فلسطين
القائد الشهيد محمد الضيف في سطور
زفّت كتائب الشهيد عز الدين القسام ثلة من المجاهدين الكبار والقادة الأبطال من أعضاء المجلس العسكري العام على رأسهم قائد هيئة الأركان الشهيد محمد الضيف، بعد رحلة جهاد ومقاومة استمرت عدة عقود، حيث رحل القائد الضيف شهيدًا في معركة "طوفان الأقصى" التي قادها وخطّط لها مع إخوانه في المجلس العسكري، تاركًا تاريخًا حافلًا وبصمات حاضرة في المشهد العسكري الفلسطيني.
وفي هذا الصدد، ارتبط اسم محمد الضيف، منذ التسعينيات بالمقاومة الفلسطينية، فقد كان أحد أبناء الجيل الأول المؤسس من القساميين، وتحول إلى رمز للبطولة والتخفي، ورغم أنه لم يكن يُرى إلاّ أن بصماته كانت حاضرة بقوة في المشهد العسكري الفلسطيني. كما يعتبر الضيف أحد الشخصيات المقاومة الأكثر تعقيدًا في نظر الاحتلال ومؤسساته العسكرية والاستخباراتية، والتي تطارده منذ 33 عامًا.
كذلك، قاد الضيف كتائب الشهيد عز الدين القسام، منذ أكثر من ثلاثة عقود، متجاوزًا محاولات الاغتيال المتكرّرة التي جعلته أشبه بالشبح الذي يؤرق الاحتلال "الإسرائيلي"، ويعيد صياغة معادلات الصراع في كل مواجهة، وصولًا إلى معركة "طوفان الأقصى" التي أذلت الاحتلال وأثبتت فشله استراتيجيًّا رغم البطش والإبادة التي ارتكبها بعد يوم العبور المجيد الذي سقطت فيه فرقة غزة في جيش الاحتلال على أيدي أبطال القسام.
فمن هو الشهيد محمد الضيف؟
النشأة وبداية الطريق
وُلد محمد دياب إبراهيم المصري، المعروف بـ"محمد الضيف" عام 1965، ضمن عائلة فلسطينية تعود جذورها لقرية كوكبا والتي تعرّضت للتهجير من داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة 1984، ونشأ وترعرع في مخيم خان يونس للاجئين جنوب قطاع غزة، حتى يستقر به المقام في مخيم خان يونس للاجئين جنوب قطاع غزة.
تتكون أسرته من خمسة عشر فردًا، إذ كان والده يعمل في صناعة الوسائد وتنجيد الفرش. تلقى تعليمه الابتدائي والإعدادي والثانوي في مدارس مخيم خان يونس، كما بقية اللاجئين الفلسطينيين الذين هُجروا من ديارهم وأرضهم وممتلكاتهم.
وشكلت مساجد منطقته مرحلة انطلاقته بالعمل الإسلامي منذ صباه، إذ نشأ في بيئة المقاومة، وتأثر منذ صغره بواقع الاحتلال وظروف اللجوء القاسية، وهو ما دفعه للانخراط في صفوف الحركة الإسلامية خلال دراسته في الجامعة الإسلامية بغزة، كما درس العلوم وحصل على شهادة البكالوريوس في تخصص الأحياء من الجامعة الإسلامية في غزة، والذي كان فيها من قادة العمل الطلابي ونشطاء الكتلة الإسلامية (الإطار الطلابي لحماس).
الانضمام لحماس
وفي هذا السياق، انضم الشهيد محمد الضيف إلى حركة "حماس" منذ نعومة أظفاره وكان عنصرًا نشيطًا في صفوف العمل الاجتماعي، حتى الإنطلاقة الرسمية لحركة حماس بالتزامن مع الانتفاضة الفلسطينية الأولى عام 1987، والذي كان الضيف من كوادرها الأوائل. كما اعتُقل في إطار الضربة الأولى التي وجهتها قوات الاحتلال للحركة في صيف عام 1989 بتهمة الانضمام إلى الجناح العسكري للحركة الذي كان الشيخ صلاح شحادة (استُشهد في صيف 2002) قد أسسه آنذاك، وكان يحمل اسم "حماس المجاهدين" قبل أن يطلق عليه اسم "كتائب القسام"، وأمضى عامًا ونصف العام في السجن قبل تحرّره عام 1991.
كذلك، تدرج الضيف في العمل الأمني وملاحقة العملاء ثم في الجهاز العسكري لحركة حماس. وقد أصبح مطلوبًا بعد مشاركته في تنفيذ العديد من العمليات الفدائية والاشتباك مع قوات الاحتلال للاحتلال، ورفض تسليم نفسه لتبدأ رحلة أطول مطاردة ربما في التاريخ في مساحة جغرافية صغيرة وضيقة، إلا أنه استطاع خلال هذه الفترة، ومن خلال إتقانه للتخفي والبقاء في مكان واحد لفترة طويلة، أن لا يقع في قبضة قوات الاحتلال حيًّا أو ميتًا.
