منوعات ومجتمع
"والنجم اذا هوى" لنسرين ادريس: المقاوم كإنسان
حسن نعيم
اذا كنا قد اعتدنا في الكتابات الأدبية النسوية على قراءة أدب يصور الجوانب الحسية العاطفية لدى المرأة، ويدغدغ بنعومة مفرطة حشرية قارئ يفتش في الكهوف المظلمة عن دواخل المرأة وهواجسها، فإن نتاجات الرابطة اللبنانية الثقافية اتخذت منهجا آخر ينحاز إلى المرأة المقاومة في تجربتها الإنسانية، ويتقصى مساراتها في دروب الحياة أما لمجاهد أو اختا أو زوجة، وأما مجاهدة منخرطة فعلياً في فرع من فروع العمل المقاوم أو نشاط من أنشطته المتنوعة.
تفتح الرابطة اللبنانية الثقافية عهد أدب جديد في موضوعاته وطريقة تناوله بفكرته وموضوعاته وتعبيره وصوره.
في هذا السياق تأتي رواية نسرين ادريس لتكتب قصة الزميلة ولاء حمود أما لشهيد وأخت لشهيدين أحدهما نجح لتوه في امتحانات البكالوريا الرسمية وتسجل في كلية الطب في الجامعة الأمريكية في بيروت، وامرأة كادحة في الحياة منذ طفولتها ومعاناتها في طريق العلم، وهي اذا تتقصى سيرتها الذاتية ابتداء من حي الليلكي في الضاحية الجنوبية، وذكريات المحاور وليالي الملاجىء ونهارات الحواجز وحكايات القنص، ومرورا بقرية حجولا مهجرين إليها هربا من جحيم القصف، وعودة إلى الضاحية الجنوبية وما رافق هذه العودة من حذر الخطف على الحواجز والذبح على الهوية.
بأظافرها تسلقت بطلة القصة صخر المعاناة، حتى تعلمت بشق الأنفس بسبب ضعف نظرها الذي لم تكن تدري به لا هي ولا أهلها ولا حتى معلميها. وعجنت العجين مع أمها وباعت الخبز، ورافقت أخاها الجريح إلى دمشق في رحلته العلاجية، وعملت هناك ليلا في المطابع كي تغطي نفقات علاجه، وكبرت وتزوجت من أسير محرر، لتبدأ محطة أخرى من محطات الكدح في السلك التعليمي وهموم الكتابة وإنجاب الأطفال وتربيتهم وتعليمهم، لتفاجئ بابنها الشاب قد جاء ليستأذنها في الذهاب الى سوريا لمحاربة التكفيريين. هنا يأتي جوابها من غير سابق تفكير: لماذا إلى سوريا؟ ليفجر كل ذلك الخزين من الألم. لماذا إلى سوريا؟ ألا يكفي زوج أسير محرر.. وأخوين شهداء..؟ ألا يكفي كل هذا الألم؟
ولاء تتحدث ونسرين تكتب بأداء المتكلم، وعندما تتحدث ولاء فإن الأحاديث تنبثق من أعماقها، وتسري في دمها وعروقها ونسرين تنتقي ما تريد وتصيغه بذوقها وخصائص تفكيرها وتعبيرها عاكسة في مرآتها الروائية الفكر والشعور عند الكاتبة والمكتوب عنها متعمقة في الجانب النفسي المرافق لكل حدث من الأحداث، من استشهاد أخيها زهير إلى استشهاد أخيها الثاني أحمد في مواجهات المحاور ضد الميليشيات الانعزالية، إلى استشهاد أبنها حسين في حرب الدفاع المقدس.
يلاحق قلم إدريس الشخصية الرئيسية في أدق التفاصيل اليومية ومعاناتها مع الفقر "بدأت أمي تعلمنا كيف نبني المشاحر. كان بناؤها صعبا ودقيقا، ويحتاج إلى السهر، وكنا نعمل على صوت حدودها الحزين، ودموعها التي لم تنضب، وفي كل مرة كانت تؤلف بيت شعر بالعامية لتحدو به لأحمد تارة ولزهير تارة أخرى، ثم تستذكر والدي وتبدأ بالحديث معه…اشتغلنا في المشاحر وبعنا الفحم. كنت أجمع الطيون وأضع الحطب بالدقة التي تطلبها أمي، ونشعلها بإتقان، فاستطعنا تأمين قوتنا."
عثرت ادريس على لغتها في طريقة سرد بطلتها الروائية، وهو سرد خصب ينهل من ذاكرة مفعمة بالاحداث وتداعياتها النفسية، وهي في الحين نفسه ذاكرة طليقة تصل الماضي بالحاضر، حرة في استدعاء الذكريات واستحضار الأحداث التي تنبني عليها عمارتها الروائية. تغزر صور الأعمال العسكرية في سرديات نسرين إدريس: "ركض صديقك وطلب اليك أن يرمي صاروخاً، فسمحت له، وعندما رجع اليك صفقته بمحبة على رقبته وضحكت له: "سعيد بذلك؟ أهذه هي المرة الأولى لك مع "التاو"... ثم تقدمت لترمي الصاروخ الثالث".
