للطبقة السياسية الرجعية، إضافة طبعاً إلى الخيارات الاقتصادية. فالمعركة بهذا المعنى لا تتجزّأ. القرار الاقتصادي يعادل بقوّته قرار الحرب والدفاع عن النفس. وبالتالي أي انتصار حقيقي لا يمكن أن يتحقق في طرف واحد من دون الطرف الآخر. ما يمرّ به لبنان اليوم خير دليل على ذلك. يقر باديو بانتصار المقاومة في لبنان وتكبيد جيش العدو الإسرائيلي هزيمة نكراء. وهو لا يفهم كيف تصل الغطرسة الإمبريالية التي تُمثّلها إسرائيل في المنطقة، إلى أن تعطي لنفسها الحق في تدمير بلد بأكمله لأنّ جندياً واحداً من جنودها المحتلّين قد أوقع به في الأسر. وبرغم أنّ حزب الله لم يكن يريد هذه الحرب فإنّه استطاع، برأي باديو، أن يُمارس نوعاً من المقاومة الفعّالة والمتّسقة مع هدف واضح: ردّ العدوان وإفشاله. وقد نجح في ذلك نجاحاً باهراً. بيد أن التنظيم السياسي لحزب الله يطرح أسئلة مهمّة وحساسة لا يتغاضى باديو عنها في تحليلاته. فحزب الله ينافس في رأيه بما يملكه من شعبية كاسحة على الأقل بين طائفته الشيعية ومن نفوذ على الأرض يتمثّل بالسلاح وبالإمكانات المادية الكبيرة، سلطة الدولة، ومع ذلك فهو لا يُنفّذ أجندة انقلابية عليها أو يقوم بتمرّد مسلح ينهي وجودها. بل إنّه يحافظ على حالة من «شبه الانشقاق» عنها أو التحالف معها في إطار صراعي تظلّ أسبابه قائمة أبداً. فلا يفوت باديو هنا أن يُذكّر بأنّ قادة حزب الله وجمهوره هم في الأصل أبناء الطبقات الفقيرة والمحرومة الذين سكنوا ضواحي المدن الكبيرة وأحياء العزل فيها (الغيتوات) قبل أن يُصبحوا مُنظّمين سياسياً، ومنضوين تحت أحزاب فاعلة وقوية. وعلى الرغم من الاتجاه الديني الشيعي الغيبي الذي يُسيطر على هذا التنظيم وشعاراته، فإنّ باديو يرى في تجربته الكبيرة، مادّة دسمة للدراسة والفحص المتأنّي، عازياً سيطرة الدين عليه، إلى كون هذا الأخير يلعب اليوم دور البديل عن شيء مفقود، شيء كان ينبغي له أن يتّسم بالكونيّة، وأن يقتلع نفسه من الخصوصية الدينية ومحدوديّتها. فهناك من ناحية انتصار موضوعي للقوى الرأسمالية المُسيطرة، ومن ناحية أخرى، انتصار لذاتية ارتكاسيّة في كلّ صورها، طمست تماماً فكرة أن يكون التغيير الحقيقي مُمكناً. فـ«الهزيمة الثورية» التي بلغت شأواً لم نعد قادرين معه على تمثّل المشاكل المطروحة على الإنسانية على نحو مُعولم، هي المسؤولة برأي باديو على خروج ظاهرة الفاشية من كهوفها المظلمة. غياب سياسة التحرر والعجز الحالي عن خلق ابتكار فعل سياسي جديد، هو ما خلق إمكانية الفاشية وعقلية العصابات و«الهلوسة الدينية». يصوّب باديو على «مسيحانيّة شيعية» لا يشك في قوّتها، بعد أن تحوّل الزعماء الروحانيون للطائفة الذين هم في نظره بمنزلة الفلاسفة والرجال الحكماء، إلى قادة وناشطين سياسيين. لكنّ القوة تضع حدودها بنفسها. لذلك يدعو باديو إلى التمعّن في دراسة تجربة حزب الله السياسية والعسكرية، مع الأخذ في الاعتبار حدودها الضمنية. إذ أنّ هذا النوع من التنظيمات يُمثّل بالنسبة إليه ممراً إلزامياً، وحيويّاً في آن، للوقوف على محدودية تفكيرنا في مسألتَي استخدامنا لقوة السلب أو الرفض من جهة، ومن جهة أخرى، لتحديد رؤيتنا النقدية للتنظيمات السياسية المطلوبة اليوم في مواجهة البُنية الرأسمالية المسيطرة. وفي هذا الإطار، يطرح باديو السؤال الآتي على قادة حزب الله: كيف ستكون علاقتكم بالدولة مستقبلاً؟ ويهمس في أذن نفسه: لا نعرف حتّى الآن ما هي القرارات التي سيتّخذونها!
إقرأ المزيد في: مقالات مختارة
20/11/2024
في بيتنا من يتبنّى فهم العدو للقرار 1701!
19/11/2024
محمد عفيف القامة الشامخة في الساحة الإعلامية
19/11/2024
شهادة رجل شجاع
13/11/2024