وبرز دور الضيف بعد اغتيال عماد عقل الذي برز اسمه في سلسلة عمليات فدائية في تشرين الثاني (نوفمبر) من عام 1993، حيث أوكلت إليه قيادة "كتائب القسام"، عمل على قيادة وتنسيق مجموعات كتائب القسام بين الضفة الغربية وقطاع غزة بين عامي 1993 - 1994. وتمكن الضيف خلال هذه الفترة من التخطيط وتنفيذ عدة عمليات نوعية، وكذلك تمكن من الوصول إلى الضفة الغربية المحتلة وتشكيل العديد من الخلايا الفدائية هناك، والمشاركة في تنفيذ عدة عمليات فدائية في مدينة الخليل والعودة إلى قطاع غزة.
كما كان له الدور الكبير في التخطيط لعملية خطف الجندي الصهيوني نخشون فاكسمان عام 1994 في بلدة بير نبالا قرب القدس والذي قتل وخاطفيه بعد كشف مكانهم، وكان قد ألقى بيان العملية بنفسه، وظهر الضيف وهو يحمل بندقية وبطاقة هوية فاكسمان التي هربت من الضفة الغربية إلى قطاع غزة، حيث كان ملثمًا بالكوفية الحمراء.
ومع اشتداد الخناق على المطلوبين للاحتلال في قطاع غزة، رفض الضيف طلبًا بمغادرة قطاع غزة خشية اعتقاله أو استشهاده، لا سيما في ظل سياسة قصف المنازل التي يعتقد أن بها أي من المطلوبين، وقال كلمة مشهورة آنذاك: "نحن خلقنا لمقاومة الاحتلال إما أن ننتصر أو نستشهد"، وذلك على الرغم من موافقة عدد من زملائه على الخروج خارج القطاع.
كما استطاع أن يؤمن وصول المهندس يحيى عياش، أحد خبراء المتفجرات في الضفة الغربية إلى قطاع غزة بعد تضييق الخناق عليه في الضفة الغربية، وللاستفادة من خبرته في صناعة المتفجرات، كما وقف الضيف وراء عمليات الثأر لعياش، بعد أن اغتيل بواسطة هاتف مفخخ مطلع عام 1996، من خلال إرسال حسن سلامة إلى الضفة الغربية للإشراف عليها، حيث قتل في هذه العمليات الفدائية حوالى ستين صهيونيًّا.
توارى الضيف كليًا عن الأنظار بعد تنفيذ عمليات الثأر لعياش في ربيع عام 1996، وشنت السلطة الفلسطينية عملية ملاحقة له في إطار الضربة الكبيرة التي وجهتها لحركة "حماس"، واعتقلت المئات من قادتها وعناصرها آنذاك. واستطاعت السلطة بعد ذلك اعتقال الضيف عام 2000 بحجة أنها تريد حمايته من القصف الصهيوني، وسمحت السلطة آنذاك لمحققين من جهاز المخابرات الأميركي المعروف باسم "السي آي إيه" من التحقيق معه. وتمكن الضيف فيما بعد من انتزاع حريته من سجن الأمن الوقائي بغزة ليعود لتشكيل خلايا القسام من جديد بعد مصادرة سلاحهم وذخائرهم، وبدأ بالاستعداد لتنفيذ المزيد من العمليات حتى اندلعت انتفاضة الأقصى في أيلول من عام 2000.
اغتيالات فاشلة وإرادة لا تنكسر
وبعد عام من اندلاع الانتفاضة تعرض الضيف لعملية الاغتيال الأولى، حيث كان برفقة عدنان الغول (استشهد في 22 تشرين أول/أكتوبر 2004) خبير المتفجرات في كتائب القسام ونجله بلال؛ بعد أن أطلقت عليهم طائرة صهيونية صاروخًا في بلدة "جحر الديك"، وقد نجيا من الاغتيال بأعجوبة بعد استشهاد بلال في القصف ليغطي على والده ورفيق دربه.
ورغم أن "إسرائيل" نفذت العديد من محاولات اغتيال على الأقل ضد محمد الضيف، إلا أنه نجا منها جميعًا، وإن كان بعضها قد أوقع إصابات بالغة في جسده. كانت أخطر هذه المحاولات في عام 2014، خلال العدوان "الإسرائيلي" على غزة، حيث استهدفت طائرات الاحتلال منزله وقتلت زوجته وابنه، لكن الضيف خرج من تحت الركام ليواصل قيادة المعركة.