تأتي هذه الصور لترسم تجربة إنسانية مختلفة وما يصاحبها من رؤى مكثفة وحالات شعورية حادة تؤسس فيها لقيم فكرية مغايرة، عبر لغة هادئة لا صخب فيها ولا تقعر.
لقد تمكنت نسرين ادريس من القبض على لحظات الأمومة الهاربة، ولم تمر تلك اللحظات دون أن تنتبه إليها الكاتبة وهي الأجمل في علاقة الام بابنها الشهيد: "اسمح لي يا حسين أن أوكد لك يا بن قلبي. أن عشقك لهذا القنديل الوهاج، هذا السيد، فطرة كما التوحيد في روحك، أتذكر لما كنت في الصف الثالث وكتبت فقرة إنشائية عن الأم ختمتها بكلام له، فعاتبتك المعلمة ضاحكة ولاطفتك لجهلك بصاحب القول الحقيقي، فأقسمت لها أنك سمعته مباشرة من السيد على التلفاز.. كم ضحكنا لما أخبرتنا طرفتك العفوية".
وحين تحين ساعة الوداع تسأل الأم ملتاعة ابنها المقاتل: لماذا إلى سوريا؟
تسأل رغم معرفتها الجواب أكثر ممن تسأله، لكنه شعور الام الذي يستعصي على المنطق في الحالات الشعورية الخارجة عن السيطرة. تستقبل الأم ابنها شهيدا وتشييعه مع المشيعين، وتعود لتفتخر به على صفحات الكتاب بعد أن امتصت الصدمة وعادت إلى قناعتها الراسخة أن البقاء على هذه الأرض يستلزم المزيد من الدماء، يتفجر الألم عند ولاء حمود عطاء لا ينضب كأنما بعض الناس خلقت للعطاء، كما أن البعض خلق للأخذ والاستحواذ ولو عن طريق القهر والاحتلال.
تنحاز إدريس إلى المقاومة كقيمة إنسانية، وترى إلى المقاوم كإنسان متوسلة في سبيل ذلك جمالية كتابية تبتعد عن الجانب التحريضي والشعاراتي، وتنأى عن الخطابية المنبرية، وتسعى وراء جماليات فنية متعمقة في الطبيعة الإنسانية لصناعة نماذج بطولية شجاعة ومضحية باذلة الروح في سبيل قضيتها، من دون أن تتخلى عن واقعيتها واهتماماتها وهواجسها وأحلامها البشرية البسيطة والعادية واليومية كالآخرين. ولم تقدم صورة نمطية مقولبة، وانما قدمت شخصية البطل باعتباره إنسانا فيه شيء من الشجاعة والخوف والرغبة، وفيه شيء من القوة والضعف، وليس سوبرمان بأي حال من الأحوال.
تعاملت نسرين ادريس مع المقاوم باعتباره قيمة إنسانية، وكتبته كما ينبغي له أن يكتب، لا كما نحب له أن يكون بطلا اسطوريا خارقا يتصدى لجيش أو فرقة بمفرده، وهو انسان عادي يفكر في حاجاته الإنسانية كالآخرين، ولا يتنكر لغرائزه وهواجسه الإنسانية، ولا يعد ذلك انتقاصا من بطولته.
ينتمي كتاب نسرين إدريس "..والنجم اذا هوى" إلى أدب المقاومة فكرة وأسلوبا، ويتغذى من منابع تجربة هذه المقاومة في مقارعة الإحتلال الإسرائيلي، مقدما للقارئ العربي مادة أدبية تشكل تلوينا جديداً من تلوينات الأنواع الأدبية التي تثري المكتبة العربية بنتاجها البكر، فقد تبين أن أدب المقاومة بموضوعاته وقضاياه يشكل ثراء في التجربة الكتابية العربية، وربما تبوأ هذا الأدب موقع الصدارة في المشهد الثقافي العربي لو أتيحت لها الماكينة الإعلامية المناسبة وشارك فيها المبدعون العرب كل من زواية رؤيته لهذا الصراع الذي يمثل قضية العرب الاولى.
الفنونالروايةالفن الجهاديجمعية الرابطة اللبنانية الثقافيةسلسلة المرأة المقاومة
إقرأ المزيد في: منوعات ومجتمع
16/09/2024
مسيّرة كرويّة لدراسة الظواهر الجوية
16/09/2024
كيفية الوقاية من الجلطة الدماغية
16/09/2024
مع بداية الخريف.. أمراض الجهاز الهضمي تتفاقم
16/09/2024
أضرار المشروبات الغازية على صحة الأطفال
05/09/2024