قيادة الجهاز العسكري
وبعد استشهاد شحادة في صيف عام 2002 أعادت قيادة الحركة المسؤولية للضيف لقيادة الجهاز العسكري. وفي السادس والعشرين من أيلول من عام 2002، نجا الضيف من عملية اغتيال ثانية أصيب بها بجروح بعد قصف السيارة التي كانت تقله في حي الشيخ؛ حيث استشهد مرافقاه وأصيب بجراح خطيرة للغاية. كما تحدثت مصادر فلسطينية عن تعرض الضيف لمحاولة اغتيال ثالثة في قصف أحد المنازل في صيف 2006 خلال العملية العسكرية "الإسرائيلية" بعد أسر الجندي "الإسرائيلي" جلعاد شاليط، إذ قيل إنه أصيب بجراح خطيرة، دون أن يؤكد ذلك من كتائب القسام.
منذ توليه القيادة، أدار الضيف العديد من العمليات الفدائية ضد الاحتلال "الإسرائيلي"، وكان من أبرز المهندسين لتطوير القدرات العسكرية لحماس، بما في ذلك تصنيع الصواريخ المحلية وإنشاء شبكة الأنفاق العسكرية التي تحولت إلى عامل حاسم في معارك غزة. كما قاد عمليات كتائب القسام في قطاع غزة حتى تحريره من المستوطنات عام 2005، وحوّل القسام من مجموعات وخلايا إلى جيش شعبي.
الوفاء للمسجد الأقصى ومعركة سيف القدس
وفي شهر أيار/مايو عام 2021 تصاعدت حدة الاعتداءات الاستيطانية على المسجد الأقصى المبارك، وحاولت سلطات الاحتلال تهجير سكان حي الشيخ جراح، وفي لحظة محاولة مجموعات المستوطنين إطلاق مسيرة الأعلام قرب باب العامود، قصفت كتائب القسام مدينة القدس المحتلة برشقة صاروخية ضخمة بأمرٍ من قائد الأركان محمد الضيف، فيما استمرت المعركة لأيام فرضت خلالها المقاومة الفلسطينية فصلًا جديدًا من فصول المواجهة مع الاحتلال. وقد برز اسم محمد الضيف بعد المعركة كقائدًا فعليًّا لها، وارتبط اسمه بها بشكلٍ وثيق، ليصبح الملهم لتشكيلات المقاومة الفلسطينية وجمهورها في الضفة الغربية.
عدو "إسرائيل" الأول.. قائد في الظل، حاضر في المعركة
لا يظهر محمد الضيف في الإعلام، ولم يُعرف له سوى تسجيلات صوتية معدودة، لكنه حاضر بقوة في كل مواجهة مع الاحتلال، حيث يُنظر إليه باعتباره العقل المدبر للتكتيكات العسكرية التي غيرت طبيعة المواجهة بين المقاومة والاحتلال. وخلال معركة "سيف القدس" عام 2021، كان الضيف وراء استراتيجية استهداف تل أبيب بالصواريخ ردًّا على الاعتداءات "الإسرائيلية" في القدس والمسجد الأقصى، وهو ما فرض معادلة ردع جديدة وأظهر مدى تطور المقاومة الفلسطينية.
قيادة "طوفان الأقصى"
وفي السابع من تشرين الأول عام 2023، أطل القائد الضيف ليعلن انطلاق معركة "طوفان الأقصى" التي أشرف عليها وحضر في ميدانها حتى ارتقى شهيدًا. إنّ من أبرز أسباب الطوفان هو سلوك الاحتلال الصهيوني، ومخططاته القائمة على حسم الصراع، وفرض السيادة على القدس بمقدساتها، تمهيدًا للتقسيم المكاني والزماني، وبناء الهيكل المزعوم.
وعلى مدار عقود وضعت "إسرائيل" محمد الضيف على رأس قائمة المطلوبين، وعدّته أخطر شخصية فلسطينية تهدد أمنها. ورغم كل الجهود الاستخباراتية، لم يتمكن الاحتلال من الوصول إليه، ما جعله يتحول إلى أسطورة وكابوس يطارد الاحتلال، حتى رحل كما يحب شهيدًا في ميدان أعظم معركة شارك في التخطيط لها وقيادتها، وهي المعركة التي أثبتت هشاشة كيان الاحتلال وقابليته للهزيمة.
وعلى مدار شهور المعركة نجحت كتائب الشهيد عز الدين القسام في الاستمرار بعملياتها الناجحة والتي أوقعت الخسائر في صفوف جيش الاحتلال، ثم الاحتفاظ بأسرى الاحتلال الذين اعتقلتهم يوم السابع من تشرين الأول 2023، لتعلن أخيرًا بعد انتهاء المعركة عن استشهاد قائدها العام.
يرحل القائد محمد الضيف شهيدًا ويبقى تاريخه الحافل وبصماته حاضرة يستلهم منها الأحرار درب الحرية، وسط إجماع فلسطيني على أنه أحد رموز الصمود الذين صنعوا معادلات جديدة في المواجهة مع الاحتلال، ويقينهم قائد يستشهد يخلفه ألف قائد.
إقرأ المزيد في: فلسطين
30/01/2025